اعلان

منهج البحث في العلوم الشرعية

منهج البحث في العلوم الشرعية
منهج البحث في العلوم الشرعية

منهج البحث في العلوم الشرعية هو جوهر مشكلة الأمة ، فلو استقامت عليه لاستقام لها كل شيء ، فالمنهج ضد الارتجال ، ولا يستقيم أمر بغير ترتيب ، ولا يقوم بناء بغير نسق وتركيب .

وهكذا يصير التعلم الحق ، ليس هو جمع المعارف واحتطابها ، بقدر ما هو بحث في مناهجها ، لاقتناص أسراره ، بإدراك كيفيات انبنائها ، وطرائق تركيبها .

وفرق في مقامات العلوم بين من يروي أشكالها ورسومها ومن يستنبط ويخترع أحكامها وقواعدها ، إذ العالم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات ، ولكنه الذي يعرف كيف يوظف ما في رأسه ، وما في الخزائن والمكتبات ، من أجل إضافة بعض الإضافات . ولعل من أصعب الأزمات التي تعاني منها الأمة اليوم ، هي غياب العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، أي الواضح والبين والمستقيم . إن الارتجال ، والتلقائية غير الواعية في معالجة شؤون الحياة ، دليل قاطع على غياب الممارسة المنهجية .

بيد أن الترتيبات ، وتقسيم الاحتمالات ، وسبر التعليلات للمتوقع قبل أن يقع ورسم خطط التعامل معه من أول نقطة البداية حتى النهاية ، حتى إذا حضـر

إبانه ، وصار نازلة واقعة ، كان لديك التصور الكامل لتفسيره وتعليله ، والأدوات الكافية لنقده وتوجيهه ، كل ذلك وما في معناه ، هو مقتضى العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، الذي يفترض أن يكون شاملا لكل نشاطات الحياة الإسلامية على العموم .

وبما أن البحث العلمي هو أحد أهم خصائص العقل المسلم ، فيجب أن يكون من أول ما يخضع لإعادة التشكيل المنهجي

-1-

مصارف الضروريات ، ومقدمات العزائم ، ذلك أنه : " إذا جاز الترخص في شيء فإن البحث العلمي لا ينبغي أن يكون من ذلك بحال ، لأنه بمثابة القلب من جسد الأمة ".

الفصل الأول : عملية البحث في العلوم الشرعية.

المبحث الأول : ضوابط البحث العلمي :

أصل ) البحث ( في اللغة ) طلبك الشيء في التراب : بَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثاً وابْتَحَثَهُ ( ومنه استُعمل ) البحث ( بمعنى ) أن تسأل عن شيء وتستخبر ( .

إن معنى البحث في اللغة إذن ، هو طلب أمر غائب ! فما وراء التراب لا شك يكون قد غبر عن الأنظار ، فهو متغيب ، وكذلك ما غاب عن العقل أيضا هو غابر عن التصور ، لذلك يجري البحث عن هذا أو ذاك ، للكشف عن حقيقته أو طبيعته .

أما البحث العلمي فهو : عمل منظم يهدف إلى حل مشكلة معرفية باستقراء جميع مكوناتها التي يظن أنها أساس الإشكال . إن المشكلة ليست هــي تعريف ) البحث ( بقدر ما هي في ممارسته بدءا بتصور الموضوع حتى الدخول فيه ، ولذلك فإن أول عقبة عملية ، تواجه الباحث هي مشكلة الاختبار .

1- الضابط التعبدي :

قد يستغرب الكثير وضع " التعبد " ضابطا من ضوابط البحث العلمي ، غير أننا نحن المسلمين نستغرب إقصاءه ليس من مجال البحث العلمي فحسب ، ولكن من كل أنشطة الحياة ، داخل المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام ! . لقد كان علماء هذه الأمة يبدؤون في استهلال دروسهم وأعمالهم العلمية عادة بحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل مريء ما نوى " رجاء رفع عملهم ذاك إلى مقـام التعبد . إنه إذا كان الغرب يشجع البحث العلمي في مجتمعه ، بخلق هالة كبرى

-2-

حول رجالات العلم والأدب عامـة ، فيسميهم " عظماء " فإننا نحن المسلمين لدينا وسيلة أجدى وأنفع من وسيلتهم . إن " العظمة " صورة لحدود مدارك الإنسان الغربي ، وهي مدارك مادية عاجلة دنيوية محضة ، ولذلك فلا ائتمان على الشخص في أن يرائي أو يستكبر أو يطغى بعلمه ، أو يستعمله في غير قصد شريف ، فيدمر به البشرية جمعاء كما يفعلون هم ! إن " ضابط التعبد " بالنسبة للمسلم هو صمام الأمان الذي يضمن له ولغيره الإخلاص في العمل والنصـح فيه ، لنفسه ولمجتمعه وللبشرية كلها . ومن هنا كان حرص علماء الإسلام على سلامة " المقاصد " في كل قـول وفعل ، يقول أبـو إسحـاق الشاطبي : ) المقاصد أرواح الأعمال ( .

2- الضابط الإشكالي :

وذلك أن البحث العلمي هو في حد ذاته ، طلب المجهول ، غير متحدد في ذاته ، وإن كنا نعلم بعض معالمه ، أو آثاره ، لكن حقيقته لا تُعلم بالظن الراجح ، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى بحثه . ثم لا بد من تنقيح ) الإشكال العلمي (

بتجريده من الشوائب وتحقيق أركانه ، أعني العوائق المعرفية التي يتكون منها ، وبيان الزائف منها من الصالح ، حتى يتأكد في النهاية من كون هذا الإشكال حقيقيا لا وهميا . فالحرص على قيمة البحث إنما يكون بالحرص على أهمية إشكاله العلمي . وما أصدق الدكتور أحمد بدر حين قال :

) يؤكد المشتغلون بالبحث العلمي ، أن اختيار مشكلة البحث وتحديدها ، ربما يكون أصعب من إيجاد الحلول لها ( .

3- الضابط الشمولي :

ذلك أن الباحث إذا استطاع أن يؤسس إشكاله ، فإن عليه أن يؤطره ضمن رؤية شمولية لمسيرته العلمية في الدراسة والبحث . وأعني بالضبط أن يؤسس لنفسه

-3-

مشروعا . وهذا هو الضابط الحضاري للبحث العلمي ، وهو أجدر بباحث ينتمي إلى حضارة الإسلام ، التي هي في نهاية الأمر عبارة عن مشروع رباني يُقَدَّمُ إلى الإنسانية جمعاء ! ولا شك أن أي إعادة إحياء للدور الريادي لهذه الأمة ، هو في ذات الوقت إحياء للمشروع الإسلامي المتعدد الجوانب وليس البحث العلمي إلا جانبا منه . فالناظر في واقع العلوم الإسلامية يتضح له أن هناك صروحا علمية يجب أن تقام ، ومشاريع كبرى يجب أن تُنجز ، حتى يتسنى لهذه الأمة الانطلاق على الصعيدين :

العلمي والمنهجي . فقد يبدو للباحث بعد التحقيق والتدقيق ، أن علما ما من العلوم الإسلامية غير قائم الأركان ، ولا مبني على نسق دقيق ، فيهب عمره لهذا الأمر الجليل ، ويُنذر أن يقوم بهذا البناء والتركيب ، حتى يتم له المقصود أو يهلك دونه ، وذلك بإنجاز كل بحوثه في هذا الاتجاه ، خطوة خطوة ، حتى يصل إلى نهاية المشروع أو نهاية أجله ، ولعل الله بعد ذلك ييسر لهذا البناء من يتممه .

4- ضابط الأولويات العلمية ، أو مراحل المشروع التراثي .

قبل أن تبدأ أي عمل مهما كان ذلك العمل ، لابد لك أن تسأل نفسك : بم أبدأ وبم أنتهي ؟ وهذا يتجلى بشكل طبيعي في الحياة اليومية للإنسان ، فالمسلم خاصة ، إذا استيقظ فجر يومه ، فإنه يعرف أن عليه أولا أن يستعد لصـلاة الفجر ، وأول الاستعداد هو الوضوء ، وإنما وجب الوضوء لأنه شرط في صحة الصلاة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهكذا فكل عمل له سوابق ولواحق ، ولا يمكن أن تُنجز اللواحق قبل السوابق . والإسلام نظم حياة المسلمين تنظيما ، فهو بحق " منهج حياة " ، وأي خرق للترتيب أعني لمبدأ " الأولويات " هو خرق للمنهج . وهذا أساسا ، ما يجب أن ينطبق على الميدان العلمي ، وترجمان ذلك في الدراسات الإسلامية ، أن الباحث في أي مجال من

-4-

المجالات العلمية ، يواجه تراثا ضخما ، ولا بد له من فهم هذا التراث ، فهما دقيقا حتى يتسنى له ربط قنوات الاتصال به ، مهما اختلفت أشكال هذا الاتصال وأهدافه . وهكذا ففي إطار ترتيب أولويات البحث في العلوم الشرعية يمكن أن نتحدث عن مراحل ثلاث هي :

أ- المرحلة التحقيقية :

ذلك أن العائد إلى النصوص التراثية لا بد له أن يتأكد من صحتها أولا ، سندا ومتنا ، أعني أن يتحقق من صحة النص ، المقصود للدراسة أو الاستشهاد وهذا ما يفترض أن يكون من منجزات " المرحلة التحقيقية " التي هي أولى الأولويات ، إذ لا يُعقل أن يُنجز الطالب دراسة عن شخصية من الشخصيات العلمية مثلا ، معتمدا في استخراج آرائه من كتاب له لم يتم تحقيقه بعد ! ثم يُطلق الأحكام الجازمة القاطعة عن منهج الشخص المدروس مثلا ، أو مذهبه العقدي ، أو

موقفه السياسي ، أو رأيه الفقهي … إلخ. وإذا علمت أنه قد صدر من كتاب مـا ، نسختان الأولى محققة والثانية غير محققة ، فاحرص كل الحرص على اعتماد الأولى دون الثانية .

ب- المرحلة الفهمية :

وهي ثاني مرحلة بعد التحقيق ، ويتعلق أساسا بالعلوم الناهضة ، التي استقامت قواعدها وأصولها ، ونضجت مصطلحاتها ، فصارت مجالا مناسبا لبروز العوائق والإشكاليات ، وذلك نحو علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلوم الحديث .

وهذه العلوم قد بلغت درجة من النضج والتركيب ، لم يبق معها من السهل أن نقطع " بعد قراءة نص من النصوص " بأن مقصود المؤلف هو كذا وكذا ، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالقضايا الإشكالية التي طُرحت في مجالاتها . إنه لا

-5-

مفر من القول بأن النص القديم في العلوم الإسلامية ، لا بد " من أجل إستعماله واستثماره " من أن يمر في مرحلة ثانية أساسية ، بعد مرحلة التحقيق ، وهي مرحلة الفهم ، المبنية أساسا على الدراسات التفسيرية قصد اكتشاف وتحديد مقاصد الخطاب العلمي في هذا المجال أو ذاك ، وتعتبر دراسة المصطلح في نظرنا البنية الأساس التي تصلح أن تكون أداة الفهم الأولى ، والتي عليها ينبني فهم باقي التركيب للنص التراثي .

