يأتي رمضان هذا العام في فرنسا بطعم الحجر الصحي والخوف من عدوى فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي اجتاح البلاد وتسبب في شلل تام لكل مناحي الحياة فيها، ولا شك ألقت تلك الجائحة بظلالها على عادات وتقاليد مسلمي هذا البلد خلال الشهر الكريم، فاندثرت الطقوس والمظاهر الرمضانية من إقامة صلاة التراويح في المساجد وإعداد موائد الإفطار الجماعية وتبادل الزيارات بين الأهل والأحبة، ولكن الهيئات الإسلامية والمراكز والجمعيات الخيرية تبحث إمكانية توفير بدائل لتلك المظاهر ولو بالاستفادة من التقدم التقني ومواقع التواصل الاجتماعي، بيد أن هناك تحديات أخرى تواجه مسلمي هذا البلد تتعلق بدفن موتاهم من متوفي الوباء اللعين.
ووفقا لموقع إذاعة "مونت كارلو الدولية"، فقد استبق المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، شهر الصيام ببيان عممه وقدم فيه العديد من النصائح والتوصيات كي يقضي مسلمو البلاد شهرهم هذا دون التمسك بالطقوس التي اعتادوا عليها طيلة عقود، وذلك تجنبا لتعريض أنفسهم وغيرهم للمخاطر. كما طالب المجلس السلطات الفرنسية بضرورة توفير ما يلزم كي يتمكن المسلمون من دفن موتاهم خلال جائحة كورونا في ظروف جيدة.
فمسلمو فرنسا البالغ عددهم ما بين خمسة وتسعة ملايين شخص، مدعوون من جهة للصيام، بالنسبة لمن يحرصون على التمسك بأداء هذه الفريضة، وإلى احترام التعاليم الخاصة بالإبقاء على مسافة التباعد بينهم وعدم ارتياد الأماكن العامة بما فيها المساجد، وتجنب مختلف التجمعات بسبب وباء كورونا من جهة أخرى. والملاحظ أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان قد أخْطر ممثلي الطوائف بأن المهرجانات التي يشهدها هذا الشهر مثل عيد الفصح اليهودي، وعيد الفصح عند المسيحيين، وبداية رمضان، يجب أن تتم دون تجمع.
رمضان في فرنسا (أرشيفية)
وفيما يتعلق بالوضع الوبائي في فرنسا، فقد ارتفع عدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا إلى 199 ألف و133 حتى الساعة السابعة والنصف صباح اليوم السبت بتوقيت باريس، طبقا لما ذكرته بيانات جمعتها جامعة "جونز هوبكنز" ووكالة "بلومبرج" للأنباء، فيما بلغ عدد حالات الوفاة في فرنسا 24628، بينما وصل عدد المتعافين من مرض كوفيد-19، الناجم عن فيروس كورونا، إلى 51124.
ولعل الإجراءات المفروضة والتي أدت إلى إغلاق المساجد هي التي سيكون لها تأثير أكبر على الجو العام المحيط بشهر الصيام، إذ درج الكثير من المسلمين على أداء الصلوات وخاصة العشاء والتراويح جماعة في المساجد، لكن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية دعا المسلمين هذا العام إلى الاكتفاء بالصلاة فرادى أو جماعة داخل الأسرة الواحدة. وأكد أن الصيام هو ممارسة فردية وليست جماعية، وبالتالي فإنه لا يتأثر بشكل مباشر بالإجراءات المفروضة بسبب فيروس كورونا المستجد. كما اعتبر المجلس أن لهذه الظرفية ميزة خاصة، إذ من شأنها أن تمكن الآباء والأمهات من البقاء مع أبنائهم والاستمتاع بحياتهم الروحية في جو أسري، ونقل القيم الدينية في عمقها بين الأجيال في جو حميمي وبحس من المسؤولية تجاه تجنب المساهمة في نقل العدوى بأي شكل من الأشكال.
مسجد في فرنسا
وسيعمد المجلس إلى الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي لبث دروس ومداخلات تجيب على أسئلة المهتمين وتلاوة القرآن والدعاء وغير ذلك مما يمكنه أن يغني عن التجمع في المساجد مع توفير جو روحاني خلال أيام الصيام.
أما في ما يتعلق بما اعتادت المساجد والجمعيات على تنظيمه من تقديم وجبات الإفطار للمحتاجين من مختلف الأديان، وتنظيم جلسات إفطار جماعية، فلن يكون توزيعها ممكنا هذه السنة، ولو على الأقل بشكلها المعتاد. وقد أكد المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية أنه بصدد دراسة إمكانية توفير بدائل لتلك الوجبات ولجلسات الإفطار الجماعية وذلك بتوافق مع السلطات المحلية والجمعيات العاملة في المجال الخيري.
وبالطبع، وفي ظل استمرار الحجر الصحي المفروض إلى غاية الحادي عشر من الشهر المقبل، سيكون على الأسر المسلمة تجنب زيارة الأهل والتجمع معهم. فهذا الشهر يعد فرصة لتطهير الذات وليس للبحث عن العدوى ونشرها بين الناس.
تحدي دفن موتى كورونا
أمام إغلاق فرنسا الحدود والمطارات والموانئ، تواجه العائلات التي توفي أحد أفرادها في زمن الجائحة، بإشكال نقله إلى بلده الأصلي لدفنه هناك، مقابل عدم توفر مقابر للمسلمين في العديد من المدن الفرنسية، وقلة مربعات دفن المسلمين في المقابر الموجودة. كما قلل التزايد المكثف في أعداد المتوفين وخاصة بسبب كوفيد 19، من فرص إيجاد مكان في مقابر مخصصة للموتى المسلمين علما أن هذا الخيار لا يشكل بالنسبة إلى الكثيرين سوى أمر واقع مفروض على الأسر المسلمة بسبب عدم تمكنها من نقل جثت موتاها إلى بلدانهم الأصلية.
وأمام تفاقم الوضع، دعا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، السلطات إلى إتاحة الأماكن المخصصة لدفن المسلمين المتوفين جراء وباء فيروس كورونا المستجد، مؤكدا أن عدد ضحايا وباء الفيروس آخذ في الارتفاع، مما يجعل الكثير من الأسر تواجه آلام الحداد وعدم إمكانية دفن موتاها وفقا لطقوسها الخاصة.
كما كان المجلس قد رفع نهاية شهر مارس 2020، طلبا رسميا إلى رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، من أجل إحداث فضاءات جديدة للدفن. وأكد المجلس، الذي سبق له تنبيه كل من رئيس الوزراء إدوارد فيليب، ووزير الداخلية كريستوف كاستانير، ورئيس مجلس الشيوخ جيرارد لارشي، ورئيس جمعية رؤساء بلديات فرنسا فرانسوا باروان، حيال "ازدياد خطورة الوضع". وهو مطلب يتفق عليه ممثلو باقي الديانات في فرنسا، حسب تأكيد المجلس.
وبالنظر إلى دور البلديات في إيجاد الحلول للمشاكل الطارئة اعتمادا على سياسة القرب، دعا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية رؤساء بلديات فرنسا إلى تحمل مسؤولياتهم إزاء معاناة الأسر التي فقدت عزيزا وإزاء آلامها. وتجد هذه الأسر نفسها وسط صعوبات جمة تعترض دفن موتاها.