تحدثنا في مقالنا السابق عن الآراء المستنيرة التي نادى بها رفاعة رافع الطهطاوي، حول تحرير المرأة، وضرورة منحها حقها في التعليم، والعمل، وتبوء المناصب القيادية في الدولة، مثلها في هذا مثل الرجل، معتبرًا أن المساواة بينهما مسألة بديهية ولا تتعارض مع تعاليم الإسلام كما يزعم البعض.وقد كان رفاعة، شجاعًا إلى أبعد الحدود، وسابقًا لعصره في دعوته التي أكد خلالها أن المرأة والرجل متساويان، وبالأخص حين تبنى القول بأن الذكورة والأنوثة لا تتعدى كونها مسألة تباين وتضاد، ولا ترقى بأي حالٍ من الأحوال أن تكون ذريعة أو حجة تُمكن الرجال من استعباد النساء وحرمانهن من حقوقهن؛ ثم ذهب إلى أبعد من هذا حين نادى بوجوب مراعاة اختيار الفتاة، واحترام مشاعرها، وتقدير حبها للرجل الذي ارتضته شريكًا لحياتها، وطلب من أولياء الأمور النزول على هواها عند الزواج، وعدم إجبارها على الارتباط بزوج لا تحبه.
والمتتبع لسيرة هذا الأزهري المستنير، يجد أنه آثر في آرائه التقدمية أن يجعل من نفسه أنموذجًا يعكس التطبيق العملي لأطروحاته، ولم يكتفِ بالدعوة قولًا دون العمل، ويظهر هذا التطبيق جلي الوضوح في رفضه لتعدد الزوجات، تلك المسألة التي مازال الجدال دائرًا حولها حتى اليوم.
ولم يكن رفض رفاعة، لمسألة تعدد الزوجات إنكارًا لمشروعية هذا الأمر، بل كان فهمًا راقيًا وصحيحًا للآية القرآنية؛ فهو لم يفتي بحرمانية التعدد، ولكنه أكد أن مشروعيته مشروطة ومحددة في الإسلام بضوابط صارمة ومعقدة جدًا؛ لأن التعدد فرعٌ والأصل هو الزوجة الواحدة.
وانطلق رفاعة، في رؤيته التجديدية، من التأكيد على أن تعدد الزوجات أمرٌ مضرٌ بالمجتمع والأسرة والأبناء على حد سواء، ونفعه الوحيد - إن وجد - مقرون بتحقق العدل بين الزوجات، والعدل أمر مُحال الإدارك؛ لأن الله تعالى يقول: «وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ» (النساء: 129).
رفض رفاعة، تعدد الزوجات دون مبرر، وأصر على هذا الرفض متحديًا فريق الجمود الذي كان يُحكم قبضته على مفاصل الحياة المصرية وقتئذ، ولم يرضى هذا الأمر لنفسه، وطبقه عمليًا عند زواجه؛ إذ صمم على عقد الزواج بنفسه، وتعهد - في وثيقة الزواج التي كتبها بيده - لـ«ابنة خاله» بعدم الزواج من امرأة أخرى، ولنقرأ ما خطه هذا الأزهري المستنير بيده، وسأنقل نصه كاملًا من كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»:
«التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوي رافع، لبنت خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلي الأنصاري، أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيًا ما كانت، وعلق عصمتها على أخذ غيرها من النساء، أو تمتع بجارية أخرى؛ فإذا تزوج بزوجة أيًا ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك اليمين، ولكن وعدها وعدًا صحيحًا لا ينتقد ولا ينحل أنها ما دامت معه على المحبة المعهودة مقيمة وعلى الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها مساكنة معه في محل سكناه لا يتزوج بغيرها أصلًا ولا يتمتع بجوار أصلًا ولا يخرجها من عصمته حتى يقضي الله لأحدهما بقضاء. هذا ما انجعلت عليه العهود وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك وملائكته ورسوله وإن فعل المذكور خلافه كان الله تعالى هو الوكيل العادل للزوجة المذكور، ويقتص لها منه في الدنيا والآخرة، وهذا ما انجعل عليه الاتفاق وكذلك إن أتعبته فهى الجانية على نفسها».إن عقد زواج رفاعة الطهطاوي، يستحق بإقتدار أن يصبح وثيقة من وثائق حرية المرأة، وقانونًا يحميها من جور وظلم بعض المتنطعين الذين زعموا أن استبدال الزوجة تلو الأخرى حقٌ مكفول لهم بنص القرآن، وهم في مزاعمهم هذه يحرفون النص ويلوون عنقه خدمةً لأغراضهم الدنيئة.