ج- المرحلة التركيبية :

وهي المرحلة الأخيرة للنص التراثي ، ونعني بالتركيب هاهنا : الاستعمال المركب للنص ، ذلك أن الدارس له في الإطار التفسيري ، إنما يدرسه في إطاره البسيط ، ثم بعد ضبط مصطلحاته وتحديد مقاصده يصبح صالحا للاستعمال في الدراسات

التاريخية والمقارنة ، والنقدية والاستنباطية التي تُعنى ببناء النظريات والتجديد في العلم والإضافة إليه ، وهذا قصدنا بالتركيب . إن النص بعد مرحلتي التحقيق والفهم يصير أداة علمية جاهزة للاستعمال متى طُلبت ، وإنما يبقى الحساب بعد ذلك في طريقة الاستعمال !

فالأصل إذن ألا تُدرس الإشكالات التركيبة في مجال أو كتاب ما تزال الإشكالات الفهمية فيه قائمة ، أو ربما الإشكالات التحقيقية !

إن على الدارس التركيـبـبي مثلا أن يشرع في عمله ، حتى يطمئن إلى أن جميع إشكالاته التحقيقية قد سُويت ، وأن جميع إشكالاته الفهمية قد حلت ، اللهم إلا أن يكون الموضوع غير ذي إشكال تحقيقي أو فهمي . وهذا هو غالب طابع الدراسات الإسلامية المعاصرة ، أما التراث فيندُر أن يسلم مجال من ضرورة إنجاز هذه الثلاثية المذكورة : التحقيق فالفهم ثم التركيب .

-6-

5- ضابط الواقعية :

وهذا الضابط هو المسؤول " بعد اختيار الإشكال " عن عملية الإنجاز والاستنساخ ، وبدونه يكون البحث مجرد كلام عام ، يحتمل ويحتمل ، بل إننا لا نستطيع أن نطلق عليه كلمة ) بحث ( بالمعنى الدقيق للكلمة . والمقصــود " بالواقعية ": هو إمكانية الإنجاز على الوجه الأكمل في زمن معلوم . ذلك أن كثيرا مما يسمى ) بحثا ( لو اتبع في إنجازه المنهج العلمي لاستغرق عمر الباحث كله وزيادة . فقد يكون البحث مبنيا على إشكال مهم ، خادم لمشروع

حضاري كبير ، غير أنه ليس بواقعي ، لأن إنجازه بالنسبة إلى فرد واحد عمل مستحيل ، صحيح أنك تجد بحوثا واسعة جدا قد أنجزت مـن طرف فلان أو فلان ، ولكن كن على يقين أن أغلب ما يتوصل إليه فيها من نتائج ، إنما هو عبارة عن انطباعات ليس إلا .

6- الضابط المنهجي :

لاشك أن طبيعة الإشكال هي التي تحدد المنهج المتبع في الدراسة ، ولذلك فإن أي إختبار للإشكال ، هو إختبار للمنهج ، وعليه كان من أوجب الواجبات ، إستحضار الضابط المنهجي في أي عملية إختيار لمشكلة البحث لأنه مسؤول عن تحديد صلاحية الموضوع أولا للمرحلة العلمية الحاضرة ، إلى جانب ضابط الأولويات ، ولأنه مسؤول ثانيا عن تقويم عوائق الإشكال وتقديم تصور أولي عن خطة العمل ومراحل الإنجاز ، وكيفيته .

فما المنهج إذن ؟ أما في معاجم اللغة ، فالنهج والمنهج والمناهج : الطريق الواضح . ونهج الطريق ، أنهج واستنهج وضح . وكذا نهج الطريق وأنهجه : أبانه وأوضحه . ونهجه : سلكه .

أما في الاصطلاح العلمي فهو باختصار : نسق من القواعد ، والضوابط التي

-7-

تُركب البحث العلمي و تُنظمه . ويُعرف الدكتور عبد الرحمان بدوي المنهج بأنه " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة ".

إن الباحث المسلم هو أولى الناس بإنهاج عمله العلمي ، خاصة وأن المذهبية الإسلامية إنما تُقدم للناس منهاج حياة . " فالإنهاج الحضاري " هو وظيفة

الرسالة الربانية للبشرية ، وهو يتضمن فيما يتضمن ، إنهاج التفكير ، وإنهاج البحث ، وإنهاج العمل . وثمة آيات كثيرة تشير إلى هذا المعنى الكلي لرسالة الإسلام ، منها قوله تعالى " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ".

فالإسلام إذن صراط مستقيم ، ونور يمشي به المؤمن بين الناس ، إنه منهج ، ذلك أن المؤمن في الحياة يمشي سويا علـى صراط مستقيم ، مسترشدا بنور الهداية ، وعن يمينه وشماله ظلمات ، ضل بها أقوام فهم يخبطون على غير هدى .

إن المنهجية في البحث العلمي إذن ، ليست ضرورة تقنية فحسب ، ولكنها ضرورة إيمانية أيضا !.

إن عليك أن تعلم ماذا ستصنع في دراسة إشكالك المختار ، قبل أن تشرع فيها :

هل سَتُحَقِّق ؟ هل ستصف ؟ هل ستُحصي وتستقرئ ؟ أم هل ستُحلل وتُعلل ؟ أم أنك ستؤرخ ؟ أم ستصنع بعض هذا وذاك ؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة يعني : استحضار الضابط المنهجي في اختيار إشكال البحث ، ولذلك وجب على الطالب الباحث ، أن يكون عليما بمناهج البحث العلمي إلى درجة تُبلغه رتبة الإجتهاد فيها أو تكاد ! .

-8-

البحث الثاني : عملية المنهج بين العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية .

إن الحديث عن ) المناهج العلمية ( في إطار الدراسات الإسلامية ، يوقفنا أمام المشكل الحضاري للمنهجية على العموم ، ذلك أن المنهج إنما هو وليد المذهب الذي أفرزه ، والقول باستقلال المنهج استقلالا تاما ، إنما هو جهل أو افتراء .

والمناهج العلمية المتحدث عنها اليوم في الكتابات العربية المعاصرة ، وهي في أغلبها المناهج التي أنتجتها أو أعادت إنتاجها المذاهب الغربية ، ولذلك فهي تتميز

بطابعها العلماني . والغرب تقدم بشكــل كبير في ميدان ) المنهجية أو علم المنهج ( = (Méthodologie) والإضراب عن ذلك كله ، حكم على الذات بالإقامة الجبرية ، كما أن فتح الباب على مصراعيه كما يرى البعض ، تهور ناتج عن الانبهار والاستلاب الحضاريين .

ولذلك فإننا الآن في أشد الحاجة إلى موقف صلب ، موقف ينبني على مبدأين :

مبدأ التحدي والاعتزاز بما لدينا من تراث زاخر بأصول منهجية إسلامية ، بإمكانها أن تؤطر فكر المسلم المعاصر في أبحاثه و علومه كلها ، لو عمل حقا على استخراجها و تركيبها ببذل الجهد في فهم الذات ودراستها . ومبدأ الاستفادة من الغرب منهجيا عن طريق ما يسمى بالاستصلاح ) وهو يعني عند الأصوليين منهج الاستنباط عن طريق إعتبار المصالح المرسلة ( بدل الأسلمة .

وسنحاول أن نبين حدود ومظاهر ) العلمية ( المتعلقة بمناهج العلوم الشرعية .

أولا : المشكل المنهجي لقضايا الإنسان في العلوم الإنسانية :

إن أحادية التطور الذي عرفته المناهج العلمية في الغرب " لتبلورها في إطار علوم الطبيعة ابتداء " جعلتها تطمع في اكتساب خصائص العلم الطبيعي ، مما أدى إلى نشوء إشكال تطبيق المنهجية العلمية في ميدان علوم الإنسان .

ورغم أن أغلبية العلوم الطبيعية تعتمد على المنهج التجريـبـي في البحث ،

-9-

الذي يصعب نقله إلى ميدان الإنسان ، فإن الإنبهار والإعجاب الكبيرين بما حققته هذه العلوم ، جعل علماء الإنسان في الغرب يُفتنون بمنهجها ذاك ، ويدعون إلى إخضاع الظاهرة الإنسانية للتجربة ، مثلها في ذلك مثل الظاهرة

الطبيعية . وقد كانت " المدرسة السلوكية " في علم النفس ، " والمدرسة الوضعية " في علم الاجتماع ، "والمدرسة التوثيقية " في علم التاريخ هي أبرز تجليات هذا الاتجاه . إلا أن فريقا من العلماء عارض ذلك ، مُبينا استحالة تطبيق المنهج العلمي أصلا في علوم الإنسان ، وصعوبة الوصول إلى نتائج موضوعية بواسطته .

وجوهر الإشكال كما ذكره ) فلاديمير ( هو أن " العلم – وهو الحَكَم الموضوعي نسبيا تجاه كل ما يهم الطبيعة عموما – يفقد حتما قِسما من هذه الموضوعية منذ أن يُصبح بآن واحد مشاهدا وعاملا ، حكما وفريقا ".

ثانيا : المسألة المنهجية لقضايا الإنسان في العلوم الشرعية :

يمكن الآن طرح السؤال التالي : إلى أي حد يمكن تشكل عائق الذاتية في الجانب الإنساني من العلوم الشرعية ؟ بل هل يمكن الحديث عن فشل الضبط المنهجي في إطارها ، بسبب العائق المذكور ؟ إن الإنسان هو أحد مواضيع العلوم الشرعية ، وإذا بدا أنها تنصرف إلى غير ذلك أحيانا – كما في التفسير مثلا – فإن المقصود الأصلي في نهاية المطاف ، هو الإنسان ، لأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لمصالح العباد في المعاش والمعاد كما قرره غير واحد من العلماء . فإذا كان المقصود بالعلوم الإنسانية إنما الدراسات التي تدرس الإنسان فردا وجماعة من أجل مصلحته وتطوير حياته نحو الأفضل ، فإن العلوم الشرعية أكثر إنسانية من العلوم الإنسانية ، ولا نظن أن هذه الأخيرة قد حققت كثيرا مما قامت من أجله ، بل ما زالت عاجزة عن تفسير وتوجيه أغلب قضايا الإنسان ، بينما العلوم الشرعية قد

-10-

خاضت تجربة تاريخية طيلة عدة قرون وجهت فيها الأمة الإسلامية توجيها محكما راشدا ، فأوجدت المجتمع الذي تعايش فيه المسلم والنصراني واليهودي بالعدل . إلى أن أُجبرت الأمة على التخلي عن علومها تلك . بيد أن العلوم

الشرعية ، رغم أنها " إنسانية " في مقاصدها ، فهي ربانية في منطلقاتها ، وهذا سر تميزها وسبب نجاتها من كثير مما تتخبط فيه العلوم الإنسانية مــن عوائق منهجية . وعليه ، فقد وجب أن نعرف الآن وضعية " الظاهرة الإنسانية " في العلوم الشرعية إزاء أخطر ما عرفته من عوائق منهجية في العلوم الإنسانية كما أوردناه سالفا ، مختزلين إياها في أربع قضايا :

1- عائق الذاتية : وهو يتجلى في إتباع الهوى لدى دراسة الظواهر والحكم عليها من جهة ، وفي تداخل الذات والموضوع لأنهما واحد ، فتحجب الرؤية الواضحة المستقلة من جهة أخرى . ونحن نذكر ههنا أن علماء الإسلام لم يكونوا يُغيبون الضابط التعبدي في أبحاثهم ودراستهم على الإجمال ، ومن شذ عن ذلك سقطت عدالته بين المسلمين فلم يأخذ عنه أحد .

