اعلان

شيخ الأزهر: مصر عرفت التجديد الفقهي في مجالات الأسرة والاقتصاد والبنوك والسياسة منذ 125 عاما

شيخ الأزهر
شيخ الأزهر

قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إن الدعوةَ لتقديسِ التراثِ الفقهيِّ، ومُساواتِه في ذلك بالشريعةِ الإسلاميَّةِ تُؤدِّي إلى جُمودِ الفقهِ الإسلاميِّ المعاصر، نتيجةَ تمسُّك البعضِ بالتقيُّدِ -الحرفي- بما وَرَدَ من فتاوى أو أحكامٍ فقهيَّةٍ قديمةٍ كانت تُمثِّلُ تجديدًا ومواكبةً لقضاياها في عصرِها الذي قِيلَتْ فيه، لكنَّها لم تَعُدْ تُفيد كثيرًا ولا قليلًا في مُشكلاتِ اليوم، التي لا تُشابِهُ نظيراتِها الماضيةَ، اللهمَّ إلا في مُجرَّدِ الاسمِ أو العنوان.

وأوضح، خلال الحلقة الثامنة عشر من برنامجه الرمضاني «الإمام الطيب» أن مما قد يثير دهشة المشاهد أن قضيةَ "التجديدِ" الفقهيِّ، وبخاصةٍ في مجالِ الأسرةِ، والمرأةِ، والأحوالِ الشخصيَّةِ، والاقتصادِ، والبنوكِ والربا، بل والقضايا السياسيَّةِ وغيرِها، هي قضية ليست بنتَ اليوم، ولا بنتَ هذا القَرْنِ، والحديثُ في بيانِ ذلك حديثٌ طويلٌ، أقتصرُ فيه على لَفْتِ الأنظارِ إلى أنَّ الكلامَ فيه، حوارًا ومناقشات وتأليفًا ومحاضراتِ، عرَفَه الناسُ في مصر منذ مائةٍ وخمسةٍ وعشرين عامًا على الأقلِّ.

وأشار إلى أن الإمام محمد عبده توفي في (1905م)، شغَلَتْه قضايا المرأةِ بأكثرَ ممَّا شغلَتْه القضايا الأخرى، ورُغْمَ ذلك ظلَّ الوضعُ على ما كان عليه قبلَ الإمام وبعدَه: جُمودًا وخوفًا من تحمُّلِ مسؤوليَّةِ التغييرِ في أوضاعٍ ارتبطت بالشريعةِ قُرونًا متطاولة، مشيرا إلى أنه لم يَرْحَلْ إلا بعدَ أنْ مَلَأ أسماعَ المسلمين شرقًا وغربًا بأنَّ شريعةَ الإسلامِ أوسعُ وأرحمُ بالناسِ من الأحكامِ الفقهيَّةِ المأخوذةِ حَصْرًا من المذهبِ الحنفيِّ، مذهبِ دولةِ الخلافةِ آنذاك، دُونَ سائرِ المذاهبِ الأخرى.

وتابع: أحدُ الأساتذةِ في الأزهر الشريف وكلية الحقوق وهو الدكتور محمد يوسف موسى، نشر في مجلة الأزهر في مايو 1953 مقالًا ضافيًا بعنوان: «كفانا تقليدًا في الفقه»، يُنحي فيه باللائمةِ على علماءِ الأزهرِ وزُمَلائِه من أساتذةِ كليَّةِ الحقوقِ، وهم يُردِّدون المقولةَ الشهيرة: «صلاحية الشريعة لكلِّ زمان ومكان»، ويكتفون بمجرد الترديد، ومُداعبةِ الأحلام والأمانيِّ، دون أن يخطوا خطوةً واحدةً على طريقِ تحقيقِ هذه المقولةِ، وإنزالها إلى الأرضِ، وتطبيقِها على واقعِ الناسِ وحياتِهم.