ومثلما كان رفاعة، سباقًا في رفضه لتعدد الزوجات، كان أيضًا سباقًا في طرح رؤية تجديدية هادئة حول قضية الحجاب، فنراه يرفض بالكلية فتاوى شيوخ عصره التي ربطوا فيها بين ارتداء الحجاب وبين العفة، وزعموا أن المرأة المتبرجة زانية ومستباحة العرض، ليؤكد أن عفة المرأة وحفاظها على نفسها غير مرتبطة بأي حالٍ من الأحوال بستر الوجه أو كشفه، بل إن الأمر برمته يعود إلى غرس الوالدين وأفراد الأسرة، وهذا الغرس يتمثل في التربية التي تدور عليها أخلاق الفتاة؛ فإن كانت حسنة جعلت منها إنسانة تحترم الآخرين وتلتزم بالحشمة والوقار، وإن كانت سيئة حولتها إلى فتاة طائشة متغطرسة.
يقول رفاعة، في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»: «كثيرًا ما يقع السؤال من جميع الناس عن حالة النساء عند الإفرنج وكشفهن عن حالهن الغطاء، وملخص ذلك أن عفة النساء لا تأتي من كشفهن أو سترهن بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة».
إن المتتبع لسيرة هذا الأزهري المستنير، يجد أنه انطلق في هذا المنحى الفريد من نوعه متسلحًا بعقيدة راسخة قوامها أن الظلم الواقع على المرأة يرجع إلى النصوص التراثية المتشددة، والتقاليد الاجتماعية الخاطئة أو «العوائد المحلية المشوبة بجمعية جاهلية» - وفقًا لتعبيره -، والإسلام من هذا الظلم برئ، ولذلك فإن الطريق إلى تحرير المرأة ومنحها حقوقها يبدأ من تغيير العقول الجامدة، والسبيل إلى هذا التغيير يكمن في الامتثال إلى المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية.
لقد كان رفاعة، صاحب عقلية متحررة من قيود الجمود، ولم يكن في يومٍ من أيام حياته أسيرًا في سجن «تقديس أقوال السابقين» و«التعبد بآرائهم»، ولعل الفضل في هذا يرجع إلى أستاذه الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة ما بين 1830 وحتى 1835 م؛ إذ أنه رأى في رفاعة خير مؤتمن على مشروع النهضة والتجديد في الفكر الإسلامي الذي آمن به العطار وصاغه في مؤلفاته، وقد كان التلميذ عن حُسن ظن الأستاذ.
ويكفي لمن يريد استيضاح جوانب المشروع الإصلاحي لرفاعة الطهطاوي، أن ينظر إلى هذا الجانب المشرق من الفهم السليم الذي يؤكد من خلاله رفاعة أن الأحكام والمبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية كفيلة باستيعاب كل التحولات الطارئة على المجتمع العربي والإسلامي، وهي قابلة للتجدد والتطور وليست جامدة كما يزعم البعض، وهو الفهم الذي مكنه من صياغة مشروع إصلاحي تنويري جديد لمسايرة مستجدات عصره.
للتواصل مع الكاتب:
m.lotfyeuon99@gmail.com