والضابط التعبدي هو أضمن وسيلة لتجرد العالم عن داعية هواه ، حتى إذا حكم بالعدل والنصوص القرآنية والحديثية الداعية إلى إلتزام العدل مستفيضة جدا .

وهكذا كانت الاستجابة للموضوعية العلمية في البحث العلمي لدى المسلمين استجابة طبيعية ، لأنها تنبع من قناعة التعبد ، وهي قناعة مبنية على صفاء النية وتجردها لله .

فالإنسان المسلم عموما يتدرب في تعبده على " محاسبة " نفسه ، و " المحاسبة " من المقامات التربوية العظيمة في الإسلام ، إنها محاولة عزل الذات عن الذات ، أي محاولة تقوية " النفس اللوامة " على حساب " النفس الأمارة بالسوء " لأن اللوامة هي المسؤولة عن تربية الفرد على النقد الذاتي ، أما الأمارة فتعني إخضاع

-11-

الواقع للنظر الشهواني ، وتفسير السلوك الذاتي إزاءه بما يرضي الشهوة .

2- صعوبة التحكم في الظاهرة الإنسانية :

إما لتركيبها المعقد ، أو لتفردها في الزمان والمكان ، فالظاهرة الإنسانية متداخلة العناصر بين ما هو اقتصادي واجتماعي ونفسي وسياسي . لذلك يصعب فصلها بدقة ، وعزلها للحكم عليها . بيد أن لنا في المناهج العلمية المطبقة في العلوم الشرعية منطلقات جد متطورة ودقيقة تُعنى بضبط الظواهر الإنسانية وعزلها ودراستها بشكل علمي متميز رغم تشابكها وتداخلها . وذلك يتجلى لدى الأصوليين خاصة من خلال القواعد التالية :

أ‌- تنقيح المناط : فالتنقيح هو التهذيب والتشذيب ، والمناط هو العلة ، والمراد هو : " أن يكون هناك علة للحكم قد تستفاد من مجموع ما اشتمل عليه ، فيتعرف الوصف الذي يصلح علة من بين هذه الأوصاف ، ويستبعد الوصف الذي يكون غير مناسب ، حتى ينتهي المجتهد إلى الوصف المناسب الذي يصلح علة ".

ب- تحقيق المناط : وهو النظر في معرفة وجوده في آحاد الصور التي ينطبق عليها ، ويدخل في عمومها بعد أن تكون العلة نفسها قد عُرفت بطرق المعرفة المختلفة كالعدالة ، فإنها مناط الالتزام في الشهادة ، ولكن كون الشخص عدلا أو غير عدل يُعرف بتحقيق المناط ، والاجتهاد الفقهي يعرف العدل من غيره . فههنا يكون المُعطى حاصلا في الذهن ، فننظر إلى مدى استجابة الواقع له لتنـزيله عليه .

إن تحقيق المناط قاعدة منهجية دقيقة للبحث في صلب الواقع الاجتماعي

والإنساني ، تعمل على رصد مكوناته واستجماع عناصره واعتباره جزء للخلوص إلى صورة حقيقية عن وضعه الكلي .

-12-

ج- النظر في المآلات : يقول أبو إسحاق الشاطبي : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا ، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة . وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظرة إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ".

أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم أمر بالاعتبار بسنن الله في الكون التي إذا تم استنباطها أمكن التحكم أكثر في مختلف الظواهر المتغيرة ، لأنها قوانين عامــة ثابتة .

3-الليونة الاصطلاحية :

إذا كانت العلوم الإنسانية مطاطة بطبيعتها ، غير دقيقة في ظواهرها ، ولذلك كانت مصطلحاتها منها وإليها ، فإن العلوم الشرعية دقيقة جدا لأنها علوم تقعيدية في أغلبها ولأنها تحاول فهم الظواهر من منطلقات ثابتة لا تتحول ولا تتبدل ، وهي النصوص القطعية والصحيحة ، بيد أن الفهم إنما يكون بواسطة الاجتهاد طبعا ، تخريجا وتنقيحا وتحقيقا . ولذلك كانت الدقة المصطلحية عند علماء الإسلام راسخة جدا خاصة لدى المحدثين : رواه ونقادا .

4-القياس الكمي لما هو كيفي :

وهذه مغالطة كبرى تسبب عائقا وهميا للعلوم الإنسانية بسبب لهث علمائها وراء المناهج الطبيعية استجابة للانبهار بنتائجها الكبيرة ، فمالت كثير من المدارس إلى اعتبار الظاهرة الإنسانية ظاهرة مادية . وعليه فيجب إذن أن تقاس بميزان الحرارة أو بعداد السرعة أو الكهرباء ! إن الظاهرة الإنسانية مهما دققنا في مناهج البحث

فيها ستبقى إنسانية ، ومن الخطأ المنهجي ذاته أن تخضع بشكل حرفي للمناهج الطبيعية ، لأن الفرد أو الجماعة ما كان ولن يكونا في يوم من الأيام قطعة حجر أو معدن أو شريحة لحم أو عظم تدخل تحت المجهر وتحلل في المختبر ، لأن النفس

-13-

الإنسانية مركبة من عوالم لا يُحصي آفاقها إلا خالقها . صحيح أنه يجب الاستفادة من المناهج الطبيعية ، ولكن بما يناسب الظاهرة الإنسانية . أما فيما يخص العلوم الشرعية فهي حيثما تتعلق بالجانب الإنساني أدق و أضبط من علوم الإنسان بمصطلحاتها وأدواتها المنهجية ومنطلقاتها المذهبية . ومع ذلك فإننا ندعو إلى الاستفادة مـن المنهجية الطبيعية في طرائقها الكمية في حدود ما تحتمله العلمية ، وبعيدا عن الغلو الذي قد يؤدي إلى اعتبارها قطعا ميكانيكية ، لا روح فيها ولا نفس .

الفصل الثاني : تصنيف المناهج العلمية في العلوم الشرعية .

تمهيد : تصنيفات المناهج العلمية :

إختلف تصنيف مناهج البحث من دارس لآخر ، إما بسبب اختلاف المجالات العلمية التي درست في إطارها ، كما هو الشأن بالنسبة لمناهج البحث الأدبي مع مناهج البحث الاجتماعي أو النفسي أو العلمي ، وإما بسبب تبني بعضهم لمناهج نموذجية رئيسية ، وإعتبار المناهج الأخرى جزئية . وقد أورد الدكتور بدر عدة تصنيفات لمؤلفين غربيين وآخرين عرب ، كتصنيف " هويتني " الذي جعل المناهج سبعة وهي :

1- المنهج الوصفي : ويتضمن المسح ودراسة الحالة ، وتحليل الوظائف ، والوصف المستمر على فترة ، والبحث المكتبي والتوثيقي .

وهو منهج يعتمد على تجميـع الحقائق والمعلومات ، ثم مقارنتها وتحليلها وتفسيرها ، للوصول إلى تعليمات مقبولة .

2- المنهج التاريخي : وهو يعتمد على التوثيق والتفسير للحقائق التاريخية .

3- المنهج التجريبي : وعناصره ، الملاحظة ثم الفرض ثم التجربة ثم التعليم أو القانون .

-14-

4- البحث الفلسفي : وهو يهدف إلى تعميق النظرة وشموليتها .

5- البحث التنبؤي : وهو الدراسة المستقبلية .

6- البحث الاجتماعي : وهو الذي يختص بالظاهرة الاجتماعية .

7- البحث الإبداعي : وهو الذي يُعنى بعملية الإبداع هي العلم والفن والأدب وأسبابها .

أما بالنسبة لعبد الرحمان بدوي قسمها إلى ثلاثة وهي :

1- المنهج الإستدلالي ، أو الرياضي " الذي نسير فيه من مبدأ إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة دون إلتجاء إلى التجربة ، وهـو منهج العلوم الرياضية خصوصا ".

2- المنهج التجريـبـي .

3- المنهج الاستردادي ، أو المنهج التاريخي .

وأما محمود قاسم فصنفها حسب مجالاتها العلمية إلى أربعة وهي :

1- منهج البحث في الرياضيات .

2- منهج البحث في العلوم الطبيعية .

3- منهج البحث في علم الاجتماع .

4- منهج البحث في التاريخ .

أما الدكتور رشدي فكار فقد صنف المناهج مطلقا إلى ثلاثة هي :

1- المنهج التاريخي : وقد قسمه بدوره إلى قسمين من حيث الاستعمال .

أولا : " المنهج التاريخي كطريقة بحث " ، وهـو الذي يُعنى بالتأريخ للعلوم جميعها ، عبر التساؤلات الثلاثة : كيف نشأ ؟ وكيف تطور ؟ ثم كيف آل ؟

ثانيا : " المنهج التاريخي كقدرة شرح " ،وهذا يخص الدراسات التاريخية ، وقد ميز فيه بين ثلاثة مستويات :

-15-

أ‌- منهج المؤرخ : الذي يعتمد على كيفية الإحتفاظ بالتسلسل والإسترسال للأفعال والأفكار عبر التاريخ ، فهو منهج رصدي .

ب‌- منهج عالم التاريخ : الذي يهدف إلى تصحيح التاريخ وغربلته مما علق به من تغميض المؤرخين وتذوقاتهم وانتماءاتهم .

ج‌- فلسفة التاريخ : التي تُعنى ب " تعليل الواقع والأحداث الصحيحة "

2- المنهج السيسيولوجي : ويختصره في ثلاثة إتجاهات هي :

أ‌- البنيوية الوظيفية .

ب‌- الجدلية المادية .

ت‌- الجدلية الأمبريقية ) الواقعية ( .

3 ـ المنهج التحليلي : وهو يهتم بدراسة العلوم التي تعتمد على قواعد وأنسقة في التحليل .

هذا وقد إقترح الدكتور رشدي فكار هذه المناهج الثلاثة خاصة ، للتطبيق في الإسلاميات وذلك أن المنهج التاريخي كقدرة شرح يمكن أن يُغطي الإطار الحضاري للمجتمع الإسلامي منذ النشأة حتى اليوم ، وأما المنهج السيسيولوجي " خاصة الجدلية الأمبريقية " فهو صالح لدراسة المجتمعات الإسلامية ، وأما

المنهج التحليلي فيستعمل في العلوم الإسلامية القاعدية أو النسقية . ولذلك يمكن إستئناس هذا المنهج أساسا في غالبية العلوم الفقهية والحديثية والتفسيرية وما حول ذلك ، لأنها علوم تحتكم إلى قاعدة قرآنية أو سنة أو نسق في الإجتهاد للأئمة الأربعة .