ولفت الطيب، إلى أن الدكتور محمد يوسف كان يرى أنَّ السببَ الأكبرَ في هذا الجمودِ، والعقبةَ الكبرى التي تقفُ سَدًّا منيعًا في طريقِ التجديدِ هي «عقبةُ التقليدِ الذي ران على القلوبِ والعقولِ منذُ قرونٍ طويلةٍ». وعقبة أخرى خطيرة يُسمِّيها: «الطفرة في الرغبةِ في الاجتهادِ والتجديدِ بفتحِ الأبوابِ لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ ممَّن ليسوا أهلًا للاجتهادِ»، ممَّن يرَوْنَ أنَّه آنَ الأوانُ لهذا البابِ أن يَنفتحَ على مِصراعَيْه بعدَ طُولِ إغلاقٍ، وأن نجتَهِدَ ونستحدثَ ما يُناسبُ العصرَ الذي نعيشُ فيه، وخطرُ هؤلاءِ هو أنَّهم يظنُّون أنَّ الأمرَ سهلٌ يسيرٌ، وأنَّه ما عليهم إلا أنْ يُخالفوا فتاوى الأقدَمين من رجالِ الفقه، فإذا هم مجتهدون مُجدِّدون، حتى ولو لم يكونوا على شيءٍ من الدراسةِ والعلمِ الذي لابُدَّ منه لكلِّ مَن يَقتَحِمُ هذا الميدانَ.

ورأى شيخ الأزهر أنَّ الدكتور محمد يوسف موسى -رحمه الله- أصابَ كَبِدَ الحقيقةِ حين لَفَتَ الأنظارَ إلى أنَّ علةَ الجمودِ والعجزِ عن التجديدِ علةٌ مُركَّبةٌ من عُنصرٍ كسولٍ وعنصرٍ مُتهوِّرٍ، وأنَّ كُلًّا من هذين العُنصرَيْن المتنافرين يُغري الآخَر بالصُّمودِ في معركةٍ خاسرةٍ، ويمدُّه بأسبابِ التعويقِ والفشل الدائم، وهذه مشكلةٌ شديدةُ التعقيدِ لا تزالُ تعملُ عملَها المشؤومَ حتى يومِ الناس هذا.

وأضاف: لا أزالُ أنا شخصيًّا أشعرُ بشيءٍ غيرِ قليلٍ من الإحباطِ كُلَّما فكرت في حَلٍّ مناسبٍ لها. مضيفًا: حين نقرأ كلامِ أَئِمَّةِ الفِقْهِ نجد تَحْذيرًا واضِحًا ونَهْيًا صَرِيحًا عن التَّقْليدِ، باعْتبارِه طريقًا يُفْضِي -لا مَحَالَةَ- إلى الجُمُودِ وقَتْلِ مَلكةِ التَّفكيرِ والإِبْداعِ، تَقْرأُ كُلَّ ذلك في عباراتٍ لا تَقْبَلُ التَّأْويلَ، مثل قولِهم: «لا تُقْلدْني» وقَوْلِهم: «خُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا» وقَوْلِهم: "يَتَّبعُ الرَّجلُ ما جاء عن النَّبيِّ وعن أصْحابِه، ثمَّ هو من بَعْدُ في التَّابِعينَ مُخَيَّرٌ". وهذه المَأْثوراتُ تُمَثِّلُ مَرْوياتٍ صَحِيحةً للإِمَامِ أَبي حَنِيفةَ والإمامِ أحمدَ والإمامِ الشَّافعيِّ والإمامِ مالكٍ، رضي الله عنهم.

واختتم الحلقة بالقول: لا أُريد أن أُوهمك -أيها المشاهد الكريم! - بأنني أعُدُّ نفسي واحدًا من علماءِ التجديد، أو فُرسانِ الاجتهادِ؛ فأنا دُونَ ذلك بكثيرٍ، ولكنِّي لا أُنكر أنَّني واحدٌ من هؤلاء الذين أرَّقَهم هذا الجمودُ منذ زمنٍ طويلٍ جدًّا، بَدَأَ مع التنقُّلاتِ بين القُرى ومدنِ الصعيدِ ومدينةِ القاهرةِ، وبعضِ المدن الأوروبية والعربية والآسيوية، ومشاهدة المفارقات التي تذهبُ من أقصى النقيضِ إلى أقصاه الآخَر، وبرُغم أنَّ الأزهرَ الشريف قد وُجِّهَتْ إليه في الآوِنةِ الأخيرةِ؛ تهمةَ الجمودِ ورفضِ التجديد، فإنِّي أُؤكِّدُ لله، ثم للتاريخ أنَّ الأمرَ لم يكن أبدًا كذلك.. بل إنَّ الأمرَ كلَّه كان بعكسِ ما قِيلَ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

WhatsApp
Telegram