ولعل هذا الإقتراح الذي قدمه الدكتور رشدي فكار غير جامع ، فثمة بحوث إسلامية قد لا تجد مكانها بين المناهج الثلاثة . فأين نضـع البحوث التحقيقية مثلا ؟ وهي على رأس أولويات البحث العلمي في الدراسات الإسلامية ، فلا

-16-

هي تاريخية بالمفهوم الذي أعطاه للمنهج التاريخي بجميع أقسامه ، ولا هي سوسيولوجية ولا تحليلية بالمفاهيم التي قدمها لأقسام هذه وتلك . وأين نضع البحوث الجمعية والدراسات المقارنة والدراسات التاريخية السكونية . فلا منهج مما قدمه يمكن أن يستوعب مثل هذه البحوث .

- التصنيف المقترح في إطار العلوم الشرعية :

ونحن ههنا نقترح أن تُصنف مناهج البحث في إطار العلوم الشرعية إلى أربعة مُراعين في ذلك طبيعة الدراسات الإسلامية وخصوصياتها وهـي : المنهج الوصفي ، المنهج التوثيقي ، المنهج الحواري ، ثم المنهج التحليلي ، ولتفصيلها أفردنا كل منهج منها في مبحث مستقل .

المبحث الأول : المنهج الوصفي .

والمنهج الوصفي : عملية تُقدَّم بها المادة العلمية كما هي ، في الواقع إنه عمل تقريري يعرض موضوع البحث عرضا إخباريا بلا تعليل أو تفسير . ولذلك فإنه يكون في نهاية المطاف عبارة عن دليل علمي . فالمنهج الوصفي إذن يقوم على استقراء المواد العلمية التي تخدم إشكالا ما أو قضية ما وعرضها عرضا مرتبا

ترتيبا منهجيا ، وقد يكون الوصف تعبيريا فيسمى " العرض " ، أو يكون رمزيا فيسمى " التكشيف ".

أ‌- العرض : وهو بدوره يمكن أن يصنف إلى نوعين :

أ-1- البحث المرجعي ) الببليوغرافيا ( : وهو يعني إعداد سجل علمي للإنتاج الفكري المكتوب ، سواء كان مخطوطا أو مطبوعا ، وهذا عمل عرفه علماء الإسلام منذ القديم تحت اسم " الفهرست " أو " الثبت " أو " البرنامج ".

وهو عمل ضروري لكل باحث ، سواء كان مبتدئا أو كان من الراسخين .

هذا ويمكن أن نصنف البحث المرجعي إلى أربعة أنواع :

-17-

الأول : المرجعية السردية : وهي التي تقوم على سرد المؤلفات على ترتيب منهجي معين . مع الاقتصار على ذكر المعلومات الظاهرة للكتاب .

الثاني : المرجعية الوصفية : وهي أكثر تفصيلا من الأولى ، فزيادة على المعلومات الظاهرة للكتاب ، نتطرق ههنا إلى مضمونه على الإجمال .

الثالث : المرجعية الموضوعية : وهذه كذلك أكثر تفصيلا من سابقتها ، إذ نركز ههنا في إطار المضمون ، على فكرة معينة أو إشكال معـين أو قضية جزئية . وذلك لخدمة موضوع ما يراد دراسته استقبالا .

الرابع : المرجعية النقدية أو التقويمية : وهنا بالإضافة إلى ما تقوم به في المرجعية الوصفية نعمد إلى تقويم إجمالي للكتاب بذكر مزاياه ونقائصه .

مصادر البحث المرجعي : ومصادر البحث المرجعي هي المعتمدات الأولى التي ينطلق منها الباحث لجمع مرجعيته المقصودة وإعدادها . وهي :

1- فهارس الخزائن والمكتبات العمومية وما شابهها .

2- الفهارس المطبوعة عن الكتب المطبوعة .

3- الفهارس المطبوعة عن المخطوطات .

4- فهارس المرويات والسماعات .

5- كتب الطبقات والوفيات وأشباهها .

6- معاجم المؤلفين : وهي كتب تهتم بذكر العلماء من حيث كونهم صنفوا كتبا ، مع ذكر مصنفاتهم تلك .

7- الدوريات : وهو مجلات فصلية أو سنوية ، تُعرض فيها المرجعيات المختلفة أو المتخصصة .

أ-2- التقرير العلمي : وقد يكون على وجهين :

- الوجه الأول : هو تقديم صورة علمية عما هو واقع ، كوصف مادة علمية ،

-18-

إما بواسطة الإنتخاب ، وذلك أنك تتحدث عن المادة ثم تستشهد لكلامك بنصوص مختارة . وإما بواسطة الإستقراء التام ، وذلك بتقديمها أجمعها في عمل ما .

- الوجه الثاني : وهو تقديم صورة علمية عما هو متوقع : ويدخل تحته كل التقارير العلمية التي تقدم لتسجيل الرسائل والأطروحات الجامعية .

ب‌- التكشيف : أو الفهرسة .

وهو عمل وصفي يهدف إلى وضع دليل يتوصل بواسطته إلى مختلف المعلومات المذكورة في كتاب أو أكثر ، فيسمى كشافا أو فهرسا .

وقد ذهب الدكتور عبد الهادي الفضلي إلى التمييز بين نوعين من الفهارس :

- الأول فهرس خاص : وهو الذي يتضمن العناوين العامة لموضوعات الكتاب ، من أبواب وفصول وأمثالها . وقد يُفصل أكثر فَتُذكر فيه جزئيات الأبواب والفصول فيسميه " الفهرس التفصيلي ".

- الثاني فهرس عام : وهو المشتمل على عدة فهارس تتضمن كل المعلومات الواردة في الكتاب المفهرس من أعلام وكتب وغيرها ويسمى هذا " الفهرس التحليلي "

هذا ويمكن أن نتحدث ههنا عن كشاف من نوع آخر وهو :

- الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية : وهو مشروع علمي يهدف إلى وضع دليل معجمي للموضوعات المدروسة لدى القدماء لتقريبها ما أمكن إلى الباحثين والمفكرين المعاصرين . والفرق بين " التقرير العلمي " و " التكشيف ". هو أن الأول يقوم على وصف المادة الموضوعية أو استخراج النصوص وتصنيفها . بينما الثاني يكتفي بسرد أرقام الصفحات التي وردت بها المعلومات المكشفة ، استقراء مع تصنيفها كذلك فهو وصف يقوم على الرموز لا على التعبير .

-19-

المبحث الثاني : المنهج التوثيقي :

وهو طريقة بحث تهدف إلى تقديم حقائق التراث ، جمعا أو تحقيقا أو تأريخا .

فالملاحظ من خلال التعريف أن المنهج التوثيقي يجمع بين ثلاثة معان ، بعضها يخدم البعض الآخر . وتفصيلها كما يلي :

أ‌- الجمع : ونعني به جمع أطراف أو أجزاء جسم علمي ما ، متناثرة في أحشاء التراث ، وإعادة تركيبها تركيبا علميا متناسقا .

وأهم خطوات طريقة الجمع هي كالتالي :

أولا : الإستقراء التام للمادة في مظانها : وذلك بتتبع جميع المصادر التي ذكرت الكتاب المفقود أو الكتاب أو صنفت في نفس المجال العلمي ، أو تطرقت إلى بعض قضاياه ، بدأ بعصر المؤلف حتى عصر الباحث .

ثانيا : التوثيق : لا بد قبل توثيق المادة من تصنيفها أو تكميل تصنيفها ذلك أن

الجمع الإستقرائي عادة ما يكون عملا مصنفا للمادة، ونقصد بالتصنيف ههنا توزيع المادة العلمية وتجزيئها حسب مقاصدها الجزئية . ولا بد في التوثيق من الإستفادة من منهج المحدثين في النقد ومنهج الأصوليين في التعديل والترجيح ، وعليه فإن ضوابطه العامة يمكن أن تكون كما يلي :

أ-1- دراسة أسانيد المرويات : متى كان لها أسانيد ، ومحاولة قياسها بضوابط الحديث الصحيح التي هي : إتصال السند بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ أو علة ، حتى يتبين ما هو صحيح النسبة إلى المؤلف وما هو حسنها أو ضعيفها .

أ-2- دراسة متون المرويات : لمعرفة مقاصدها ، وينبني على ذلك زيادة تأكد من نسبتها صحة أو ضعفا .

أ-3- حيث تتعدد النصوص المروية في المعنى الواحد وتتفق في معناها الإجمالي ،

-20-

فإنه يُقدَّم النص المسند على غير المسند ، وإذا كانت جميعها مسندة قُدم الأصح سندا ، وإذا استوت قيمتها في هذا ، قُدم الأقدم مصدرا ، وإذا اتفقت مصدرا ، قُدم نص الراوي الأقرب إلى المؤلف كتلميذه ، فإن لم يكن تلميذه فالذي عاصـره ، وإن لم يكن فالذي بعده مباشرة وهكذا .

أ-4- وفي حال تعارض النصوص ، تراعى مرجحات أخرى تختلف باختلاف المجالات العلمية في الدراسات الإسلامية .

ثالثا – إعادة التركيب : فإذا استوت المادة إستقراء وتوثيقا أمكن حينئذ إعادة تركيبها ، أي بناؤها على الشكل الذي كانت عليه في أصلها . وإعادة التركيب

غير التصنيف ، ذلك أن هذا الأخير إنما يُعنى بتوزيع المادة حسب مقاصدها أو غير ذلك بضم الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض . أما إعادة التركيب فهي أعلى من ذلك وأدق ، لأنها تعنى بنظم المادة في النسق العلمي أو الهيكل العلمي الذي وضعت فيه .

ب-التحقيق : وهو الصورة الثانية للمنهج التوثيقي ، ويقصد به : بذل غاية الوسع والجهد لإخراج النص التراثي مطابقا لحقيقة أصله نسبة ومتنا مع حل مشكلته وكشف مبهماته . والتحقيق بهذا المعنى ليس علما مستحدثا ، وليس وليد المنهجية الغربية كما قد يظن ، ولكن انتقل إلى أوروبا كما انتقل كثير من المناهج الإسلامية ، وإنما المستحدث فيه هو الجانب المتعلق بالنشر والطباعة .

وفيما يلي شروط وضوابط عامة للتحقيق ، نختصرها فيما يلي :

- أما بالنسبة لما يتعلق بالمحقق فيشترط فيه ما يلي :

1- أن يكون عالما بعلوم العربية ، نحوها وصرفها وفقهها ، وهذا شرط ضروري لمن يحقق نصوص التراث الإسلامي العربي .

-21-

2- أن يكون عالما بأمهات المصادر التراثية الكبرى التي تعتبر مظان لكثير من

التحقيقات على اختلاف أنواعها .

3-أن يكون على علم بالخطوط العربية وتطورها التاريخي وطرائق النسخ القديمة والأدوات المستعملة للكتابة .

4- أن يكون عالما بقواعد وأصول التحقيق والنشر .

5- أن يكون مختصا بالمجال العلمي الذي هو موضوع المخطوط ، فلا يعقل أن يقوم عالم بالعربية بتحقيق مخطوط في الحديث أو العكس . ذلك أن لكل علم رجاله .

وأما بالنسبة لما يتعلق بالمخطوط المراد تحقيقه فلابد مما يلي :

1- ألا يكون قد حقق من قبل تحقيقا علميا .

2- أن يكون المخطوط ذا قيمة علمية.

مراحل التحقيق :

لتحقيق المخطوط تحقيقا علميا ، لابد من إنجاز ذلك عبر ثلاث مراحل هي :

أولا : جمع النسخ : أي جمع نسخ المخطوط سواء الموجودة منها في العالم الإسلامي أو الغربي ، وذلك بالرجوع إلى فهارس المخطوطات في العالم .

ثانيا : تعيين النسخة المعتمدة أو النسخة الأم ، والنسخ المساعدة . فأما المعتمد فهي التي سوف تُنقل عنها النسخة المسودة . أما المساعدة فهي التي سوف تعتمد في التصحيح والتصويب .

ثالثا : ضبط الكتاب وذلك بتوثيق نسبته إلى مؤلفه ، وتحقيق عنوانه ، وتحقيق الاسم الكامل للمؤلف ، حتى لا يشتبه مع غيره ، ثم تحقيق المتن .

ج- التأريخ :

أما استعمال ) المنهج التوثيقي ( بمعنى التأريخ ، فيقصد به الوظيفة الإستردادية

-22-

أساسا ، لأن مهمة المنهج التاريخي ، أن يقوم بوظيفة مضادة لفعل التاريخ ، في محاولته لاسترداد ما كان في الزمان ، لا ليتحقق فعليا في مجرى التاريخ ، فهذا ليس بوسع أي كان ، وإنما استعادة ما جرت عليـه أحداث التاريخ بطريقة عقلية ، ويمكن أن يستعاد نظريا بنوع من التركيب ابتداء مما خلفه من وقائع ، وذلك بالاعتماد على الآثار المتخلفة عن الأحداث التاريخية " الوثائق " التي يعتمد عليها هذا المنهج إعتمادا كبيرا .

ويمكن أن نقسم صور البحث التاريخي في الدراسات الإسلامية إلى قسمين .

1- الدراسات السكونية : ) السنكرونية ( .

وهي تهتم بالبحث في فترة مقتطعة من تاريخ علم ما ، وصفا وتفسيرا ، أو نقدا أو كل ذلك جميعا . فالباحث في هذا النوع من الدراسة لا يهتم بالجانب التطوري لإشكاله العلمي ، بقدر ما يهتم بوصفه وتفسيره ، أو نقده في فترة من فتراته التاريخية ، إنه إذن يتصور الإشكال ذاك في حالة سكون ، غير مهتم بما كان عليه ن قبل فترته الخاضعة للدرس .

ولا بما سيؤول إليه بعدها ، وإنما يبحث في واقعها المنحصر في ضــوء المدة الزمنية المحددة . فالباحث يكــون كالعالم الأثــري ) الأركيولوجي ( الذي يدرس الوثائق الأثرية ليخبرنا عن بعض حقائق الفترة التي تنتمي إليها .

2- الدراسات التطورية : ) الدياكرونية ( :

وهي تهتم بالبحث في الإشكال من حيث حركته التطورية ، وصفا أو تعليلا و تفسيرا ، أو نقدا ، أو كل ذلك جميعا . إنها تنظر إلى القضايا العلمية عبر مراحلها الثلاث : كيف كانت ، وكيف صارت ، وكيف ستؤول . فهي لا توقف عجلة التاريخ ، بل تستفيد من حركتها ، وترصد الظاهرة من خلالها .

-23-

المبحث الثالث : المنهج الحواري :

في الإصطلاح المنهجي نقصد بالحوار العملية العلمية المبنية على الأخذ والعطاء ، أو التقابل والتناظر بين قضيتين أو أكثر . إنه نسق مبني على رصد علاقات الإختلاف ، أو الائتلاف في الدراسات المقارنة والوظيفية والجدلية .

فالمنهج الحواري إذن منهج يقوم على دراسة التفاعل الحاصل بين القضايا العلمية من خلال الصور المذكورة . وعليه فإنه يمكن أن يتجلى في ثلاث صور هي :

أ- طريقة المقارنة :

وهي التي بواسطتها تنجز الدراسات المقارنة في شتى المجالات : الأصولية أو الفقهية أو الحديثية … إلخ . والدراسات المقارنة : هي البحوث التي تسعى إلى إبراز مواطن الوفاق أو الخلاف بين قضيتين أو قضايا في موضوع واحد ، مع تفسير ذلك وتعليله . ولابد في هذا النوع من الدراسة من أمرين :

أولا : الاشتراك : ويعني أنه لابد من كـون القضيتين أو القضايا الخاضعة للمقارنة ، قد عرفت نفس الإشكال ، سواء على المستوى المنهجي أو المستوى الموضوعي .

ثانيا : المقابلة التزامية : وهذه إنما تكون لدى إنجاز الدراسة المقارنة ، والمقصود من " المقابلة " أن يتم النظـر إلى عناصـر المقارنة في أجزاء الموضـوع بمنهـج " تقابلي " بحيث يقوم الدارس بمناظرة لوحات الموضوع ، ومقابلتها لمعرفة عناصر الإختلاف والائتلاف فيها ، ثم إبراز ذلك بشكل " تزامـني " أي في نفس الوقت .

ب‌- الطريقة الوظيفية : وهي تهتم بدراسة وظائف القضايا العلمية ، أي أن الإشكال العلمي المقصود في البحث الوظيفي هو العلاقات التأثيرية أو التأثرية أو كلاهما معا ، التي يتوفر عليها هذا الموضوع أو ذاك .

-24-

ج- الطريقة الجدلية التجاوزية : وهي تقوم على صراع المتناقضات الفكرية بهدف تجاوز الغالب منها للمغلوب ، والجدلية أنواع ، منها الجدل الهيكلي والجدل الماركسي المعروف بالماديـة الجدلية ، ثم الجـدل الواقعـي المسمـى

ب " الديالكتيك الأمبيريقي " الذي لا ينطلق من مبيتات كما هو الحال في الجدلية المادية : تركز على البنيات والصراع الطبقي ، وأولوية العامل الإقتصادي وأنماط الإنتاج ، والإحتكام لفلسفة التاريخ . وإنما يعطي أولوية للواقع دون مبيتات .

المبحث الرابع : المنهج التحليلي :

وهو منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة ، تفكيكا أو تركيبا أو تقويما ، فإن كان الإشكال تركيبة منغلقة ، قام المنهج التحليلي بتفكيكها ، وإرجاع العناصر إلى أصولها . أما إذا كان الإشكال عناصر مشتتة ، فإن المنهج يقوم بدراسة طبيعتها ووظائفها ، ليركب منها نظرية ما أو أصولا ما أو قواعد معينة . كما يمكن أن يقوم المنهج التحليلي على تقويم إشكال ما ، أي نقده . ويتلخص المنهج التحليلي في عمليات ثلاث قد تجتمع كلها أو بعضها في العمل الواحد . وهي : التفسير : وقد عبرنا عنه بالتفكيك ، والنقد : وقد عبرنا عنه بالتقويم ثم الإستنباط ، وقد عبرنا عنه بالتركيب ، أما تفصيل ذلك فهو كمــا يلي :

أ- التفسير : وهو عرض الأعمال العلمية على سبيل التأويل والتعليل ، وهو عمل علمي جليل ، ذلك أن التراث الإسلامي اليوم محتاج فيما هو محتاج إليه ، إلى فهم صحيح لمقاصده من خلال مصطلحاته ونظرياته .

وعليه فإنه من الممكن أن نتصور العملية التفسيرية على مستويين :

الأول بسيط والثاني مركب .

-25-

أما المستوى البسيط فهو شرح القضايا العلمية بتحليل نصوصها وتأويل مشتبهاتها بحمل بعضها على بعض تقييدا وإطلاقا ، أو تخصيصا وتعميما . أما المستوى المركب فهو محاولة تعليل الظواهر بإرجاع القضايا إلى أصولها ، وربط الآراء بأسبابها وعللها .

ب- النقد : إن النقد هو عملية تقويم وتصحيح وترشيد ، وهو كذلك محاكمة إلى قواعد متفق عليها أو إلى نسق كلي .

ج- الاستنباط : والمراد به هنا الإستنساخ الإجتهادي والتجديد العلمي .

وعليه فإنه بالإمكان أن نصنف صور الاستنباط إلى نوعين :

النوع الأول : الإستنباط الجزئي وهو الإجتهاد المتعلق بقضايا جزئية في أحد المجالات العلمية ، على أساس الإبتكار والتجديد .

النوع الثاني : الإستنباط الكلي : وهو الإجتهاد المتكامل الأجزاء ، الشمولي النظرة ، الذي يهدف إلى " تركيب " أو " وضع " نظرية علميــة . أمــا

" التركيب " فهو المادة العلمية ، من التراث ، وسبكها في نسق يجعل منها وحدة متكاملة ، بشرط ألا تكون النظرية قد عرفت عند أحد القدماء . وأما " الوضع " فهو الإنشاء الإبتدائي لنظرية علمية في مجال ما ، أي إبتكارها كليا على أساس إشكال جديد .

المبحث الخامس : في منهج توظيف المنهج .

لا أحد يماري في تداخل العلوم الشرعية وعلاقات التأثير والتأثر التي تربط بينها جميعا ، ففي علوم القرآن والتفسير ندرس قضايا كثيرة مما ندرس في علم أصول الفقه ، وندرس في هذا كثيرا مما ندرس في علم الفقه ، وعلوم الحديث ، وعلم الكلام وعلوم اللغة … إلخ .

-26-

واليوم في مجال مناهج العلوم ، هناك دعوة إلى إستنباط منهج تكاملي أو توفيقي يُركب من مختلف المناهج العلمية .

أما في إطار البحث في العلوم الشرعية فإنا نقول : رغم التداخل الموضوعي والمنهج الحاصل بينها جميعا منذ القديم ، فإنها ظلت محافظة علـى استقلال فروعها ، وتميز بعضها عن بعض . إذن بالنسبة إلى توظيف المنهج العلمي لدراسة العلوم الشرعية ، لابد من اعتماد منهج رئيس ينبني عليه البحث ، ويُطبـع بطابعه ، ثم بعد ذلك لا مانع من الاستفادة من المناهج الأخرى إذا دعت الحاجة إلى بعض قواعدها ، مادام ذلك لن يغير اللون المنهجي للبحث .

الفصل الثالث : تقنيات البحث العلمي .

نقصد بتقنيات البحث العلمي الإجراءات العملية التي تُستعمل في تنفيذ المنهجية . فهي عملية تحقيق المناط بتعبير الأصوليين . أي تنـزيل الضوابط والقواعد النظرية على الميدان العلمي لبناء البحث .

وهي ثلاث مراحل ندرس كل واحدة منها في مبحث مستقل :

المبحث الأول : المرحلة الإبتدائية :

وهي في أربع خطوات : المرجعية ، والتقرير ، والتقميش والإعداد .

أولا : المرجعية : بعد تحديد الموضوع ، انطلاقا من الضوابط والقواعد المذكورة قبل ، يشرع الباحث في إعداد رصيد مكتبي ، وبتقييد المعلومات الدقيقة ، وذلك بإعداد مرجعية ببليوغرافيا وافية ، مبنية على منهج البحث المرجعي . فبعد تقييد المعلومات الشكلية للكتاب ، كعنوانه واسم مؤلفه وطبعته أو طبعاته … إلخ ، يتم تقييد المعلومات الموضوعية عنه ، أي مواطن الفائدة منه ووجهها .

ثانيا : التقرير : ثم يشرع بعد ذلك في كتابة التقرير العلمي ، ويمكن أن نجمل أهم عناصر التقرير فيما يلي :

-27-

أ‌- عنوان الموضوع ، مع التفسير والتعليل لكل كلمة فيه ، ومن ثم ينطلق إلى بيان أبعاده وحدوده .

ب- هدف البحث : ويمكن وصل الكلام عنه انطلاقا من العنوان .

ج- دوافعه الذاتية والموضوعية : فالأولى هي المتعلقة بذات الباحث ، والثانية هي المتعلقة بفكرة الموضوع وإشكاله وواقع المجال العلمي الذي يبحث في إطاره .

د- المنهج المقترح إعتماده : وذلك إنطلاقا من المقاييس المنهجية المذكورة بهذا الكتاب لمعرفة مدى قابلية الموضوع للإنبناء على قواعد المنهج المقترح .

ه- التصميم الأولي : بعد ذلك يقترح تصميم أولي للموضوع كما تم تصوره .

والتصميم ضرورة علمية لكل مشروع بحث ، فهو خطوة لابد من إنجازها قبل بدء الدراسة ، ذلك أن من أنجز تصميما جيدا لبحثه ، فكأنما قد أنجز بحثه كله بالفعل ، ولذلك يقول " لويس تامبل " : > .

ثالثا : التقميش : والتقميش لغة هو> أما في الإصطلاح المنهجي فهو عملية جمع المعلومات الموثقة من مصادرها بواسطة الجذاذات وما شابهها . إلا أنه إلى جانب الجذاذات ، يُستحسن إستعمال مذكرة خاصة بالبحث ، لتقييد الأفكار الذهنية ، ذلك أن العمل المكتبي أو المرجعي قد ينقطع من حين لآخر لكن العمل الذهني لا ينقطع أو لا ينبغي أن ينقطع .

وأهم ضوابط العمل بنظام الجذاذات ما يلي :

أ- ألا يكتب إلا على وجه واحد من الجذاذة .

ب- أن يقتصر على فكرة واحدة أو نص واحد لكل جذاذة .

ث‌- أن ينقل النص بأمانة كاملة ، ولا يتصرف في لفظه إلا إذا كان موطن الفائدة في المصدر واسعا جدا .

-28-

د- أن يكتب التعليق المناسب على كل نص أسفله ، مع تمييز النص بعلامات التنصيص ، هذا ولا بد من كتابة النص بالحبر الجاف أو السائل ، بينما يستحسن كتابة التعليق بقلم الرصاص ، لأنه معرض للتغيير في كل حين .

ه- استعمال جذاذات ذات حجم واحد ، حتى تكون أيسر للتصنيف والترتيب والجمع .

و- تصنيف الجذاذات حسب فصول التصميم وأبوابه ، بواسطة أحزمـة مطاطية ، مع فصل كل مجموعة عن الأخرى بواسطة جذاذات أكثر ارتفاعا ، يُكتب على رؤوسها عناوين الأبواب والفصول .

رابعا : الإعداد : عندما ينتهي الباحث من عملية التقميش ، يرجع بعد ذلك إلى وحدات الجذاذات المصنفة ليتأملها من جديد بشكل عام ، فربما أدى شيء من ذلك إلى تغيير ما في تصميم البحث المقترح ابتداء . فالمفاجآت العلمية التي لا تظهر إلا بعد عملية التقميش ، أكثر من أن تحصى ، وعليه فإن النتيجة غالبا هي إعادة النظر في العنوان والتصميم الأولي للموضوع قصد إعداد المادة وتهييئها للدراسة .

المبحث الثاني : المرحلة التركيبية ) الدراسة ( .

ونعني بالمرحلة التركيبية ، فترة البناء للموضوع ويكون ذلك بالدراسة حيث

توظف النصوص المجموعة تحليلا ومناقشة لبناء التصورات ، ووضع المقدمات واستنباط النتائج ونقص الآراء وما شابه ذلك .

وأهم عناصر هذه المرحلة أربعة هي : الفرض والنص والإستنتاج ثم القالب العلمي .

أولا : الفرض : والمقصود به إفتراض تصور معين أو موقف معين إزاء قضية ما ، ذلك أن الموضوع قد قُسم إلى أقسام كبرى ، وأخرى متوسطة ، ثم أخرى

-29-

صغرى هي التي تشكل الأبواب والفصول والمباحث . فالتصميم إذن يتضمن فروضا أو قل هو مقدمة لفروض تتكامل فيها بينها لتشكيل فرض أكبر وأشمل هو جوهر إشكال البحث . وعليه فإن الباحث عند بدء الدراسة يستحضر التصور الكلي لما سيدرس أي جوهر الإشكال . ثم يفترض ما يتفرع عنه أولا ، أعني الفصل الأول ، ويشرع في تحقيقه من خلال جزئياته أي المباحث وما في معناها .

وللبرهنة على الفرض الذي نفترضه فإننا نسوق الحجج والأدلة مستقاة إما من الحس والتجربة ، وإما من المدركات العقلية المجردة ، وإما من الأخبار والشهادات .

ثانيا : النص : من أدق ما يمكن أن نصف به النص أنه شهادة والباحث المستشهد به ناقل شهادة ، ولذلك وجب عليه من التحري والأمانة في نقله وتوظيفه ، ما يجب على كاتب العقود المالية . فلا يصح نقل شيء في غير وجهته أو إسقاط بعضه بما يخل بمقصود صاحبه إلا خطأ . ولضبط النصوص المختارة للاستدلال ، يستفاد من مناهج الأصوليين فيما يخص الدلالة حيث يقدمون " النص " على " الظاهر " و" المعنى العباري " على " المعنى الإشاري " ونحو ذلك .

ثالثا : الإستنتاج والمناقشة :

فالإستنتاج : هو إستنباط الحكم من النص الذي يثبت صحة الفرض ، وأما المناقشة فهي إختبار هذا الحكم ذاته بعرضه على النصوص الأخرى المؤالفة .

ولا بد في إستنباط الأحكام ، أن تكون على قدر دلالة النص عليها ، فلا يجزم بما لا دليل قطعي عليه ، ولا يعمم ما لا تدل النصوص على عمومه أو إطلاقه .

هذا ولا بد للدارس من أن يحذر أمرين خطيرين في دراسته .

أولها : التأثر بما قيل من الموضوع كليا أو جزئيا .

-30-

ثانيهما : الارتباط العاطفي بالموضوع ، ولذلك فلا بد للباحث من أن يجعل الحق نصب عينيه ، ومهما يُعجب بشخص أو برأي فلا يكن ذلك مدعاة للخروج عما تقتضيه البراهين من الحق والعدل .

رابعا : القالب العلمي :

وهو الإطار الذي تصاغ فيه الدراسة ، ويمكننا الحديث في ذلك عـن ثلاثة عناصر :

أ‌- الهندسة : والمقصود بها هيكل البحث من حيث أبوابه وفصوله ومباحثه ، إذ لا بد من تحقق صفة مهمة في ذلك وهي : التوازن . فلا يعقل مثلا أن يكون الباب الأول للبحث مـن خمسين صفحة بينما الباب الثاني من خمسمائة صفحة . ومناسب ههنا أن نتحدث عن مفاهيم الإصطلاحات التي تتكون منها أجزاء التصميم عادة ، ومواقعها الهندسية فيه .

أ‌- 1- المقدمة : وتكون في أول البحث ، وهي مع ذلك آخر ما ينجز ، نظرا لأنها تتضمن الحديث عن الموضوع بشكل عام .

أ‌- 2- المدخل أو التمهيد : وكلاهما عندي بمعنى واحد ، ومحله بعد المقدمة مباشرة . وإنما يحتاج إليه إذا كان فهم الإشكال العلمي المطروح مبينا على مقدمات تتعلق بالمجال العلمي الذي ينتمي إليه .

أ‌- 3- القسم ، والباب والفصل والمبحث : أما " الباب " فهو وحده كبرى تشكل قضية أساسية أو ركنا من أركان الموضوع ، وأما " الفصل " فهو وحدة وسطى تشكل قضية جزئية ، منها وأمثالها يتكون " الباب " . ويمكن الحديث في " الفصل " عن عناصر أو وحدات صغرى أو مسائل أو مطالب هي المسماة ب " المباحث " فإذا كان الموضوع مكونا من وحدتين كبيرتين

-31-

أو أكثر لكل منهما خصائص تميزها عن الأخرى ، وكان منها من المادة ما يُغطي الأبواب والفصول والمباحث ، سُميت " أقساما " ، و " القسم " أشمل من " الباب ".

أ‌- 4- الخاتمة : وهي إشعار عملي بانتهاء الدراسة ، ومحلها طبعا في الختام . وتعرض فيها : إما نتائج البحث ، وإما تصور موجز لمستقبل البحث .

ومن أهم الضوابط العامة للتصميم الهندسي أن تُفتتح جميع الوحدات بعناوين تعبر بدقة كاملة عن مضامينها .

ب‌- التوثيق : والمقصود بالتوثيق ههنا ، ضبط النصوص والأفكار المنقولة في البحث بإرجاعها إلى مصادرها بدقة . ولا بد في منهج الإحالة والحشو من ضوابط ثلاثة هي : الإنسجام والتركيب والخدمة .

ت‌- أ- الإنسجام : ونقصد به الثبات على منهج واحد في طريقة الإحالة من أول البحث إلى نهايته .

ب‌- 2- التركيز : والمقصود به الإختصار غير المخل ، وذلك بالإكتفاء بأقل إشارة مبلغة للمراد .

ب-3- الخدمة : والمقصود بها تطعيم الدراسة بالقضايا التبعية لا الأصلية ، لأن هذه محلها هو الدراسة ذاتها ، أعني المتن . أما الحاشية فهي لما فاض عن تلك الدراسة من شروح وتعليقات ومناقشات تابعة وإستشهادات مكملة .

ج- الأسلوب : يرى الدكتور رشدي فكار أن على الباحث أن يعتمد الأسلوب العلمي ويتجنب الأسلوب الأدبي ، لأن الأول يعطي أولوية للمضمون على حساب وفرة الكلمات . أما نحن في الدراسات الإسلامية فإنا نقول ، إن على الطالب أن يكتب بأسلوب سليم : سليم من الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية

والبلاغية ، هذا هو الحد الأدنى . وله بعد ذلك أن يزيد في مراتب الإتقان

-32-

التعبيري حتى يصل إلى مقام الإحسان .

ويمكن اختصار أركان الأسلوب الذي يجب أن تصاغ به بحوث العلوم الشرعية في ثلاثة .

ج-1- السلامة من الأخطاء : سواء كانت هذه الأخطاء لغوية أو نحوية أو بلاغية . وعليه فإن على الباحث أن يحرص أشد الحرص ألا يكتب إلا ما تأكد من صحته في كل ذلك .

ج-2- الإيجاز : أي التركيز في التعبير ، وذلك بصياغة أكبر قدر ممكن من المعاني في أقل قدر ممكن من الكلمات . وهذا من أهم ضوابط الكتابة .

ج-3- الوضوح : ذلك أن هاجس الإيجاز قد يؤدي بالبعض إلى تركيز الكلام إلى درجة مفرطة ، يصبح المقصود معها عسير الفهم إن لم يكن مستحيل .

المبحث الثالث : المرحلة التكميلية :

ونعني بالمرحلة التكميلية : الأعمال الختامية التي تهدف إلى إخراج البحث في صورتــه النهائية فيصير جاهزا للقراءة والمناقشـة ، وذلك بإعداد فهارسـه و مراجعته ، ومن هنا يمكن الحديث في هذه المرحلة من ثلاث عناصر أساسية :

أ‌- إعداد الفهارس : والفهارس هي " الكشافات " التي تنظم كل ما ورد في البحث من معلومات ، وتتضمن لائحة المصادر والمراجع وفهرس الموضوعات .

أ‌- 1- الفهارس المتغيرة : وأول فهرس منها يُحسن البدء به ، هو فهرس الآيات القرآنية ، فالأحاديث النبوية ، فالأشعار ، فالأمثال ، فاللغات واللهجات … إلخ .

أ‌- 2- الفهارس الثابتة : ثم ينتقل بعد ذلك إلى فهرس آخر هو لائحة المصادر

-33-

والمراجع حيث تثبت كل الكتب المعتمدة في البحث بشكل مباشر أو غـير مباشر .

ب‌- مراجعة البحث : فإذا أتم الباحث إعداد الفهارس ، آن له حينئذ أن يقوم بمراجعة شاملة للبحث ثلاث مرات على الأقل ، مرة يراجع فيها قضايا الخط والتعبير والإحالات وأرقامها والفهارس جميعا .

أما المراجعة الثانية ، فتكون للقضايا المعرفية في البحث ، من أجل التحقق من سلامة المنهج ، وسلامة الاستدلال والاطمئنان إلى استقراء النتائج . فإذا تم له هذا عمد حينئذ إلى تبييض مسودة البحث . وبعد التبييض يراجعه للمرة الثالثة ، ليستدرك ما قد يكون أغفله في عملية النقل .

ج- الرقن والإخراج : والرقن هو عملية الطبع على الآلة الكاتبة أو الحاسوب .

أما الإخراج فالمقصود به : التشكيل الفني للبحث ، أي الهيئة الفنية التي يصير إليها في نهاية المطاف .

الفصل الرابع : آفاق البحث في العلوم الشرعية

المبحث الأول : في التحقيق والتكشيف الموضوعي .

أولا : التحقيق . عرفنا التحقيق بأنه بذل غاية الوسع والجهد لإخراج النص التراثي مطابقا لحقيقة أصله نسبة ومتنا مع حل مشكلاته وكشف غوامضه . وتعتبر هذه المهمة من أولى الأولويات العلمية التي يجب أن تسيطر على إهتمام الباحثين في التراث جملة والعلوم الشرعية بصفة أخص .

ثانيا : التكشيف الموضوعي : والتكشيف الموضوعي هو توثيق الموضوعات ، وذلك قصد الوصول إلى إنجاز الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية الذي نقترح أن يكون مصنفا حسب أنواع هذه العلوم ، ولإنجاز ذلك فإننا نقترح ما يلي :

1- تتبع المادة الشرعية في كل كتب التراث ، وإستقراء مواضعها إستقراء تاما

-34-

سواء في ذلك المخطوط والمطبوع .

2- عرض الكشاف مصنفا حسب العلوم التي يضمها ، فيخصص لكل علم قسم خاص تُعرض من خلاله مادته مرتبة ترتيبا معجميا لتيسير الوصول إلى المقصود في زمن قصير .

3- إن الطريق العملي لإنجاز الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية هو الشروع في إعداد كشافات جزئية في مختلف المجالات لتكشيف المؤلفات .

4- إن تركيب الكشاف الموضوعي الكامل لا يعني أنه قد كمل حقا ، ولكن لا شك ستبقى مخطوطات مجهولة المكان . وعليه فإن إخراج الكشاف لا يجوز أن يكون نهائيا .

المبحث الثاني : في الدراسات المصطلحية :

يحتل البحث المصطلحي المرتبة الثانية ) بعد التحقيق مباشرة ( من مراتب أولويات البحث العلمي في العلوم الشرعية .

فإذا كانت اللغة هي الوعاء الحضاري لشخصية الأمة ، فإن المصطلحات هي تجليات ملامح تلك الشخصية فيها . ومن هنا كانت قضية المصطلحات قضية أمة بأكملها . ولن نستشعر خطورة التأصيل المصطلحي وأهميته حقا ، إلا إذا راقبنا هذا السيل الهادر من الغزو الثقافي الذي يبغث ويبهث صباح مساء . ذلك أنه إلى جانب المعارك الكثيرة والمتعددة التي تدور رحاها على الأرض الإسلامية في إطار الإستعمار ومحاولات الإحتواء الثقافي هناك معركة يمكن أن تكون الأخطر في مجال الصراع الحضاري ، هي معركة المصطلحات . والخطر الأكثر إعتبارا الآن ، إنما يكمن فيما يصدر إلينا من إصطلاحات ، لذلك وجب التصدي له إعتمادا على مشروعين أساسيين :

1- إبتداء مؤصل فيما جد من العلم والمعرفة ، بناء على قوانين الإشتقاق

-35-

ومقاصد الإستعمال للكلام عرفا وشرعا .

2- دراسة محكمة لمصطلحات التراث الإسلامي جملة ، بُغية إمتلاك مفاهيمها والإحاطة بمقاصدها . إذ بدون فهم المصطلح فهما دقيقا " مخبريا " لن يتم فهم التراث ذلك الفهم ، وإذن تصدر الأحكام في حقه كله أو بعضه ظلما . إلا أن هناك شروطا ضرورية للإنطلاق ، يمكن تلخيصها فيما يلي :

1- لابد للدارس أن يخلص قلبه " من قصد الحظ " تخليصا ، وإن كان ولابد فليكن تابعا " لقصد التعبد " لا متبوعا .

2- ثم لابد أن يكون مختصا في علمه الذي يدرس مصطلحاته : يرسم لحياته العلمية منهجا .

3- لا بد أيضا أن يكون قد أخذ بحظ من اللغة يكفيه على الأقل لفهم سياقات النصوص .

4- أن يأخذ من علم الإصطلاح نظريته العامة والخاصة ما يساعده في رسم خططه وتنـزيلها في واقع دراسته .

5- أن يكون الكتاب ، أو الكتب المدروسة ، إما مبتدأة في موضوعها إبتداء أو جدد فيها تجديدا كثيرا كان أو قليلا .

6- أن يكون الكتاب محققا ، أو على الأقل سليم النص من الأخطاء الفاحشة والتحريف والبتر .

7- أن يكون المنهج المتبع أولا هو إعتماد الدراسة التحليلية في صورتها التفسيرية والمقيدة إما بكتاب بعينه ، وإما بكتب كاملة لمؤلف واحد . وأما المنهج العلمي للدراسة المصطلحية التفسيرية ، فهو ينبني على خطوتين أساسيتين .

-36-

الأولى : الإحصاء : ذلك أن المنطلق الأول لمثل هذا العمل هو إحصاء جميع مصطلحات الكتاب المدروس ، إحصاء شاملا لا يدع صيغة من الصيغ الصرفية للمصطلح إلا سجلها ، ولا مفردا من ذلك ولا مركبا إلا أخذه بعين الاعتبار .

الثانية : الدراسة : وهي تنطلق من الروح اللغوية أولا ، والقصد في ذلك تبين أصل إستعمال المادة لغة ، ولابد للباحث ههنا أن يكون أحرص على تتبع المعاجم الأصيلة التي تعني بأصول الإستعمال .

المبحث الثالث : في الدراسات المنهجية .

البحث في المنهج أو الشعور بضرورة البحث فيه ، إذا إستحكم بعقول العلماء ورجال البحث العلمي ، كان ذلك علامة عن الرغبة الواعية في النهوض بهذه الأمة .

إن مصيبتنا نحن المسلمين في هذا المجال تتلخص في مشكلتين :

- الأولى : تتمثل في إتجاه ، إغترف من العلم الشرعي ما إغترف ، وإستوعب منه أحمالا وأثقالا ، لكن دون أن يدرك أين يضع مداركه ، ولا كيف يوظف فوائده .

- الثانية : تتمثل في إتجاه وعي خطورة القضية المنهجية ، وأولاها من إهتمامه ما أولى ، إلا أنه أخطأ طريق التلقي ، فبدل أن يتلقى ويتتلمذ عن الذات الحضارية للأمة ، إنصرف بعقله المستلب إلى الغرب المستعمر كلية ، يتلقى طرائقه وحدها ومناهجه من غير سواها ، حتى صار ينظر إلى نفسه وإلى الناس لا بعين رأسه ولكن بعين الذي علمه كيف يرى . فمصيبة الأمة إذن مركبة من جلد الفاجر وعجز التقي ، وبينهما ضاعت القضية المنهجية .

وتتجلى القضية المنهجية اليوم في صورتين ، وهما كالتالي :

-37-

أ‌- البنية الداخلية للمنهج في العلوم الشرعية :

والمقصود بها المنطق الداخلي الذي يحكم المادة العلمية بهذه العلوم في علاقتها مع موضوعها . ويمكن تطوير البحث في هذا الاتجاه لاستخلاص التصورات المنهجية ، سواء من خلال العلوم ذات الرصيد النظري ، أو العلوم التي غلب عليها الطابع التطبيقي .

ب‌- البنية الخارجية للمنهج في العلوم الشرعية :

والمقصود بها المنطق الخارجي الذي يحكم المادة العلمية المصنفة في بحث ما ، أي الذي يتحكم في توظيف المادة واستثمارها بواسطة قوانين وأنساق توجه البحث العلمي وتنظمه . إلا أن الكتابات العربية المعاصرة . حول البنية الخارجية للمنهج العلمي مازالت متأثرة بالغرب كما قدمنا واستقلال المنهج ، يعني استقلال التفكير عن الهيمنة الاستعمارية للفكر الغربي . ثم إخضاع كل ذلك للنقد والتمحيص حتى يكون أساسا صلبا للبناء عليه في إطار التجديد المنهجي .

المبحث الرابع : في العلوم الشرعية على التفصيل .

الكلام عن آفاق البحث في العلوم الشرعية نسبي ، ومن هذا المنطلق سيفصل الحديث بأفراد كل علم على حدة ، لتقديم تصور عن الاتجاهات ، التي ينبغي للبحث العلمي أن يسلكها ، كما يمليها منطق الأولويات في هذا المجال أو ذاك .

أ‌- علوم القرآن والتفسير : لاشك أن علوم القرآن إنما نشأت من أجل ضبط الفهم الصحيح للقرآن ، ولذلك فإن خدمتها في هذا الإتجاه ، تجميعا وتعميقا وتقعيدا ، يعتبر من أهم المقاصد العلمية ، التي تقف على رأس أولويات البحث في هذه العلوم خاصة .

ب‌- علوم الحديث : رغم أن الحركة العلمية التي واكبت الصحوة الإسلامية المعاصرة قد قامت بمجهود كبير في مجال الدرس الحديثي وذلك بالتحقيق

-38-

والتخريج والتصنيف والتصفية … إلخ ، إلا أنه مع ذلك يمكننا استشراف آفاق للبحث العلمي في نفس المجال إما لإتمام ما أنجز ، أو لتوجيهه وجهة أخرى ، ومعظم هذه الآفاق يمكن اختصارها فيما يلي :

أولا : تصفية التراث : لابد أن تواصل الحركة العلمية الحديثة مجهودها الطيب في تصفية كتب التراث الإسلامي ، وذلك بتخريج ما ورد فيها من أحاديث ونقدها ، ببيان مقامها صحة وضعفا .

ثانيا : التكشيف : مازال الحديث محتاجا إلى خدمة كبيرة في إطار الفهرسة والتكشيف . ويمكن أن يُنجز التكشيف على صورتين :

الأولى : إنجاز الكشاف الموضوعي للحديث النبوي : وهذا يُحسن إدماجه في مشروع الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية .

الثانية : إعادة النظر في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الذي ألفه مجموعة من المستشرقين ، وذلك بتصحيحه أولا ، فما زالت بعض الأحاديث غير مفهرسة الألفاظ بشكل دقيق .

ثالثا : الدراسة التاريخية لعلوم الحديث : خاصة وأن هذا المجال يعتبر مما ضبط الكثير من قضاياه الإصطلاحية والمعرفية .

رابعا : الدراسات الموضوعية في فقه الحديث : لقد إشتهرت الدراسات الحديثية فيما يعرف بفقه الحديث أنها عبارة عن مادة فقهية مصنفة على أبواب الفقه ، إلا أن الإشكالات مازالت قائمة بسبب الفهم الجزئي والتجزيئي للنصوص الحديثية ، ولا يمكن حسم مثل هذه الأمور إلا بانتهاج أسلوب آخر هو " الدراسة الموضوعية " لفقه الحديث ، وذلك بتحديد موضوع معين يكون محل إشكال علمي ، فتحصى جميع النصوص الواردة فيه ، إحصاء تاما ، ثم

-39-

تدرس دراسة نقدية لبيان أحكامها من الصحة والضعف ، ثم بعد ذلك تنصب عليها الدراسة الفقهية باعتماد المناهج العلمية الأصولية لضبط وتقنين المفهوم والتعارضات والترجيحات ، للخلوص في النهاية إلى أحكام سليمة شاملة .

ج ـ علم أصول الفقه :

أما بالنسبة لعلم أصول الفقه فهو كسائر العلوم الشرعية محتاج إلى مزيد من الجهود لضبط نصوصه بالتحقيق ، وضبط مصطلحاته بالدراسات الإحصائية والتحليلية ، وتطوير مناهجه .

أما فيما يخص هذا العلم في ذاته من آفاق ، فهو قسمان :

الأول : يقتضي توجيه البحث إلى القضايا الإشكالية المعروفة في هـذا المجال تاريخيا ، كالإستصلاح والنسخ والتخصيص … إلخ .

الثاني : محاولة تطوير البحث وتجديده في الدرس الأصولي عموما ، مع التركيز على ميدان القواعد الأصولية ومناهج الإستنباط ، ثم نظرية مقاصد الشريعة ومباحثها الكلية والجزئية .

فأما القواعد الأصولية ، فهي المبادئ والمنطلقات التي ينبني عليها علـم أصول الفقه ، إنها تشكل بنياته الداخلية ، وعليه فإن تطويرهـا وتجديدها توسيعا وإضافة ، هو تجديد للعلم وإضافة فيه .

وأما مناهج الإستنباط فهي أكثر المباحث الأصولية إرتباطا بالواقع ، ومعلوم أن التغيرات الإسلامية قد عرفت ما عرفت من تقلبات ، بينما مازالت مناهج الإستنباط على حالها ، ونحن لا ندعو إلى التغيير من أجل التغيير ، كلا ! ولكن لابد من تغيير ما يجب تغييره وتطوير ما تقتضي الضرورة العلمية تطويره .

د- علم الفقه :

يمكن توجيه البحث العلمي في المجال الفقهي نحو ثلاثة آفاق أساسية هي :

-40-

أولا : الدراسات التاريخية : وذلك بدراسة النشاط الفقهي في حقبة من الحقب التاريخية ، أو من خلال مذهب ما ، أو مدرسة فقهية ، أو شخص ما ، أو في

منطقة ما . ولابد في كل دراسة تاريخية لعلم الفقه أو تكون مبنية على العمل السكوني الذي يعتمد الوصف والتحليل ، بدل الرصد التطوري للتغييرات الذي تعتمده الدراسات التطورية .

ثانيا : الفقه المقارن : وينبني هذا الإتجاه على استقصاء واستقراء جميع الأقوال الفقهية الواردة في الموضوع الواحد ودراستها ، نقدا وتمحيصا من خلال تحليل أدلتها ، للوصول إلى القول الراجح في المسألة بناء على منهج علمي نقدي ، يستمد مقاييسه من القواعد الأصولية المتفق عليها .

ثالثا : الإجتهاد المعاصر : ونعني به : الإجتهاد في القضايا الفقهية المعاصرة ، وذلك بإنجازدراسات حول المشكلات الفقهية التي تواجه الفكر الإسلامي اليوم .

ه- الفكر الإسلامي المعاصر :

إذا كان علم الكلام القديم قد قام بمهمة الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، فإن الفكر الإسلامي اليوم يقوم بنفس الدور أي الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، ولكن بشكل آخر حيث صارت شاملة لكل ما يتفرع عن هذه العقيدة من مقتضيات . فالحرب إذن حضارية شاملة ، حيث صار المشروع الإسلامي بشموليته مستهدفا بالطعن والحكم عليه بعدم المواكبة للتطورات الإجتماعية الجديدة ، ومن هنا كان الفكر الإسلامي المعاصر حاملا سلاح الدفاع عن الإسلام بصورة أخرى غير التي كان عليها علم الكلام القديم . وانطلاقا من هذه المعطيات ، يمكن أن نحدد آفاق البحث لهذا المجال في ثلاثة إتجاهات هي :

أولا : الدفاع عن المذهبية الإسلامية : فالفكر الإسلامي مطالب بالتصدي لكل

الشبهات المشتهرة ، التي تقف في طريق وصول المشروع الإسلامي صافيا إلى

-41-

أفهام الناس .

ثانيا : العرض العلمي للمشروع الإسلامي : ذلك أن الدفاع عن الإسلام من خلال نقض الفكر الفاسد ليس كافيا لتثبيت أركانه في الأرض ، وإنما يجب أن يحمل الفكر الإسلامي أمانة عرض مشروعه الحضاري جملة ، سواء في صورة بحوث جزئية أو بحوث كلية .

ثالثا : التأصيل المنهجي والتقويم الذاتي : والمقصود من ذلك هو دعوة هذا الفكر الإسلامي المعاصر ليعيد النظر في تركيبته المنهجية ، إذ أنه غير مبني في غالبه على أصول محددة علميا ، وعلى قواعد منضبطة ومؤصلة .

وعليه نقترح ههنا ، أصولا لتقويم الفكر الإسلامي وتأصيل مناهجه لتوجيه البحث العلمي فيه الوجهة الصحيحة، وذلك بالإرتكاز علىثلاثة منطلقات هي :

المنطلق الأول : التأصيل المصطلحي : والمراد به : تشجيع البحث في إتجاه تأصيل المصطلحات العلمية المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر ، وذلك بتعميق الدراسة لما هو أصيل ثم نفي كل مصطلح أجنبي .

المنطلق الثاني : التأصيل المنهجي : كثير من الكتابات في الفكر الإسلامي اليوم إذا دققت النظر فيها وجدتها فارغة من أي محتوى علمي أصيل ، وغير خاضعة في بنائها لنسق معين ! فهي أشبه بالخواطر الأدبية منها بالعلم الموزون المقنن ، والسبب في ذلك راجع إلى عدم تركيب القضايا العلمية الموضوعة للدرس على أصول منهجية معينة .

المنطلق الثالث : التأصيل المعرفي : ذلك أن الفكر الإسلامي مدعو اليوم إلى التعبير عن المذهبية الإسلامية في شموليتها ، ووضع الملامح العامة للمشروع الحضاري الإسلامي في السياسة وقضايا الحكم ، وفي الإقتصاد والمسألة الإجتماعية إلى غير ذلك من مكونات العمران البشري ، وعليه فهو ملزم بالتزود المعرفي من كل المجالات في العلوم الشرعية ، خاصة قضايا العقيدة ومباحث الفقه الإسلامي جملة.

The approach to research in the forensic sciences is the essence of the problem of the nation. If it is settled by it, it will have the right to do everything for it. The approach is against improvisation.

Thus learning becomes the right, not the gathering and knowledge of knowledge, as much as it is a research in its curricula, to capture its secrets, by understanding the ways of its construction, and the ways of its composition.

And the difference in the sanctuaries of science between those who narrate their forms and drawings and those who devise and invent their provisions and rules, as the world is not the one who carries in his head cabinets and libraries, but who knows how to employ what in his head, and in the safes and libraries, to add some additions. Perhaps one of the most difficult crises facing the nation today, is the absence of systematic mind, or thinking, which is clear, clear and straight. Improvisation, and spontaneous unconsciousness in the handling of life, is a conclusive evidence of the absence of systematic practice.

However, the arrangements, the division of probabilities, and the probing of the expectations before the plans are drawn and dealt with from the first starting point to the end, even if attended

And the means to criticize and guide it, all of this and what it means, is a matter of methodological reason, or thinking of the approach, which is supposed to be comprehensive of all the activities of Islamic life in general.

Scientific research is one of the most important characteristics of the Muslim mind

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً