اعلان

علم أصول الفقه

علم أصول الفقه من أجل العلوم الإسلامية، وهو من العلوم التي تميز بها التشريع الإسلامي الذي لم يسبقه إلى مثله تشريع آخر، وقد صنف العلماء السابقون فيه مصنفات قيمة، وقد برز في التصنيف فيه مذهبان الأول سمي بمذهب الحنفية، والثاني بمذهب الشافعية أو مذهب المتكلمين، وهما توأمان متقاربان، والفارق بينهما أن مذهب الحنفية يؤصل القواعد الأصولية منطلقا من الأحكام الفروعية التي تنضوي تحتها، أما المذهب الثاني فيقوم بافتراض القواعد الأصولية أولا، ثم يبحث عن الفروع الفقهية التي تتسق معها.

إلا أن كتابات ومصنفات سلفنا الصالح في هذا العلم – على أصالتها وأهميتها ودقتها- لا تحول دون متابعة التأليف والكتابة فيه من قبل المحدثين، لا للزيادة على ما ضمته مصنفات السلف الصالح من المبادئ والقواعد، وإنما لتسهيل وتيسير ما كتبه أولئك الأعلام، بلغة سهلة مبسطة تناسب الطلاب المبتدئين في هذا العلم، فتسهله لهم وتقربه إلى أذهانهم بلغتهم، وذلك بالنظر إلى أن هذا العلم هو من أصعب العلوم، لاعتماده على التصور العقلي المجرد، حتى إذا ما قوي ساعدهم فيه رجعوا إلى مصنفات علمائنا السابقين التي لا زالت وستبقى المعين الثر لهذا العلم.

وقد ضم كتابي هذا مجموعة بحوث من بحوث هذا العلم، وهي:

1 – مقدمة عن تعريف علم أصول الفقه، ونشأته، وطرقه، وأسباب اختلاف الفقهاء.

2 - المصادر التشريعية الأصلية والتبعية.

3 - ومباحث الحكم الشرعي.

وهي من أهم بحوث هذا العلم، وأرجو من الله تعالى العلي القدير أن يوفقني في مستقبل الأيام للكتابة في باقي بحوث هذا العلم.

كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بكتابي هذا طلاب العلم، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يعفو عما يكون قد زل به القلم أو أخطأه الفكر، والله تعالى من وراء القصد، وهو أجل وأعلم.

والحمد لله رب العالمين.

ABSTRACT

The science of jurisprudence for the Islamic sciences, which is characterized by the Islamic legislation which was not preceded by another legislation, and the former scientists classified valuable works, has emerged in the classification of the first two denominations called the doctrine of the Hanafi, and the second doctrine of Shafi'i or the doctrine of speakers, And the difference between them is that the doctrine of the tap strengthens the fundamentalist rules starting from the provisions of the Frwi, which fall under it, while the second doctrine is based on the assumption of fundamentalist rules first, and then looking for the branches of jurisprudence that are consistent with them.

However, the writings and works of our righteous predecessor in this science - in their originality, importance and accuracy - do not prevent the continuation of writing and writing by the modernists, not to increase the annexation of the works of the righteous advances of principles and rules, but to facilitate and facilitate what they wrote in simple language The students are beginners in this science, making it easy for them and bringing them closer to their minds in their own language, since this science is one of the most difficult sciences, relying on abstract mental perception, even if strong helped them returned to the work of our former scientists who are still and will continue to be assigned to this science.

My book has included a research group from the research of this science, namely:

1 - Introduction to the definition of the doctrine of jurisprudence, and its origin, methods, and the reasons for the difference of scholars.

2. Original legislative sources and subordination.

3 - The scholars of Sharia.

It is one of the most important researches of this science, and I ask God Almighty Almighty to help me in the future of days to write in the rest of the research of this science.

As the Almighty asked him to benefit from the writing of this students of science, and to make him sincere to his face, and to forgive what was kicked by the pen or mistaken thought, God Almighty from behind the intent, and I know.

and thank Allah the god of everything.

 

أ.د.أحمد الحجي الكردي

أستاذ في كلية الشريعة من جامعة دمشق سابقا

وخبير في الموسوعة الفقهية

وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت

تمهيد

تعريف علم أصول الفقه:

ينظر علماء أصول الفقه إلى تعريف هذا العلم من زاويتين اثنتين هما:

أ - أنه مركب إضافي يتألف من كلمتين هما أصول، وفقه.

ب- أنه علم مستقل له أبحاث قائمة بذاتها.

وعلى ذلك يكون لعلم أصول الفقه تعريفان لدى العلماء، الأول من حيث إنه تركيب إضافي، والثاني من حيث إنه لقب لعلم قائم بذاته.

ولا بد من شرح هذين التعريفين للوقوف على حقيقة هذا العلم ومعرفة كنهه.

ونبدأ بشرح التعريف الإضافي:

شرح التعريف الإضافي لعلم أصول الفقه وبيان محترزاته:

نحن في تحليلنا لهذا التعريف أمام كلمات ثلاث لابد من تحليلها كل على حده، وهي: علم، وأصول، وفقه، فإن من مجموع معانيها يتضح معنى هذا العلـم.

معنى العلم في اللغة(1):

العلم في اللغة يقع على أحد معان ثلاثة، هـي:

1- المعرفة مطلقا، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عـم

والمعرفة هذه تشمل اليقين والظن والشك والوهم.

2- اليقين، وهو القطع الذي ليس فيه احتمال للنقيض مطلقا ومنه قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)(محمد:19)، وعلى ذلك يخرج عنه الظن وما كان أدنى منه.

3- الشعور، ومنه قولهم: علمته وعلمت به، أي شعرت بوجوده أو دخوله.

والعلم إذا كان بمعنى المعرفة أو الشعور تعدى إلى مفعول واحد، وإذا كان بمعنى اليقين تعدى إلى مفعولين.

تعريف العلم في الاصطلاح:

يطلق العلم في الاصطلاح الشرعي على أحد معان ثلاثة أيضا، هي:

1- معرفة المسائل والأحكام والقضايا التي يبحث فيها العالم، سواء أكانت هذه المعرفة قاطعة أو مظنونة.

2- المسائل والقضايا التي يبحث فيها العالم نفسها، وعلى ذلك يقال: هذه البحوث من علم كذا، وتلك ليست من علم كذا، أي من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول، وهو (المعلوم).

3- القدرة العقلية المستفادة للعالم بنتيجة ممارسته قضايا العلم ومسائله.

فيقال: فلان صاحب علم، أي له ملكة يستطيع بها تفهم القضايا المعينة.

معنى الأصول لغــة(1):

الأصول في اللغة جمع أصل، وهو أسفل الشيء وأساسه، يقال: أصل الحائط ويقصد به الجزء الأسفل منه، ثم أطلق بعد ذلك على كل ما يستند ذلك الشيء إليه حسا أو معنى، فقيل أصل الابن أبوه، وأصل الحكم آية كذا أو حديث كذا، والمراد ما يستند إليه.

معنى الأصول في الاصطلاح الشرعي:

ويطلق الأصول في الاصطلاح على معان عدة، أهمهــا:

1- الدليل الشرعي، فيقال أصل وجوب الصوم قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة:185). أي دليله.

2- الراجح، كقولهم: القرآن والسنة أصل للقياس والإجماع، أي راجحان عليهما.

3- القاعدة، كقولنا: (الضرر يزال) أصل من أصول الشريعة، أي قاعدة من قواعدها.

4 - الحال المستصحب، كأن يقال: الأصل في الأشياء الطهارة، أي الحال المستصحب فيها كذلك.

5 - المسألة الفقهية المقيس عليها، كأن يقال: الخمر أصل لكل مسكر غيره. أي أن كل المسكرات فروع تقاس على الخمر.

والمعنى المراد للأصوليين من إطلاق كلمة أصل هو المعنى الأول، وهو الدليل، وعلى ذلك فإن معنى أصول الفقه هو أدلة الفقه، وقد قصره الأصوليين على الأدلة الإجمالية دون الأدلة التفصيلية التي تدخل في تعريف الفقه، كما سنرى، وسوف نبين الفرق بين الدليل الإجمالي والدليل التفصيلي قريبا بإذن الله تعالى.

معنى الفقه لغــة(1):

الفقه في اللغة الفهم مطلقا، وهو من باب تعب، ويأتي بالكسر والضم بالمعنى نفسه، فيقال: فقُه وفقِه، وقيل يأتي بالفتح بمعنى الفهم وبالضم بمعنى الاعتياد على الفهم، فيقال: فقِه إذا فهم، وفقُه إذا أصبح الفهم سجية له.

وقيل الفقه هو الفهم العميق الناتج عن التفكر والتأمل، لا مطلق الفهم، ويشهد له قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) (طـه:27-28)، مع أن مطلق الفهم متيسر لهم بدون ذلك، مما دل على أن الفقه هو الفهم العميق لا مطلق الفهم.

معنى الفقه في الاصطلاح الشرعي:

عرف أبو حنيفة الفقه بأنه معرفة النفس مالها وما عليها، ولكن هذا التعريف يدخل الأحكام الاعتقادية فيه، وهي ليست من الفقه عند جمهور الفقهاء، ولذلك زاد الحنفية على هذا التعريف كلمة: (عملا) لإخراج الأحكام الاعتقادية، وأبو حنيفة في تعريفه السابق للفقه، قصد إلى إدراج الأحكام الاعتقادية في الفقه، وكان يعده كذلك، حتى إنه ألف كتابا في التوحيد سماه (الفقه الأكبر).

إلا أن المتأخرين من الفقهاء رأوا قصر الفقه على الأحكام العملية دون الاعتقادية تيسيرا على الدارسين، وذلك دون شك اصطلاح، ولا مشاحَّة في الاصطلاح.

وعرف الشافعية الفقه بأنه: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية)، وقد درج الأصوليون على اختيار تعريف الشافعية للفقه لما فيه من زيادة تفصيلية وتوضيحية لمعنى الفقه تتناوله بالتحليل، مع الإشارة إلى أنه مطابق لتعريف الحنفية للفقه ولا يخالفه، إلا في أنه ينص على ضرورة استخراج الحكم من الدليل، فلا تسمى معرفة الحكم فقها إلا إذا كانت هذه المعرفة تصل بين الحكم ودليله، وهي نقطة هامة حرية بالاعتبار، وإلا دخل كثير من العوام في زمرة الفقهاء، وهذا المعنى ملحوظ أيضا في تعريف الحنفية للفقه وإن لم ينص عليه لفظا.

هذا وقد أطلق الفقه أخيرا على الأحكام نفسها بعد أن كان عَلَما على العلم بهذه– الأحكام، ومنه قولهم: هذا كتاب فقه، أي يضم أحكاما فقهية، وذلك من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول.

تحليل تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي:

العلم:

تقدم تفصيل معناه لغة وشرعا.

الأحكام:

جمع حكم، وهو في اللغة المنع والقضاء معا، يقال حكمت عليه كذا إذا منعته من خلافة، وحكمت بين القوم فصلت بينهـم.

والحكم في اصطلاح الأصوليين هو: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا)، ويطلقه الحنفية على أثر الخطاب لا على الخطاب نفسه، وسيجيء مزيد تفصيل لهذا الموضوع في مبحث الحكم إن شاء الله تعالى.

وعلى ذلك يكون الحكم في معناه العام لدى الحنفية (الوصف الشرعي المتعلق بالفعل)، فيخرج بذلك الذوات والجمادات وغيرها.

الشرعيـــة:

ما كانت من قبل الشارع الحكيم، وهو الله تعالى، فيدخل في ذلك الأحكام الواردة عن طريق القرآن الكريم، لأنه كلام الله تعالى، وكذلك عن طريق السنة الشريفة الشريفة، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:3)، وكذلك ما كان منها عن طريق الإجماع والقياس وغيره من أدلة الشريعة، لثبوت حجية هذه الأدلة بالقرآن الكريم أو السنة الشريفة المطهرة كما هو معروف في بابه.

ويخرج بهذا القيد الأحكام اللغوية، كقولنا: الفاعل مرفوع، فإنه حكم لغوي وكذلك، – الأحكام العقلية والطبيعية وغيرها.

العمليـــة:

معناه ما يتعلق من الأحكام بأفعال العباد، فيخرج به ما يتعلق باعتقادهم، كالبحوث المتعلقة بوجود الله تعالى وصفاته والملائكة والكتب السماوية وغير ذلك من الأمور الاعتقادية التي أفرد الفقهاء لها علما مستقلا بها عرف بعلم الكلام أو علم التوحيد.

المكتسبة من الأدلـــة:

أي المأخوذة من الأدلة، فيخرج بذلك علم العوام فلا يعتبر من الفقه اصطلاحا، لخلوه عن معرفة الدليل.

التفصيليـــة:

هي الأدلة الجزئية المتعلقة بالمسائل الفرعية، كقولنا: قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103). دليل تفصيلي لوجوب الصلاة، ويخرج بهذا الوصف الأدلة الإجمالية، كالقرآن الكريم والسنة الشريفة بجملتها، فإنهما مصدر للأحكام، ولكنهما مصدر عام غير متعلق بمسائل فرعية معينة.

شرح التعريف اللقبي لعلم أصول الفقــه:

عرف الشافعية علم أصول الفقه بالمفهوم اللقبي له بقولهم: (هو معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد).

المعرفـــة:

معناها في اللغة العلم بالشيء بعد سبق الجهل به، ولا تكون إلا كذلك، بخلاف العلم، فإنه قد يكون كذلك فيكون مرادفا لها، وقد يكون تأكيدا لعلم سابق، أي إن بينهما عموما وخصوصا مطلقا، وقد ذكر الشافعية المعرفة هنا دون العلم للاحتراز عن علم الله تعالى القديم الذي لم يسبقه جهل أبدا.

دلائل الفقـــه:

هي أدلته، وفيه احتراز عن معرفة دلائل غير الفقه، كالنحو وغيره، وعن معرفة غير الأدلة، كمعرفة الفقه وغيره، والمراد بالأدلة الفقهية إجمالا هنا العلم بمصادر الفقه الإسلامي الأصولية منها والتبعية.

إجمــــالا:

فيه احتراز عن الأدلة التفصيلية، فهي ليست من علم الأصول، والفرق بين الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية أن الأولى غير متعلقة بمسائل فرعية محددة، بخلاف الثانية. فقولنا (الأمر للوجوب) دليل إجمالي، لأنه غير متعلق بمسائل فرعية محددة، بخلاف الثانية. فقولنا: (الأمر للوجوب) غير متعلق بمسألة معينة، فهو دليل على وجوب الصلاة من قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) وهو دليل على وجوب الزكاة من قوله تعالى: (آتوا الزكاة)، وهكذا، أما الأدلة التفصيلية فهي متعلقة بأحكام فرعية محددة بذاتها، كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة)، فإنه دليل على وجوب الصلاة دون غيرها.

وكيفية الاستفادة منهـــا:

أي كيفية استخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية، فيدخل في ذلك كل أنواع الأصول تقريبا، لأنها ضوابط تبين كيفية استخراج الحكم الشرعي من دليله تفصيلي.

وحال المســتفيد:

يدخل في شروط من يصح تصديه لاستنباط الأحكام، وهي شروط الاجتهاد، ويفرق فيه بين المجتهد والمقلد وأحكام كل.

وعرف جمهور الفقهاء -وفيهم الحنفية والمالكية والحنبلية- أصول الفقه بأنه: (العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلته التفصيلية).

تحليل تعريف الجمهــور:

العلم:

المراد به هنا المعرفة الحاصلة بطريق اليقين أو الظن، لأن بعض القواعد تكون ثابتة بطريق اليقين لقطعية الدليل ثبوتا ودلالة، وبعضها قد يثبت بطريق الظن نظرا لظنيه الدليل المثبت لها ثبوتا أو دلالة.

بالقواعد:

هي جمع قاعدة، وهي في اللغة الأساس، وفي الاصطلاح (الأمر الكلي المنضبط على جميع جزئياته) مثل قولهم: (الأمر للوجوب)، فإنه ضابط كلي غير مقتصر على حكم جزئي بعينه، بل تشمل كل أمر ورد عن الشارع، فعن طريقها عرفنا فرضية الصلاة والزكاة من قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، وعن طريقها عرفنا إلزامية العقد من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (المائدة:1)، وهكذا كل أوامر الشارع، فإنها منضبطة بهذه القاعدة الأصولية.

وينبغي الانتباه هنا إلى أن معنى العلم بالقواعد إنما هو معرفتها من مصادرها، أي استنباطها من أدلتها وليس تطبيقاً على جزئياتها، فإن تطبيقها من مهمة الفقيه وليس من مهمة الأصولي.

الكلية:

في هذا احتراز عن الأدلة الفقهية التفصيلية، فإنها ليست من علم الأصول، مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، فهو قاعدة جزئية تثبت وجوب الصلاة وليس قاعدة كلية، وذلك لارتباطه بحكم معين، بخلاف القواعد الكلية مثل قولهم: المطلق يبقى على إطلاقه حتى يظهر دليل التقييد، فإنها لا علاقة لها بحكم فرعي بعينه.

التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام:

يخرج بهذا القيد القواعد العقلية لأنها لا علاقة لها بالأحكام، وكذلك القواعد الفقهية التفصيلية التي لا تؤدي إلى استنباط الأحكام كقولهم: (الضرر يزال شرعاً) فإنها تضبط بضعة أحكام ولكنها لا تؤدي إلى استنباطها.

والأحكام: جمع حكم، وهو في اللغة القضاء، وأصله المنع، يقال حكمت عليه بكذا منعته من خلافه، ومنه قوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113)، أي يقضي، وهو في الاصطلاح الأصولي: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً)، أما في اصطلاح الفقهاء فهو: (أثر خطاب الله تعالى ..) دون الخطاب نفسه، فقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) هو الحكم عند الأصوليين، أما الفقهاء فلا يعتبرون ذلك هو الحكم، إنما الحكم عندهم هو الوجوب الناتج من هذا الخطاب.

الشرعية:

يخرج به كل الأحكام غير الشرعية، كالأحكام اللغوية والعقلية وغيرها، فقولنا الفاعل مرفوع حكم، ولكنه لغوي، ولذلك لا يدخل في علم الأصول.

من أدلته التفصيلية:

فيه احتراز عن الأدلة الإجمالية، فالأدلة الإجمالية هي المصادر التي تستنبط منها الأحكام، كالقرآن والسنة .. أما الأدلة التفصيلية فهي جزئيات هذه المصادر، مثل قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإنه دليل تفصيلي لحكم شرعي هو وجوب الصلاة.

ثم أصبح علم الأصول يطلق على القواعد الكلية نفسها بعد أن كان يطلق على العلم بها، فيقال: هذا كتاب في علم الأصول، أي يتضمن القواعد الخاصة بهذا العلم، مثل علم الفقه تماما، فبعد أن كان يطلق على العلم بالأحكام الشرعية العملية، أصبح عَلَماً على الأحكام الشرعية العملية نفسها.

موضوع علم أصول الفقــــــــه:

ذهب الآمدي من الأصوليين إلى أن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية الأربعة، من حيث إثباتها للأحكام الشرعية، فلا يبحث فيه عن هذه الأحكام إلا بطريق العرض ليتمكن من نفيها أو إثباتها.

وذهب الإمام الغزالي إلى أن موضوعه الأحكام التشريعية من حيث ثبوتها بالأدلة، فتكون الأحكام عن هذه الحيثية أصلاً وجزءاً من أجزاء هذا العلم.

وذهب الإمام سعد الدين التفتازاني مذهباً وسطاً بين المذهبين السابقين، فنص على أن موضوعه الأدلة من حيث إثباتها للأحكام والأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، فيكون بذلك كل من الأحكام والأدلة أساسا من أسس هذا العلم. وهذا هو المذهب الذي ارتضاه أكثر الأصوليين.

الفائدة من دراسة علم أصول الفقه:

لابد لكل علم من ثمرة وفائدة يقطفها الإنسان من وراء نصبه وتعبه في تتبع نظريات هذا العلم، وإذا كانت الفائدة من دراسة الفقه هي تصحيح الأعمال والأقوال وفق حكم الله تعالى، فما هي إذا الفائدة من دراسة علم أصول الفقه.

الفائدة الأصلية من علم أصول الفقه هي معرفة طرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وضوابط هذا الاستنباط، وبذلك يكون هذا العلم الأداة التي يستخدمها المجتهد في استخراجه الأحكام من أدلتها، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن علم الأصول لا يستطيع أن يستفيد منه إلا المجتهدون، بل هو مقصور عليهم، وبذلك يثار تساؤل كبير، فأي فائدة لنا من هذا العلم بعد ما أقفل كثير من الفقهاء باب الاجتهاد، وعلى التسليم بعدم إقفال هذا الباب فأي فائدة لطالب العلم العادي أو للفقيه بصورة عامة من هذا العلم إن لم يبلغ درجة الاجتهاد؟ والجواب على ذلك واضح لا لبس فيه، نعم إن الفائدة الأساسية لهذا العلم هي التبصر بقواعد الاستنباط مما يمكِّن المجتهد من استنباط الأحكام من أدلتها، وعلى ذلك لا يكون مفيداً إلا للمجتهدين فقط، ولكن لا يعني هذا أنه ليس هناك أي فائدة أخرى لهذا العلم وراء تلك الفائدة! إذ هنالك فوائد أخرى كثيرة تأتي تبعاً لتلك الفائدة الرئيسة، وأهم هذه الفوائد هـي:

1- الفائدة التاريخية، وهي اطلاع المتعلم على تلك القواعد الدقيقة التي استنبط الفقهاء بواسطتها الأحكام، ليزداد وثوقه بدقة الأحكام وأصالتها، مما يثير العزة في نفوس المؤمنين والرضا الكامل عما قدمه المجتهدون لهم من علم الفقه الذي يحتكمون إليه في كل علاقاتهم ومعاملاتهـم.

2- اكتساب الملكة الفقهية التي تمكن الطالب من الفهم الصحيح والإدراك الكامل للأحكام الفقهية، والإطلاع على طرق الاستنباط الدقيق للاستفادة منها والقياس عليها إذا ما دعت الحاجة، وهي لابد داعية إلى ذلك، فإن النصوص التشريعية والقواعد الفقهية محدودة ومشاكل الناس ومسائلهم لا حدود لها، ومن المنطقي أن لا يصلح المحدود حلا لغير المحدود، مما يضطر الفقيه عند تعرضه لبعض الوقائع التي لا نص عليها لدى الفقهاء من إعمال فكره والاستفادة من الملكة الفقهية التي احتواها في استنباط أحكام هذه المسألة على النسق الذي استنبط المجتهدون به مسائلهم وأحكامهم.

3 - الموازنة والمقارنة بين المذاهب والآراء الفقهية لبيان الأرجح والأصح والأولى بالقبول منها، استناداً إلى الدليل الذي صدر عن قائلها، فإن لكل قول من أقوال الفقهاء معياراً أصولياً خاصاً استند إليه، ولابد في الترجيح من جمع هذه المعايير والموازنة بينها على أسس علم أصول الفقه وقواعده، للوصول إلى الرأي أو المذهب الذي يشهد له الدليل الأقوى والأصح.

استمدادات علم أصول الفقه ومصادره:

لابد لكل علم من مصادر يستمد منها قواعده وأحكامه. فالفقه مستمده المصادر التشريعية، وعلم النحو والقواعد مستمده لغة العرب في جاهليتهم، بالإضافة إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فما هي مصادر أصول الفقه؟.

علم أصل الفقه مستمد من عدة علوم لا من علم واحد، فهو علوم في علم، وهو بحق كما يسميه بعض العلماء مفتاح العلوم، وهو بالجملة مستمد من العلوم التالية:

1) علم الكلام أو علم التوحيد، وذلك لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الله تعالى المشرع الأوحد، ورسله الذين ينقلون شرعه إلى أنبيائه، وهما من موضوع علم الكلام.

2) اللغة العربية بكل ما تضمنه من علوم لغوية و نحوية و بلاغية أو غيرها، وذلك لأن المصادر الأصلية للفقه وأصوله إنما هي الكتاب والسنة وهما عربيان، ولابد في فهم نصوصهما والوقوف على دقائق معانيهما من التمرس بأساليب اللغة العربية وعلومها، حتى إن بعض الفقهاء ذهب إلى أن معنى حصر الرسول الخلافة في قريش إنما هو سعة اطلاعهم أكثر من غيرهم على أساليب اللغة العربية واللهجة القرشية التي بها نزل القرآن خاصة، كما روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه شكل لجنة من كبار الصحابة لجمع القرآن بقوله: (إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش فإنه بلغتهم نزل).

3) الأحكام الشرعية، فإنها المعين الأصيل لهذا العلم، بل هي المعين الأول له، ويدخل في الأحكام الشرعية مصادرها، فيكون بذلك الكتاب والسنة المعين الأول الرافد لهذا العلم.

واضع علم أصول الفقه:

اختلف المؤرخون فيما بينهم على أول واضع لعلم أصول الفقه، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه، وألف فيه كتابه المسمى "الرسالة" فإليه يرجع الفضل في إرساء حجر الأساس لهذا العلم، وذهب آخرون إلى أن الحنفية هم أول من وضع قواعد هذا العلم، وأن الإمام أبا حنيفة ألف فيه كتاباً سماه "الرأي" ضمنه قواعد الاستدلال، وأن الإمامين أبا يوسف ومحمدا ألفا كتابين في هذا العلم أيضاً، ولكن هذه الكتب لم تصل إلينا إلا لمامات عنها في بطون الكتب، كما أن الإمام مالكاً أيضاً أشار في كتابه "الموطأ" إلى بعض هذه القواعد، وهذه الكتب كلها كانت قبل الشافعي، والحق أن علم الأصول نشأ مع نشأة الفقه نفسه، لأن استنباط الأحكام متوقف عليه، هذا إذا عنينا المعنى العام لهذا العلم، ولكننا إذا قصدنا ذلك الترتيب والتقعيد المخطوط الذي وصل إلينا عن هذا العلم كما نراه الآن بين أيدينا، فلا بد لنا من أن نعترف للإمام الشافعي بقصب السبق في ذلك، فقد كان كتابه "الرسالة" فتحا جديداً في هذا الفن، وكل ما روي من أن الحنفية سبقوا الشافعي في ذلك فما هو إلا روايات لم يدعمها الواقع، لأنه لم يصل إلينا من ذلك شيء رغم وصول كل كتبهم تقريباً وفي طليعتها كتب ظاهر الرواية للإمام محمد، هذا مع الإشارة إلى أن كتاب الرسالة للإمام الشافعي لم يستوف كل أبواب الأصول وقواعده، ولكنه أرسى المبادئ الأساسية التي كانت في مستقبل الأيام منطلق الأصوليين ومستمسكهم في مؤلفاتهم ومطولاتهم، رغم أنه ألف في أصول الفقه إلى جانب كتابه الرسالة عدة كتب متفرقة، أهمها كتاب: (جماع العلم)، وكتاب: (إبطال الاستحسان).

وقد تتابع العلماء والمؤلفون على التأليف في هذا العلم والزيادة على ما أتى به الشافعي في كتبه المتقدمة، فجاء الإمام أحمد تلميذ الشافعي رضي الله تعالى عنهما وألف كتبه: (طاعة الرسول) و(الناسخ والمنسوخ) و (العلل) ونسج العلماء بعده على نسجه وساروا على منواله.

وقد انقسم الأصوليون في تآليفهم بعد ذلك إلى طرق ثلاثة، لكل طريق من هذه الطرق منهجها الخاص في التأليف والتبويب، وهذه الطرق هي:

1- طريقة المتكلمين أو الشافعية: وهذه الطريقة أرسى قواعدها الإمام الشافعي رضي الله عنه، وسار على هديها بعده عدد من الفقهاء والأصوليين، وتمتاز هذه الطريقة بالبدء بالكلِّي والنزول منه إلى الجزئي، فتبدأ بالقاعدة الأصولية فتنقح وتصفى ويستدل لها بالأدلة الكافية، دون النظر إلى موافقتها للفروع الفقهية المنضبطة بها بادئ ذي بدء، فإذا ما وقفت هذه القاعدة على قدميها أمكن التفريع عليها وضبط الأحكام بها، ولذلك نرى أن الأصوليين الذين ألفوا على هذه الطريقة لا يعنون كثيراً بالفروع الفقهية لعدم حاجتهم إليها.

2- طريقة الحنفية: هذه الطريقة عرفت بالحنفية لأنهم تفردوا بابتكارها والسير عليها والتأليف على منوالها دون غيرهم، ثم عمت في جميع المذاهب بعد ذلك، وهذه الطريقة تقوم على النظر في الأحكام الفرعية وجمع المتناظر والمتشابه منها والخروج من ذلك إلى قاعدة أصولية تضبط كل هذه الأحكام المتماثلة، ذلك أن أئمة الحنفية لم تقع أيدهم على كتاب مؤلف في علم أصول الفقه في مذهبهم كما تسنى للشافعية بوقوفهم على كتاب الرسالة للشافعي، مما اضطرهم إلى تتبع الأحكام المذهبية واستنباط القواعد الأصولية والمعايير الفقهية التي تضبطها وتنطلق منها، إذ أنه لابد للفقيه عند استنباطه هذه الأحكام من أدلتها من ملاحظة بعض المعايير والقواعد، وهذه المعايير والقواعد هي موضوع علم أصول الفقه، ولذلك فإننا نرى أن كتب أصول الحنفية مليئة بالفروع الفقهية، لأنها المصدر الأصلي للقواعد الأصولية لديهم، فلا تقوم القاعدة إلا إذا اجتمع لها من الفروع الفقهية ما يبرر قيامها.

وعلى ذلك فإننا نرى أن قاعدة (الأصل في الأمر الوجوب)، قاعدة أصولية عند كل من الحنفية والشافعية، إلا أن الفريقين يختلفان في طريق الوصول إليها.

فالشافعية يصلون إليها عن طريق أن الأمر يتضمن الطلب، وأن الطلب من الشارع إلزام، والإلزام في أصله إيجاب، وهكذا ينظمون المقدمات والحيثيات حتى يصلوا إليها عن طريق استقصاء الفروع، فيقولون قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (البقرة:43)، جاء بصيغة الأمر، وهو هنا للوجوب بالإجماع، ثم قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة:43)، جاء بصيغة الأمر أيضاً، وهو للوجوب بالإجماع …، فمن ذلك نستدل على أن الأمر إنما وضع في الأصل للوجوب.

3- طريقة المتأخرين: هذه الطريقة وسط بين الطريقتين السابقتين، تجمع محاسنهما وتتجنب كثيراً من مآخذهما، وقد أطلق عليها بعض العلماء طريقة المتأخرين، لأن أكثر الذين انتهجوها هم من المتأخرين، وإن كان قد كتب على منوالها بعض المتقدمين أيضاً، وهذه الطريقة تعنى بالفروع الفقهية بقدر ما تعني بإثبات الأصول والقواعد الكلية، فهي تنشئ القواعد الكلية وتقيم عليها الأدلة والبراهين، مع ملاحظة ما ينضبط تحت هذه القاعدة من الفروع، وبذلك يستغنون عن اللجوء إلى كثير مما يضطر إليه غيرهم من الاستثناءات من القواعد التي قعدوها عند التفريع.

أهم الكتب والمؤلفات الأصولية:

لكل طريقة من تلك الطرائق الثلاث المتقدمة مؤلفات خاصة بها، و مؤلفون نذروا أنفسهم للتأليف على نسقها، وأهم هذه المؤلفات ما يلي:

على طريقة المتكلمين أو الشافعيين:

1ـ كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وإن كان الكتاب يعتبر أصلا لهذه الطريقة وليس من مؤلفاتها لأنه ليس مستكملاً لفروع العلم ونظرياته.

2ـ كتاب المعتمد لأبي الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي الأصل، والمتوفى سنة 423هـ.

3ـ كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني الشافعي المتوفى سنة 478هـ.

4ـ كتاب المستصفى للإمام الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505هـ.

5ـ كتاب المحصول للإمام فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى سنة 606هـ. وهو جامع لكل من المعتمد والبرهان والمستصفى مع زيادات وشروح.

6ـ الإحكام في أصول الأحكام للآمدى الشافعي المتوفى سنة 631هـ. ويعتبر كتابه هذا جامعاً للمحصول مع زيادة شروح وتوضيحات.

7ـ كتاب المختصر لابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646هـ.

8ـ كتاب المنهاج للبيضاوي الشافعي المتوفى سنة 685هـ، وعليه شرح للإمام الإسنوي.

على طريقة الحنفيين:

1ـ كتاب الأصول لأبي الحسن الكرخي المتوفى سنة 340هـ.

2ـ كتاب الأصول لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة 370هـ. وهو أوسع من الكتاب الأول وأكثر تفصيلاً منه.

3ـ كتاب (تأسيس النظر) للإمام الدبوسي المتوفى سنة 431هـ، وهو رسالة صغيرة أشار فيها المؤلف إلى الأصول التي اتفق أئمة المذهب الحنفي مع غيرهم أو اختلفوا فيها.

4- كتاب (أصول البزدوي) للإمام فخر الإسلام البزدوي المتوفى سنة 483هـ. وهو كتاب سهل العبارة، ويعد بحق أوضح الكتب التي ألفت على طريقة الحنفية في الأصول.

5- كتاب (الأصول) لشمس الأئمة السرخسي صاحب كتاب المبسوط في الفقه الحنفي، وهو كتاب واسع العبارة كثير التفصيلات.

6 - كتاب (المنار) للنسفي المتوفى سنة 790هـ.

على طريقة المتأخريــن:

1- كتاب (بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام) تأليف أحمد بن علي الساعاتي البغدادي المتوفى سنة 694هـ، فقد جمع بين كتابي البزدوي – والإحكام للآمدي كما هو واضح من اسمه.

2- كتاب (تنقيح الأصول) للإمام صدر الشريعة عبد الله بن مسعود البخاري- المتوفى سنة 747هـ وهو عبارة عن تلخيص لكتب البزدوي، والمحصول للرازي- والمختصر لابن الحاجب، ثم شرحه المؤلف نفسه نظرا لغموض بعض عباراته في كتاب سماه: التوضيح في حل غوامض التنقيح.

3- كتاب التلويح على التوضيح، وهو شرح هام جدا لكتاب التوضيح السابق، ألفه الإمام التفتازاني. هذا ويعتبر بحق أن كتاب التنقيح وشروحه عمدة العلماء والطلاب – المختصين بهذا العلم.

4- جمع الجوامع لتاج الدين عبد الوهاب السبكي الشافعي المتوفى سنة 771هـ، وعليه شرح هام لجلال الدين المحلي الشافعي، وحاشية قيمة للبناني مطبوعة في الهامش.

5- كتاب التحرير لكمال الدين بن الهمام الحنفي صاحب فتح القدير المتوفى سنة 861هـ، وعليه شرح يسمى (التقرير والتحبير) لابن أمير الحاج الحلبي المتوفى سنة 879هـ.

6- كتاب مسلَّم الثبوت لمحب الله بن عبد الشكور المتوفى سنة 1119هـ، وعليه شرح هام هو (فواتح الرحموت) لابن نظام الدين.

هذا وأود أن أشير هنا إلى أن معظم كتب أصول الفقه التي سبق ذكرها كانت كتبا مضغوطة العبارة في جملتها، كثرت فيها الاختصارات والشروح والحواشي حتى غدا بعض ألفاظها على شكل ألغاز وأحاجي، وذلك يعود لأسباب كثيرة، منها صعوبة هذا العلم واعتماده على علم المنطق كثيرا، ومنها انعدام الطباعة مما كان يضطر المؤلفين إلى اختصار كتبهم لكي يتسنى لها أن تتداول بين أيدي الطلاب والمتفرغين لهذا العلم، فتنقلب إلى أحاجي وألغاز مما كان يضطر مؤلفيها أنفسهم إلى العودة عليها بالشرح والتفصيل كي تتضح معانيها ثانية أمام الطلاب بعد أن كادت تسد بسبب ذلك الاختصار الشديد، كما حدث لصدر الشريعة في كتابه التنقيح، فإنه اضطر إلى شرحه في كتابه التوضيح بعد ما اختصره من عدة كتب سابقة حتى أغلق فهم معانيه على الطلاب، وقد أعرب عن هذا المعنى الأستاذ الجليل الشيخ محمد الخضري في كتابه أصول الفقه فقال ما نصه: (وهذه الكتب التي عنيت بأن تجمع كل شيء استعملت الإيجاز في عباراتها حتى خرجت إلى حد الإلغاز والتعجيز، وتكاد لا تكون عربية المعنى، وأدخلها في ذلك كتاب التحرير لابن الهمام، لأنك إذا جرَّدته من شروحه وحاولت أن تفهم مراد قائله فكأنما تحاول فتح المعميات، ومن الغريب أنك إذا قرأت قبل أن تنظر فيه شروح ابن الحاجب ثم عدت إليه وجدته قد أخذ عبارتهم فأدمجها إدماجا وأخل بوزنها حتى اضطربت العبارة واستغلقت، وأما جمع الجوامع فهو عبارة عن جمع الأقاويل المختلفة بعبارة لا تفيد قارئا ولا سامعا، وهو مع ذلك خلو من الاستدلال على ما يقرره من القواعد).

وإنني أرى أيضا أن من أسباب انغلاق هذه العبارات وتلك المؤلفات أن أكثر مؤلفيها كانوا من الأعاجم، فهم على علو قدرهم وكثرة علمهم لم يتمرسوا بأساليب اللغة العربية، ولذلك فإنا نرى العرب الأقحاح منهم جاءت مؤلفاتهم سهلة العبارة خلوا من أي تعقيد، وأصدق مثل على ذلك كتاب الموافقات للشاطبي، فهو كتاب سهل العبارة واضح المعنى لا تعقيد فيه ولا ألغاز، وهو بحق كما وصفه الشيخ الخضري حيث قال: (لا يجد معه الإنسان حاجة إلى غيره) .

ولقد جاء من متأخري الفقهاء من أدرك صعوبة خوض غمار تلك المؤلفات على كثير من الطلاب بل العلماء أيضا، فلجأ إلى تبسيط هذا العلم للدارسين وتقديمه لهم بعبارات واضحة وسهلة فاستعان في كشف ما بقي من تعقيدها بالأمثلة والشواهد المتعددة، ومن أهم هذه المؤلفات الحديثة في علم أصول الفقه.

1- كتاب أصول الفقه للشيخ محمد الخضري، وهو في نظري أنفع هذه الكتب وأجمعها لقواعد الأصول.

2- كتاب أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة.

3- كتاب علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف.

4- كتاب علم أصول الفقه للشيخ شاكر الحنبلي.

وهنالك كتب كثيرة محدثة ألفت في هذا الفن وكشفت كثيرا من غوامضه وأزالت كثيرا من أحاجيه وألغازه، وقد ذكرت أكثرها أهمية فيما تقدم.

أسباب اختلاف الفقهــــاء

بعد هذه المقدمة الموجزة لهذا العلم أرى أنه من المفيد جدا أن أتعرض لأسباب الاختلاف بين الفقهاء، فإن من الجاهلين والمغرضين من يشككون في صلاحية الشريعة الإسلامية للبقاء والخلود، ويتهمونها بالتناقض وعدم الاتساق، ويستدلون على ذلك بالخلافات الفقهية، ويعتبرون هذه الخلافات مظهرا من مظاهر الاختلال، ونحن من أجل أن نرد على تلك الاتهامات ونثبت أن هذه الاختلافات بين الفقهاء في فروع الشريعة إنما هي ظاهرة صحية، وكنز تشريعي ثمين نعتز به ونفرح له، وهي ليست بحال من مظاهر التناقض. من أجل ذلك سوف نتعرض لأسباب الاختلاف بين الفقهاء، ونتبع ذلك بالرد على من اتهم هذه الشريعة بالتناقض والاختلال لذلك.

تمهيـــــد:

لا بد من الإشارة قبل البدء في بيان أسباب اختلاف الفقهاء إلى أن الأحكام الشرعية إنما وردتنا عن الشارع الحكيم بطرق ووسائل معينة، فإرادة الشارع هي المصدر الأصلي للأحكام، ولكننا لا نستطيع الوقوف على إرادة الشارع الحكيم بشكل مباشر، لأنه أمر مستحيل، ولذلك كان لا بد من التعرف عليها من طرق متعددة، وهذه الطرق هي ما يسمى بالمصادر التشريعية.

وهذه المصادر منها ما هو قطعي الدلالة على إرادة الشارع، ومنها ما هو ظني الدلالة، بمعنى أن دلالته على إرادة الشارع منه محتملة للعكس، ولو كان هذا الاحتمال مغلوبا، ثم إن ثبوت هذه الأدلة وصحة نقلها إلى الشارع الحكيم قد يكون مقطوعا به وقد يكون مظنونا أيضا، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت لا شك في ذلك في جملته وتفصيله، لأنه ورد إلينا بطريق التواتر، وكذلك السنة الشريفة النبوية، فهي في جملتها قطعية الثبوت، ولكنها في مفرداتها ليست كذلك كلها، فإن منها ما هو متواتر قطعي الثبوت، ومنها ما هو خبر آحاد، وهو لا يكون مقطوعا به بحال، بل هو ظني الثبوت.

فالحكم المقطوع به ثبوتا ودلالة لا محل للنظر فيه، وبالتالي لا مكان للاختلاف فيه، أما الحكم المظنون إن ثبوتا أو دلالة، فهو ميدان للنظر والاجتهاد والتقدير، ولهذا فإننا نرى أن الأحكام التي تثبت أدلتها بالقطع لم يختلف فيها أحد من الفقهاء، ومن ذلك أكثر الفرائض والواجبات وكل الأحكام المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، أما الأحكام التي ثبتت بأدلة مظنونة، فهي التي كانت مثار خلاف وتقدير لدى الفقهاء، ومعلوم أن أكثر أحكام الشريعة إنما كان ظني الثبوت أو الدلالة، وذلك لحكمة كبيرة قضت بها إرادة الشارع، وهي التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم، كما سوف نوضحه في محله.

والآن سوف نستعرض أسباب الاختلاف بين الفقهاء، ثم نعلق عليها بما يرد شبهات الخصوم.

أسباب الاختلاف بين الفقهــــاء:

أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء يمكن إدراجها فيما يلي من النقاط:

1- اختلاف أساليب اللغة العربية ودلالة ألفاظها على المعاني، فإن اللغة العربية دون شك هي أوسع لغات العالم في المفردات وأدقها في التعبير، ولكنها مع ذلك – شأنها شأن سائر لغات العالم – تتعدد فيها وتختلف معاني الألفاظ، غرابة واشتراكا، كما تتراوح بين الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، إلى غير ذلك مما هو معروف في كتب اللغة وأصول الفقه من طرف دلالة اللفظ على المعنى، وحيال هذا العدد والاختلاف لابد أن تتعدد الأفهام وتختلف الاستنباطات، فتختلف بذلك الأحكام، من ذلك مثلا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(البقرة:228)، فقد اختلف الفقهاء في هذه الآية على معنى (القرء) إذ هو في اللغة اسم للحيض والطهر معا، فذهب الحنفية إلى أن المراد به في هذه الآية الحيض، واستدلوا على ذلك بأدلة وقرائن كثيرة أيضا، ومناط اختلافهم الأصلي في هذه المسألة إنما هو الوضع اللغوي لكلمة قرء، وإنها مشتركة بين الطهر والحيض معا على التساوي.

ومن ذلك أيضا اختلافهم في حكم لمس يد الرجل المرأة هل ينقض الوضوء أو لا، فذهب الشافعية إلى أنه ينقض الوضوء، وذهب الحنفية إلى أنه لا ينقضه، ومناط اختلافهم هو معنى المس الذي ورد في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:43)، فقد ذهب الشافعية إلى أن المراد بذلك هو حقيقة المس لغة، وهو حاصل بمجرد اتصال بشرة الرجل ببشرة المرأة، لأن أصل الوضع اللغوي لهذا اللفظ هو ذلك، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل هنا يقتضي العدول، وذهب الحنفية إلى أن المراد بالمس هنا ليس هو حقيقته اللغوية، بل المراد به المباشرة الفاحشة، وهي تماس الفرجين مع الانتشار، وذلك بدلالة وقرائن كثيرة مفصلة في كتب المذهب كافية في نظرهم لنقل هذا اللفظ من الوضع اللغوي إلى وضع شرعي خاص به، فمثار الخلاف إنما هو احتمال اللغة لهذا وذلك.

2- اختلاف الأئمة في صحة الرواية في الحديث، فالسنة المطهرة هي المصدر الثاني لهذه الشريعة بعد القرآن الكريم، والسنة وردت إلينا منقولة في صدور الرجال، وهؤلاء الرجال بشر يصدقون ويكذبون، كما أنهم يحفظون وينسون، ولا يمكن رفعهم فوق هذه المرتبة، كما أن العلماء الذين اقتفوا أثرهم ودرسوا حياتهم وسلوكهم رجال أيضاً، تختلف أنظارهم في الراوي، فمنهم من يراه موثوقاً به، ومنهم من يراه غير ذلك، ولذلك كان طبعياً أن يختلف الفقهاء في الاحتجاج ببعض الأحاديث دون الأحاديث الأخرى، وطبعي أيضاً أن يذهب إمام إلى ترجيح رواية راو على رواية آخر لوثوقه به أكثر، ويذهب فقيه آخر لترجيح مخالف لهذا الترجيح، اعتماداً منه على وثوقه بالراوي الآخر.

وهذا الاختلاف أدى بطبيعة الأمر إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفرعية تبعاً للاختلاف في مدى الوثوق بالراوي، كما أن اختلاف الفقهاء فيما بينهم على طرق ترجيح الروايات إذا ما تعارضت، ومدى أخذهم ببعض أنواع الحديث أو اعتذارهم عنه كان له أثر كبير في اختلافهم في الأحكام الفرعية، من ذلك مثلاً الحديث المرسل، يأخذ به الحنفية ويفضلونه على الحديث المتصل أحياناً، خلافاً للشافعية الذين يرفضون الاحتجاج بالمرسل مطلقاً، إلا مراسيل سعيد بن المسيب التي ثبت بتتبعها أنها كلها متصلة.

كما أن اختلاف الفقهاء في الأخذ بقول الصحابي وعمله وعدم الأخذ بهما كان له أثر كبير في الاختلاف، فالحنفية لا يجيزون الخروج على قول الصحابة إلى قول غيرهم، ويعتبرون قول الصحابي حجة، أما الشافعية فيجيزون الخروج على قولهم في كثير من المواضع.

3- اختلاف الفقهاء فيما بينهم على قوة الاحتجاج ببعض المبادئ والقواعد الأصولية، من ذلك مثلاً أن الحنفية يذهبون إلى أن العام قطعي الدلالة قبل التخصيص، فإذا دخله التخصيص نزل إلى مرتبة الظنية، أما الشافعية فيعتبرون العام ظنياً قبل التخصيص وبعده، وعلى ذلك فإنهم يجيزون تخصيص العام بالدليل الظني دون الحنفية الذين لم يجيزوا تخصيصه للمرة الأولى إلا بدليل قطعي.

ومن ذلك أيضاً اختلافهم في حمل المطلق على المقيد، فقد توسع الشافعية في حمل المطلق على المقيد فقيدوا بذلك الرقبة الواردة في كفارة الإيمان بالمؤمنة جرياً على تقييدها في كفارة القتل بذلك، خلافاً للحنفية الذين لا يقيدونها بذلك.

ومنه أيضاً اختلافهم على الاحتجاج بمفهوم المخالفة، فقد ذهب إلى الاحتجاج به الشافعية في أكثر المواضع خلافاً للحنفية الذين رفضوا التعويل عليه في أكثر المواضع.

ومنه أيضاً اختلافهم على جواز نسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة والسنة بالقرآن، فقد أجازه الحنفية والجمهور ومنعه الشافعية.

ومثل هذا كثير يعرف في كتب الأصول.

5- اختلافهم على كثير من قواعد التعارض والترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض والتناقض، وهذا الاختلاف يعتبر صدى لاختلافهم في النسخ وقواعده وشروطه، والتخصيص وطرقه وشروطه وضوابطه، إلى غير ذلك من القواعد الأصولية الخاصة بالترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، وهو مبسوط في كتب الأصول أيضاً.

5- اختلافهم في القياس وضوابطه، فالفقهاء مع اتفاقهم على الاحتجاج بالقياس والاستدلال به ـ عدا الظاهرية ـ يختلفون في شروط القياس وشروط العلة التي يصح القياس بها ومسالكها ومناطاتها، وترجيح علَّة على أخرى عند تعارضها وطرق ثبوت العلة وغير ذلك من الاختلافات المشروحة في كتب أصول الفقه. حتى أنك لا تكاد ترى أصلاً واحدا اتفقوا على القول بحجيته في القياس.

6- اختلافهم في صحة الاعتماد على الكثير من الأدلة الإجمالية، كالاستحسان الذي ذهب الحنفية إلى الاحتجاج به، وذهب الشافعية إلى عدم الاحتجاج به، حتى نقل عن الشافعي قوله (من استحسن فقد شرع)، والاستصلاح الذي ذهب إلى الاحتجاج به المالكية ولم يعتبره الحنفية أصلاً من أصولهم وإن كانوا يأخذون به ضمناً، وقول الصحابي الذي تقدم بيان اختلافهم فيه، وعمل أهل المدينة الذي ذهب إلى اعتباره المالكية دون غيرهم، حتى إنهم قدموه على القياس، وغير ذلك من الأصول الكثيرة التي اختلفوا على الاحتجاج بها أو شروط ذلك الاحتجاج وحدوده.

7- اختلاف بيئات الفقهاء وعصورهم، فقد كان لذلك أثر كبير في اختلافهم في كثير من الأحكام والفروع، حتى إن الفقيه الواحد كان يرجع عن كثير من أقواله إلى أقوال أخرى إذا تعرض لبيئة جديدة تخالف البيئة التي كان فيها، ومن ذلك ما حدث للإمام الشافعي بعد مغادرته بغداد إلى مصر، فقد عدل عن كثير من آراءه الماضية التي استقر عليها مذهبه في بغداد، وقد كثر هذا العدول حتى عد ذلك مذهباً جديداً له، ومنها عدول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه عن كثير من الآراء الفقهية نتيجة احتكاكه بالناس ومعرفته بأحوالهم، ومنها مخالفة الصاحبين أبي يوسف ومحمد لأبي حنيفة في كثير من المسائل الفقهية مخالفة قائمة على أساس تغير الزمان، حتى إنهما نصا في كثير منها على أن الإمام لو كان معهما في عصرهما لرجع عن قوله إلى قولهما، من ذلك مثلاً خيار الرؤية، فقد ذهب الإمام إلى أن رؤية المشتري لظاهر غرف الدار كاف لإسقاط خيار الرؤية الثابت له فيها، وذهب الصاحبان إلى أن خيار الرؤية لا يسقط بتلك الرؤية الظاهرة، ومناط الاختلاف بينهم أن الدور كانت في عهد الإمام تسير على نسق واحد تقريباً، فكانت رؤية الغرف من الظاهر دالة غالباً على معرفة ما في داخلها، ولكن الأمر تغير في عهد الصاحبين، وبدأ الناس يتفنون في التنسيق فكان ذلك مناطا لسقوط خيار الرؤية، فلما كان العلم بما في داخل الدار متوفراً بالرؤية الظاهرية في زمن أبي حنيفة سقط بها خيار الرؤية عنده، ولما لم يعد كذلك في زمن الصاحبين أفتيا بعدم سقوطه بها.

ومن ذلك أيضاً اختلاف الفقهاء في الشروط المعتبرة في الكفاءة في الزواج، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الكفاءة معتبرة في خمس صفات هي: الحرية، والنسب، والمال، والدين، وإسلام الآباء، وذهب محمد إلى أن الكفاءة في الدين والتقوى ليست شرطاً، وذهب أبو يوسف إلى أن الكفاءة معتبرة في كل تلك الصفات ويضاف إليها الحرفة.

وذهب الشافعية إلى أن الكفاءة معتبرة في خمس صفات، هي: السلامة من العيوب، والحرية، والنسب، والعفة، وهي: التدين والصلاح والبعد عما لا يحل، والحرفة.

وذهب الحنبلية إلى أن الصفات المعتبرة في الكفاءة خمس، هي: الدين، والنسب، والحرية، والصناعة، واليسار، وفي رواية اثنتان فقط هما: الدين والنسب لا غير،

أما المالكية، فلم يعتبروا من الكفاءة إلا الدين، والسلامة من العيوب، والحرية في قول.

وهذا الاختلاف راجع إلى اختلاف العصور والبيئات التي عاشوا فيها، وهو علامة صحِّيَّة على مرونة نصوص التشريع الإسلامي، وأخذها بمبدأ قابلية تغير الأحكام بتغير الأزمان.

ولكن ليس معنى هذا التحلل من كل النصوص الشرعية وفقاً لهذه القاعدة، فان لهذه القاعدة ضوابط كثيرة توفر لها الحماية من النزول إلى مستوى العبث والتلاعب بالأحكام، وقد نص الفقهاء على هذه القواعد بدقة بالغة، وأحاطوها بسياج منيع من القيود والشروط.

هذه هي أهم أساليب الاختلاف بين الفقهاء أوجزتها في سبع نقاط، وضربت بعض الأمثلة لها لتزيدها وضوحاً وجلاء، وليطلع الدارس من خلالها على مناط الاختلاف بين الفقهاء في فروع هذه الشريعة، وأصالته ودقته.

رد شبهات:

قدمنا في أول البحث أن كثيراً من الناس اتهم الشريعة الإسلامية بالتناقض والتخلخل وعدم الصلاحية للخلود والبقاء، استناداً إلى ما ابتنيت عليه من الخلافات المذهبية الكثيرة، حتى إنك لا تكاد تجد حكما واحدا متفقاً عليه بينهم ـ على حد قولهم ـ.

والآن بعد أن استعرضنا مواطن الاختلاف بين الفقهاء وأسبابه، نتعرض لتحليل هذه الشبهات والرد عليها، ونقدم لذلك نبذة نلقي فيها الضوء على طبيعة أسباب الاختلاف المتقدمة، فهي:

1- أسباب ترجع إلى طبيعة اللغة العربية وأساليبها، وطرق دلالة اللفظ فيها على المعنى، وهذا مالا دخل للفقهاء الذين أقاموا صرح فقه هذه الشريعة فيه أبداً، إذ إن اللغة العربية نفسها تحتوي هذه الخلافات الفقهية وتحتملها، فان في اللغة العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمشترك والمتشابه، وفيها الحقيقة والمجاز وغير ذلك، ولكل قسم ونوع من هذه الأنواع وهذه الأساليب دلالة خاصة على المعنى المراد من لفظه، فبعضها تعتبر دلالته على معناه قطعية لا مثار فيها للخلافات، وهو ما اتفقت الأنظار الفقهية فيه من غير خلاف، وبعضها ظني الدلالة على معناه، بمعنى أنه يحتمل المعنى المتبادر منه ويحتمل معان أخرى إلى جانب هذا المعنى، وقد تكون هذه المعاني متساوية في قوة دلالة اللفظ فيها على المعنى أو تفاوته، وطبعي أمام هذه الاحتمالات كلها أن تختلف الأنظار الفقهية وتتعدد الأفهام البشرية، ويكفينا دليلا على صدق نيتهم في بذل الجهد كاملا في فهم هذه النصوص أنهم اتفقوا فيما يعتبر قطعي الدلالة ولم يختلفوا فيه، فهذه أصول العقائد وأصول العبادات تثبت عن طريق القطع فلم يختلف فيها أحد من الفقهاء، من ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج، ، ومن ذلك أيضاً صفات الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة التي ثبتت بطرق قاطعة، وإذا كان الأمر كذلك فاللغة العربية هنا هي مشار الاختلاف ولا دخل للفقهاء فيه، ولا عيب فيهم إذا ما اختلفوا في بعض الأحكام تبعاً لذلك، بل العيب فيهم لو لم يختلفوا، ولا عيب في اللغة العربية إن كانت مثاراً لهذا الاختلاف أيضاً، لأن شأنها في ذلك شأن لغات العالم كله، فان هذا التعدد في قوة دلالة اللفظ على المعنى موجود في كل لغات العالم دون استثناء، هذا إذا لم تكن اللغة العربية أدق تلك اللغات كلها وأصدقها في التعبير والدلالة، بل هو الصحيح بشهادة الكتاب الأجانب أنفسهم وصدق من قال: (والفضل ما شهدت به الأعداء).

2- أسباب ترجع إلى طبيعة النفس البشرية: من ذلك مثلا اختلافهم على قبول رواية بعض الرواة أو عدم قبولهم، فإن ذلك أمر لا دخل للنزعات الشخصية فيه أبداً، بل هو أمر واقعي يفرض نفسه، فإن السنة الشريفة الشريفة كلها أو جلها رويت لنا مشافهة عن النبي  عن طريق الرجال، وطبعي أن تختلف الأنظار في توثيقهم عدالة وجرحا ونسياناً وحفظاً وغير ذلك من طرق الجرح والتعديل، فيكون الراوي الفلاني ثقة عند فلان قليل الثقة في نظر غيره، فإن النفس البشرية هذا ميزانها وذلك هو جل طاقتها، وحسب الفقيه إن يبذل الجهد كاملاً في الوصول إلى الحق في التجريح والتعديل مخلصاً لله قصده، وإننا من تقصي تاريخ هؤلاء العلماء نستدل على صدقهم وحسن نيتهم في التجريح والتعديل، وهذه كتب التاريخ خير شاهد على ذلك.

3- ومن ذلك أيضاً اختلاف أفهامهم وتغاير نظراتهم للأمور في حدود ما فطرت عليه النفس البشرية، فإن الله تعالى خلق هذه النفوس من جنس واحد هو التراب، ولكنه فاضل بينهما في العقول والأفهام، وهذا أمر لا ينكره أحد، وإن كان لهذا التفاوت في الأفهام حدود يجب أن يقف عندها فلا يتعداها إلى غيرها وإلا اعتبر شذوذاً وخروجا عما تحتمله النفس الإنسانية أو تسيغه، فالناس في الحدود العامة التي تسيغها وتحتملها هذه النفس يختلفون، ولا يجوز أن يعتبر اختلافهم هذا مطعنا في إنسانيتهم أو أداة للنيل من مدى الوثوق بهم، لأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، أي إن سنن الكون تتطلب هذا الاختلاف وتفرضه، ولو رجعنا إلى ما تغايرت فيه أفهام الفقهاء لما وجدنا فيها خروجاً عن الحد الذي تقضي به وتفرضه الطبيعة الإنسانية.

ولذلك، ولما كانت تلك هي حدود النفس الإنسانية وطاقاتها ولا يمكن أن ترقى إلى ما هو أعلى منه، فإنه يكفي الفقهاء فخرا أنهم نماذج إنسانية من الطراز الأول في صدقهم وإخلاصهم للحق وقوة فهمهم وعلو مداركهم ودقة نظرتهم، والتاريخ شاهد حق على كل ذلك.

4- ومنه مرونة بعض الأحكام، بحيث تكون قابلة للتغير بتغير العصور والأزمان، لأن الشرائع إنما وجدت لحماية مصالح البشرية، وهذه المصالح لا بد متطورة ومتغيرة، فما يعتبر مصلحة في زمن قد لا يعد كذلك في زمن آخر، وما يعتبر حسنا في أمة قد يعتبر سيئاً في أمة أخرى، ولما كانت الشريعة الإسلامية شريعة البشرية من يوم أرسل الله بها  إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، كان لابد لها ـ لتتضمن وتؤمن مصالح البشر دائماً ـ من أن تكون نصوصها مرنة تحتمل هذا التطور وتواكبه، ولكن ليس معنى هذا أن عليها أن تواكب كل تحول وتوافق كل تغير، فقد يكون التغير إلى أدنى، وقد يكون التغير في غير الخط الذي رسمته هذه الشريعة مما يأباه الله تعالى، ولذلك كانت هذه النصوص مرنة في حدود لا يمكن أن تتعداها، ومحتملة ولكن للمصالح التي رضي الله عنها، ثم إن هنالك من المصالح ما يعتبر ثابتاً غير قابل للتغير، أو أن الشريعة الإسلامية لا ترضى بتغيره، وهذا هو الأهم من أحكام الشريعة، من ذلك مثلاً الكبائر والفرائض، فإنها أحكام لا تقبل التغير، ولذلك كانت النصوص فيها قاطعة واضحة لا تحتمل التبديل والتغير في هذه الأحكام، كحرمة الزنى والسرقة، فإنهما من الكبائر التي ستبقى ويجب أن تبقى كذلك في كل العصور، ومن ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها، فإنها من الفرائض التي لا تقبل التغيير والتبديل، ولا يجوز أن تقبله بحال، أما الأمور التي تحتمل ذلك التغير بتغير الزمان والمكان، فإنما هي تلك الأحكام التي بنيت على العرف أو استندت في تحديدها وتقييدها إلى العرف، فإنها هي التي تتبدل بتبدل الزمان، ومن ذلك كثير من الأحكام المدنية والمالية، كالشروط العقدية، والكفاءة في الزواج، وغير ذلك مما هو مبين في كتب الفقه وأصوله، وطبيعي أمام هذا الاحتمال لتطور الأحكام الذي تتطلبه طبيعة خلود هذه الشريعة أن تختلف أفهام الفقهاء وأنظارهم تبعاً لاختلاف بيئاتهم وأزمانهم كما تقدم.

من هذا التحليل السريع لأسباب اختلاف الفقهاء نلاحظ أنه لا يوجد سبب واحد منه يرجع إلى شهوة فقيه أو ميوله الخاصة أو مصلحته الشخصية، وأنها كلها أسباب موضوعية تقوم وتنشأ أصلاً على أسس سليمة وقواعد قوية، ولا يمكن إلا أن يكون الأمر كذلك.

ولرد شبهات المغرضين المتقدمة يمكن أن نقول بإيجاز:

1ـ إن هذه الخلافات ليست شخصية حتى تكون مطعناً من المطاعن كما تقدم.

2ـ إن بعض هذه الخلافات كان نتيجة تلبية الشريعة لداعي التطور الاجتماعي وتأمين الحق لكل البشر، وليس مظهراً من مظاهر التخلخل، لأن هذه الخلافات قائمة على أسس قويمة موضوعية كما تقدم، وما كان كذلك لا يكون تخلخلاً بطبيعة الحال، بل هو بحق ثروة تشريعية تعض عليها الأمة الإسلامية بالنواجز، وتعدها كنزاً تباهي به الأمم كلها، لا سيما أن هذه الخلافات إنما كانت في فروع الشريعة لا في أصولها، لأن الأصول العامة التعبدية منها والاعتقادية والتشريعية واحدة في كل المذاهب الإسلامية المعتمدة، ولا خلاف فيها في شيء، وما تلك الاختلافات إلا في ميدان التطبيق والتفريع على هذه الأصول، مما سهل على الأمة التمسك بدينها والعمل بمنهاج ربها سبحانه، إذ أباح أن تسلك أي الطرق التي استنبطها الأئمة المجتهدون، وأن تأخذ بأي الأقوال التي قالوها لا حرج عليهم أن يدعوا قول فلان إلى قول فلان، ما دام كل منهما يسير في اجتهاده على منهج واضح وأسس مشروعة، فقد ثبت عن النبي  أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، كما روي عن عمر بن عبد العزيز  قوله: (ما أحب أن أصحاب محمد  لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة) وقد علق الإمام الشاطبي على هذا القول بقوله: (ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للدخول في هذه الرحمة)، كما أن الأستاذ الشيخ محمد أبا زهرة يعلق على قول الشاطبي هذا بقوله: (ولقد كان اختلاف الصحابة في الفروع رائده الإخلاص، لذا لم يكن بينهم تنازع في الفقه ولا تعصب، بل طلب للحقيقة وبحث عن الصواب من أي ناحية أخذ، ومن أي جهة استبان، وأن ذلك الاختلاف كان فيه شحذ للأذهان واستخراج للأحكام من القرآن واستنباط قانون شرعي عام وإن لم يكن مسطورا ..، ونحن لا نرى الخلاف في الفروع إلا ثمرات ناضجة لما بثه القرآن الكريم والسنة النبوية في نفوس الناس من الحث على البحث بعقولهم وتدبير شؤونهم بالشورى ومبادلة الرأي، مستضيئين بسنة النبي  ومستظلين بأحكام القرآن).

هذا ولا بد بعد ذكر ما تقدم من أقوال أئمة الشريعة الإسلامية من الانتباه إلى أن الكثيرين من علماء القانون والحقوق الوضعية في العصر الحديث يتباهون ويفخرون بما انحدر إليهم من تراث تشريعي ضخم عن الرومان يضم كثيرا من الآراء والنظريات المختلفة التي نظمها الفقهاء والشراح في العهد الروماني، ولا يعدون بحال تلك الآراء المختلفة والنظريات المتباينة المتناقضة أحيانا من النواقص التي يتمنون أن لا تكون في ميراثهم القانوني، ولا مظهرا من مظاهر التناقض أو التخلف أو عدم الصلاحية للبقاء والخلود ، مع أن الفقه الروماني على سعته هذه التي يفخرون بها لا يعد إلا نذرا يسيرا إذا ما قارناه بما يحتويه فقهنا العظيم من نظريات تشريعية، وآراء ومذاهب فقهية، وفروع متعددة، وثروة تشريعية ضخمة.

3- إن الله تعالى – فضلا منه وكرما – لم يحتم علينا الوصول إلى الحق ومعرفة حكمه الأصلي في كل مسألة من المسائل التي شرعها لنا، لأن هذا فوق طاقتنا، وفيه حرج كبير علينا، والحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية بنصوص تشريعية كثيرة، ولكن المفروض علينا هو بذل الجهد الكامل للوصول إلى الحق، ولذلك وردت النصوص كلها تدل على أن المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجرا واحدا، وطبعي أن المجتهد المخطئ لم يصب حكم الله الأصلي، لأن الحق لا يتعدد كما يذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يكون المصيب من المجتهدين واحدا، والباقون الذين يخالفونه مخطئين، ولكن هذا الخطأ مرفوع في الشريعة، وأن ما توصلوا إليه من أحكام جائز تقليده والعمل به رخصة من الشارع، وذلك ضرورة أننا لم نستطيع أن نجزم بالحق الذي قضى به الله تعالى في سابق علمه وإرادته، وبذلك يكون ذلك الاختلاف مأذونا به من الشارع ومرضيا عنه منه، ولا يجوز بحال أن يعد مظهرا من مظاهر التخلخل، بل هو بحق مظهر من مظاهر الواقعية والاعتراف بالقدرات البشرية المحدودة التي تقرها السلطة الإلهية وتباركها، فتجعل للمخطئ من المجتهدين أجرا رغم خطئه وعدم قدرته على الوصول إلى الحق، فحسبه في ذلك أنه بذل جهده الذي منَّ الله تعالى به عليه كاملا، ولا يمكن أن يقال: إن معنى ذلك أن كل إنسان جاهل يعمل رأيه في فهم النصوص ثم يقول هذا جهدي وأنا مأجور عليه فيأتي من الأحكام بما لم تقره شريعة ولا عقل، إذ الجواب على ذلك واضح وبيِّن لا لبس فيه، وهو أن الله أمرنا ببذل الجهد كاملا، وأدار الثواب والعقاب عليه، ولا يعد الجهد مبذولا كاملا إلا إذا حصل الإنسان الآلة التي بها يستطيع فهم الأحكام من النصوص، والآلة هذه هي ما يسميه الفقهاء والأصوليون بملكة الاجتهاد وشروطه، فما لم يحصل الإنسان هذه الآلة فهو مقصر ولم يبذل الجهد، وبذلك لا يدخل في زمرة المأجورين.

4- إن الاختلاف في فهم النصوص التشريعية لا بد منه نظرا لطبيعة تلك النصوص وما تتضمنه من احتمالات ومرونة تقتضيها طبيعة التشريع، فإنه إن كان من الأفضل أن تكون الأحكام التفصيلية والقواعد الجزئية واضحة ومحددة المعنى بصورة لا تقبل الاختلاف في فهمها، فإنه من الأفضل – دون شك – في النصوص التشريعية الدستورية أن تكون مرنة محتملة لعدة معان في حدود ما تقضي به الحاجة والضرورة، ليمكن أن تصاغ منها تلك المواد الجزئية وتلك الأحكام الفرعية على وفق الحاجة المتغيرة من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى بيئة، ولو كانت تلك النصوص محددة بحيث لا تقبل الاختلاف ولا تحتمله، لكان الناس في عسر شديد وفي ضيق، ولما أمكن الخلود لمثل هذه القواعد والأسس.

********

خاتمـــة:

بعد ذلك العرض الموجز لا بد أن ننتهي إلى أن ذلك الاختلاف بين الفقهاء في فهم النصوص وتفصيل الأحكام إنما هو مَعلم من معالم خلود هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وليس عيبا فيها مطلقا، بل العيب فيها أن لا تكون كذلك، لأن هذه المرونة التي تتمتع بها نصوص التشريع الإسلامي التي هي السبب الأول لاختلاف الفقهاء ضرورة حتمية لكل تشريع أريد له أن يدوم ويعيش في كل عصر ومصر، يؤمن العدالة والحق واليسر بين الناس جميعا على أسس موضوعية بعيدة عن النزوات والشهوات، ولا مكان مطلقا لما يطلقه بعض المغرضين أو الجاهلين بطبيعة التشريع الإسلامي وخصائصه من تهم الشريعة منها براء، ولمَ لا، فهي تنزيل من حكيم حميد يعلم السر وأخفى، خلق هذه البشرية وأنزل لها من الأحكام ما يُصلح شأنها ويقيم العدل في أرجائها، ويؤمن مصالحها على أحسن وجه وأكمل نظام، رحمة بها وحبا فيها وتخفيفا عنها، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس.

ــــــــــــــ

ــــ

(( مصادر التشريع الإسلامـي ))

تمهيــــد:

كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم.

فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية، والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي  فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي  بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته  في أكله وشربه ونومه …

وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.

وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية، ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة، إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه.

وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية، أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه.

وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول  ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم، كذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه).

لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له.

والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم، وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن، بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء، فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية، بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره.…

هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية.

والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل، ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها، وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية.

القسم الأول المصادر المتفق عليها:

القرآن الكريـــم:

تعريفـــه:

الكتاب في أصل اللغة الفرض والحكم الواجب، ومنه قول تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، أي فرضا مؤقتا، وهو من باب نصر. ويطلق أيضا على كل ما يكتبه الشخص ويرسله، فهو في اللغة يعم كل كتاب.

والكتاب في تعريف الأصوليين خاص بما أنزل من عند الله تعالى على سيدنا محمد  ، ويعرفونه بأنه: (اللفظ العربي المعجز بسورة منه المنزل وحيا على سيدنا محمد  المنقول إلينا متوترا بلا شبهة المحفوظ في المصاحف المتعبد بتلاوته).

تحليل التعريــف:

اللفظ العربي: فيه إشارة إلى أن القرآن هو اللفظ والمعنى، وليس المعنى فقط، وعلى ذلك إجماع العلماء، إلا مما نقل عن أبي حنيفة أنه لم يجعل النظم (اللفظ) ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط. حتى لو قرأ المصلي بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت صلاته عنده، لكن الأصح أن الإمام أبا حنيفة رجع عن هذا القول إلى رأي الجمهور، فجعل القرآن الكريم هو اللفظ والمعنى في حق الصلاة وغيرها على حد سواء. ولذلك لا يسمى ما ترجم من القرآن إلى أي لغة أخرى غير العربية قرآنا على هذا التعريف المتفق عليه لدى المسلمين، ولكن تفسيرا له.

المعجز بسورة منه: العجز في اللغة الضعف، وأعجزه وجده عاجزا، ومنه المعجزة لما تظهره من عجز الآخرين وقصورهم عن الإتيان بمثلها، والمعجزة في الاصطلاح الأمر الخارق للعادة،

ولا بد عند الأصوليين لتحقق الإعجاز من توفر شروط ثلاثة، هي:

1- التحـدي: بأن يكون الأمر الخارق للعادة مصحوبا بالتحدي للخصم أن يأتي بمثله، وإلا لم يكن معجزة، فيخرج بذلك كل أنواع الكرامات التي تظهر على أيدي الصالحين، لأنها غير مصحوبة بالتحدي.

2- المقتضى : بأن يكون أمام الخصم دافع لمضاهاتها والإتيان بمثلها، فلو كان الخصم غافلا عنها غير مجتهد في الإتيان بمثلها لم تكن معجزة في حقه، لأن العجز لا يظهر إلا عند التصدي أو مكان التصدي للمضاهاة.

3- انتقاء المانع: وذلك بأن لا يكون أمام الخصم أي مانع من مضاهاتها إلا عجزه المطلق، فلو كان الخصم لم يسمع بها أو لم يفهمها، فإنها لا تعتبر معجزة في حقه، لأن عجزه لا يثبت هنا مع قيام المانــع.

وقد تحقق للقرآن الكريم هذه الشروط الثلاثة:

فأما التحدي، ففي أكثر آية من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)، وأي تحد أشد من هذا التحدي.

وأما المقتضى، فهو متوفر أيضا، يدل عليه رغبة المشركين الأكيدة في تكذيب محمد  وإظهار عجزه، لما جاء به من نقض لمبادئهم وعقائدهم الفاسدة ، ومن ذلك حرصهم الشديد على قتله  وإيذائه، وتجربتهم الفعلية في مضاهاته ثم اعترافهم بفشلهم في هذه التجربة، ثم قول أمية بن خلف عندما أرسلوه ليفاوض النبي  على ترك الدعوة التي يدعوا إليها حيث قال يصف القرآن الكريم: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر)، وأمية هو من هو في فصاحته ومعرفته باللغة العربية وأساليبها.

وأما زوال المانع، فهو موجود أيضا في القرآن الكريم، لأنه بلغتهم نزل، وبين أظهرهم انتشر، وهم العرب الأقحاح الذين بلغوا الشأو في الفصاحة واللسن، فأي مانع كان يحول بينهم وبين مضاهاته إلا عجزهم عن ذلك،.

وهنا لا بد من التنبيه إلى بطلان الصرفة التي ذهب إلى القول بها بعض الناس، حيث قالوا إن إعجاز القرآن ليس ذاتيا فيه، ولكنه بصرف العرب عن مضاهاته، فهو في ذاته غير معجز، وهو في مستطاع للبشر، بل لا بد من اعتباره كذلك ليكون مفهوما لهم وواضحا أمام عقولهم ضرورة التمكن من تطبيقه والاستفادة منه، إنما هو كامن وراء صرف الله العرب عن مضاهاته، وردهم عن مجاراته.

هذا القول باطل رده جمهور العلماء، وأثبتوا للقرآن إعجازا ذاتيا على الشكل المتقدم. وردوا على ما احتج به أهل الصرفة من أن ذلك كان منهم لضرورة فهم النصوص وتطبيقها، بقولهم: إن الإعجاز ليس معناه انغلاق الفهم، بل الإعجاز لا يكون إلا بعد الفهم الكامل للمعجزة، وليس العجز عن مجاراة الشيء عجزا عن فهمه بحال، فكم هنالك من نقاد للشعر برزوا في نقدهم له ولم يتقنوا فن الشعر ولم يستطيعوه، ولم يعتبر ذلك منهم عيبا في نقدهم أو فهمهم للشعر.

وإما تقييد الأصوليين الإعجاز بسورة منه، فلأن الحرف أو الكلمة أو مادون السورة ليس بمعجز، والمقصود بالسورة أقصر سورة منه، وذلك لأن التحدي كان بذلك، فإن الله تعالى تحداهم أولا بأن يأتوا بمثله كله، ثم تحداهم بعشر سور منه، ثم تحداهم بسورة واحدة منه، كما جاء في سورة البقرة المتقدمة، وأما ما دون السورة فإنه ليس بمعجز، بل هو ممكن التقليد عقلا، ولأنه لا تحدي فيه.

المنزل وحيا على محمد  ، يخرج بهذا القيد السنة الشريفة النبوية، فإنها ليست وحيا إذ المقصود بالوحي هنا الوحي الظاهر، فإن قيل خرجت بقولنا اللفظ المعجز إذ لا إعجازا في السنة الشريفة ، قلنا المراد بهذا القيد هنا بيان المنشأ والمصدر في القرآن، لتطمئن النفس إليه، وليكون زيادة تأكيد على الفصل بين ما هو قرآن وما هو سنة.

المنقول إلينا متواترا: يخرج بهذا القيد كل القراءات الشاذة والآحادية والمشهورة، لأنها لم ترد إلينا بالتواتر، وهي الروايات فوق السبعة أو العشرة المتواترة.

ولصحة التواتر شروط ثلاثة، هي:

1- أن يبلغ عدد الرواة حدا يحيل العقل معه تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وتعدد مشاربهم ونزعاتهم وغير ذلك، فلو رواه قلة من الناس لا يكون تواترا، وكذلك لو رواه كثرة من الناس ولكن العقل لا يحيل تواطؤهم على الكذب رغم كثرتهم، فإنه لا يكون تواترا أيضا، كرواية أصحاب هوى معين شيئا يتعلق ببدعتهم أو هواهم وغير ذلك، أما العدالة واختلاف البلد فليسا شرطا، بل لو أخبر أهل بلدة كافرة بموت ملكهم فإنه يعتبر خبرا متواترا به علم يقيني بموت ملكهم.

2- أن يتوفر هذا العدد في القرون كلها، فلو روى الخبر جماعة بلغت حد التواتر في القرن الأول وما بعده إلا الثاني، أو بلغت حد التواتر في القرنين الأول والثاني دون ما بعدهما، فليس متواترا، على خلاف ما لو بلغ الرواة حد التواتر عددا في القرن الثاني وما بعده دون القرن الأول، فإنه ليس متواترا أيضا، ولكن الحنفية أفردوه باسم مستقل به وهو (المشهور)، وجعلوه مرتبة ثالثة وسطا بين المتواتر وخبر الآحاد، خلافا للجمهور الذين لم يفرقوا بينه وبين الآحاد واعتبروهما واحـدا.

وأما العدد المشروط للتواتر فلم يتفق عليه الأئمة، فمنهم من ذهب إلى أنه خمسة، ومنهم من قال اثنا عشر أو عشرون أو أربعون أو خمسون، أقوال متعددة كلها لم يشهد لها دليل، والأصح أن العدد فيه غير محدود بحد معين، بل أمره متروك للعقل، فكل عدد أحال العقل التواطؤ على الكذب معه فهو متواتر، ومالا فلا، وهو أمر يختلف باختلاف قرائن الأحوال.

3- أن يكون الخبر معتمدا على الحس من سمع وغيره، فإن كان مستندا إلى العقل لم يعتبر متواترا بحال مهما بلغ عدد رواته، ما لم يقم برهان آخر عليه.

بلا شبــهة: هذا قيد وضعه الحنفية ليخرجوا به الحديث المشهور، فإن المشهور عندهم ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وما بعدهما، وكان آحادا في القرن الأول، فإنه في مرتبة بين المتواتر والآحادي كما تقدم، خلافا للجمهور الذين لا يعتبرون للخبر إلا مرتبتين فقط، همـا: التواتر والآحاد، ولكن المشهور يخرج بالقيد الأول وهو التواتر، إذ المتواتر ما استوفي فيه العدد في القرون كلها معا، وليس المشهور عند الحنفية كذلك، فلا حاجة إلى هذا القيد، ولذلك فإنه يعتبر قيد اتفاقيا لا احترازيا، ومن المشهور في القرآن -على تعريف الحنفية له-القراءات الثلاثة بعد السبعة المكملة للعشرة، فإنها مشهورة وليست متواترة، وهنالك من الفقهاء من يعتبرها متواترة أيضا.

المحفوظ في المصاحف: هذا القيد يخرج ما نسخ لفظه وبقي حكمه من القرآن، من أمثال قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله) فإنه ليس من القرآن لعدم وروده في المصحف، والمقصود هنا بالمصاحف، المصاحف التي كتبت في عهد عثمان ، وأجمع المسلمون على صحتها، فلا يدخل فيها المصاحف الخاصة ببعض الصحابة، كمصحف أبيِّ بن كعب، ومصحف ابن مسعود وغيرهما  ، فإن فيها تفسيرات ليست من القرآن، وأل هنا للعهد، والمقصود بها مصاحف عثمان كما تقدم.

المتعبد بتلاوتـــه: يخرج بهذا القيد جميع أنواع السنة الشريفة ، ومنها الحديث القدسي، وهو وإن كان خارجا عن القرآن بقولنا المعجز، لأن الحديث القدسي غير معجز، لأن لفظه من النبي  إلا أن فيه زيادة توضيح وإشارة خاصة إلى مزية هامة في القرآن الكريم وهي التعبد بتلاوته.

شروط القرآنيــة:

من خلال التعريف المتقدم للقرآن الكريم وتحليله نستطيع استخلاص شروط ثلاثة للقراءة الصحيحة المعتبرة قرآنا، وهي:

أ - التواتر: وقد تقدم معناه وشروطه، فأما القراءة المشهورة فلا تعتبر قرآنا، ولذلك لا تصح بها الصلاة، أما الاحتجاج بها، فقد اختلف فيه الفقهاء:

فذهب الجمهور إلى أنها لا حجية فيها، وذهب الحنفية إلى أنها تعتبر في رتبة الحديث المشهور، فتفيد غلبه الظن، لأنها إن سقطت قرآنيتها فلا أقل من أن تعتبر بمثابة الحديث المشهور، من ذلك ما جاء في مصحف ابن مسعود  من قوله تعالى في كفارة اليمين: (ثلاثة أيام متتابعات)، فإن لفظ متتابعات مشهور وليس بمتواتر، ولذلك فإن الحنفية يشترطون في كفارة اليمين التتابع خلافا للجمهور.

ب - موافقة رسم المصحف: أي المصحف الذي كتب في زمن عثمان ، والموافقة المشروطة هنا هي الموافقة بالجملة، ولا تضر المخالفة في بعض الحروف أو الحركات، فإنها محتملة.

ج- موافقة اللغة العربية ولو بوجه: لأن القرآن نزل عربيا، فلا يكون منه ما فيه لحن أو عجمة بحال، وقد رد الشافعي  على من قال بأن في القرآن العربي والأعجمي بردود قاطعة، وأثبت أنه عربي محض وليس فيه من لغة غير العرب شيء مطلقا، ولكن نظرا لتعدد لغات العرب ولهجاتهم، ولاحتمال القرآن كل هذه اللهجات بالجملة نظرا لنزوله على سبعة أحرف، فقد اكتفى الفقهاء بموافقة النص القرآني اللغة العربية ولو بوجه فقط.

حجيتــه:

نقصد بكلمة الحجية الدلائل والبراهين التي تثبت أن القرآن الكريم كلام الله تعالى وأنه ممثل حقيقي لأمر الله ونهيه، ليكون حجة ومصدرا من مصادر هذه الشريعة السمحة، لأننا إذا استطعنا وصل القرآن بالله، وإثبات أنه كلامه تعالى، استطعنا إقامته حجة ودليلا من أدلة التشريع.

وقد ثبتت حجية القرآن الكريم بأدلة كثيرة منهــا:

1- إعجازه، فالقرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة تحدى بها العلمين فعجزوا عن الإتيان بمثلها، وقد ثبت للقرآن كل شروط المعجزة كما تقدم في تحليل تعريف القرآن الكريم. فإذا كان القرآن الكريم معجزا للبشر كان معنى ذلك أنه ليس في مقدور أحد منهم أنى كان الإتيان بمثله، وإذا كان الأمر كذلك فهو من الله جل وعلا، بالتالي هو حجة تشريعية.

وللإعجاز القرآني أوجه كثيرة مبسوطة في كتب علوم القرآن الكريم لا محل هنا لتفصيلها. لأنها أدخل في مقرر علوم القرآن الكريم منها في مقرر أصول الفقه.

2- ما جاء في آيات القرآن الكريم نفسه مما يدل على أنه من الله مثل قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن الكريم تنزيلا) وقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

طريقة نزولـــه:

لم ينزل القرآن الكريم على النبي  دفعة واحدة، وإنما أنزل عليه منجما على طول اثنتين وعشرين سنة تبعا للحوادث والوقائع، فكانت كلما جدت حادثة أو سئل النبي  سؤالا، أو حدثت مشكلة تحتاج إلى حل ينزل الوحي على النبي  بالآيات التي تتضمن الحل لهذه المشكلة.

وقد أوضح الله تعالى الغاية من تنزيل القرآن الكريم منجما جوابا على سؤال الكفار واعتراضهم على هذه الطريقة، فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32)، فالغاية من التنجيم إذا هي أمران، هما: تثبيت فؤاد النبي  وترتيل القرآن الكريم ، ويمكن لنا أن نلاحظ بعض الأمور الأخرى بعد هذين الأمرين، أهمها: التدرج بالأمة في التربية والإعداد، ثم تأكيد معنى الإعجاز وإظهار التحدي فيه بأجلى مظاهره، وأخيرا الزيادة في توضيح معاني القرآن الكريم وبيان مراميها.

ولذلك فإننا سنبحث في هذه الأمور الخمسة بإيجاز، بما يلقى الضوء على كنهها وحقيقتها:

أ‌- تثبيت قلب النبي  لأن القرآن الكريم كان مربيا للنبي  ومثبتا له في مقابلة ما كان يراه من قومه من مشاق وأذى بالغ، فكان تتابع القرآن الكريم عليه وصلة الوحي به طيلة مدة بعثته مثبتا لعزمه وشاحذا لهمته على متابعة الطريق في حمل الرسالة إلى آخر مدى بدليل أن الوحي كان ينقطع عن النبي  في بعض الأحيان لمدة قصيرة، فكان يجد من ذلك ضيقا بالغا، فكيف به إذا انقطع عنه سنين طويلة.

ب - ترتيل القرآن الكريم: المراد به حفظه وجمعه في الصدور لفظا ومعنى، فالعرب أمة أمية، والرسول  منهم، لا يعلم القراءة والكتابة، ولو أنزل القرآن الكريم جملة واحدة لشق على النبي  وأصحابه حفظه مرة واحدة، ولذلك كان في تفريقه حكمة بالغة لسهولة جمعه في صدورهم على هذه الطريقة، وبذلك تحقق للقرآن الكريم النقل المتواتر إلينا عن طريق هذا الحفظ، ويشير إلى هذا ترديد النبي  له طيلة يومه خشية نسيانه، مما أوقع النبي  في حرج بالغ ومشقة زائدة، حتى نزل قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (القيامة 16-17)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، عندها اطمأن قلب النبي  وهدأ روعه.

ج- التدرج في التربية والإعداد للأمة الإسلامية: فتنظم به أمورها، وقد أنزل القرآن الكريم في أمة ابتعدت عن جادة الصواب كثيرا في معتقداتها وعاداتها وتشريعاتها، ولذلك كان من العسير جدا ردها إلى طريق الصواب دفعة واحدة، فقضت حكمة الله جل وعلا أن يربيها تربية تدريجية لئلا يشق عليها ويحمàلها من أمرها عسرا، فكان التنزيل القرآني منجما مؤمنا لهذه الغاية ومحققا لهذا الهدف من اليسر ودفع المشقة عن المؤمنين، فالخمرة حرمت على دفعات، وكذلك كل الواجبات كانت تأتي على دفعات أيضا، فالصلاة فرضت أولا، ثم الصوم، ثم الحج، وهكذا كانت تأتي الأوامر والفرائض كلها لتسهل على نفس المؤمن إساغتها والعمل بموجبها، والتدرب على القيام بها.

د- تأكيد معنى الإعجاز: الإعجاز كما تقدم في تعريفه بيان عجز الغير وضعفه عن المجاراة، وتنجيم القرآن الكريم تضمن تأكيدا لهذا المعنى، إذ لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لاحتج العرب بأنهم لا يستطيعون مجاراة القرآن الكريم جملة واحدة ، ولكنهم بإمكانهم أن يأتوا بجزء منه بعد جزء، فكان مجيء القرآن الكريم منجما ردا لهذه الدعوى، بأن القرآن الكريم قد أنزل أجزاء وهو يتحداهم بكل جزء من أجزائه لا بكله فقط. وفي هذا منتهى التحدي المعجز، ثم إلى جانب ذلك فإن في انسجام آيات القرآن الكريم وتناسقها مع تنجيمها زيادة إعجاز، لأنها لو نزلت دفعة واحدة، فإن كان تناسقها مع نزولها دفعة واحدة معجزا فهو مع تنجيمها معجز من باب أولى، لأن إمكان التخلخل مع التنجيم أكثر بكثير من إمكانه مع النزول دفعة واحدة، يعرف هذا كل من عانى الكتابة والتأليف.

هـ- تثبيت معاني الأحكام وتوضيح مراميها، لأن أسباب النزول تلقي ضوءا كاشفا على طبيعة الحكم الشرعي وحدوده، ولا زال العلماء يلجؤون دائما في تفسيرهم لآيات الله إلى أسباب نزول هذه الآيات، للكشف عن الوقائع والأحداث التي أنزلت الآية والآيات بسببها، ولو أنزل القرآن الكريم دفعة واحدة لفقدنا هذا العنصر المهم في بيان أهداف الآيات ومراميها.

هذا إلى جانب أسباب كثيرة لهذا التنجيم مفصلة في كتب علوم القرآن.

أحكام القرآن الكريم وطريقته في معالجتها:

القرآن دستور الأمة الإسلامية والمصدر الأول للتشريع فيها، ولذلك نراه يبحث في كل الأمور، ويجمع شتات كل الأحكام، ويوفق بين كل الحقوق والواجبات، ولا يترك شاردة ولا واردة من أمور الدين أو الدنيا إلا وينظمها بنصوص أو بإشارات أو بتوجيه للأساس أو المصدر الذي يجب الاعتماد عليه فيها، وذلك مصداقا لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وقد روي عن بعض الصحابة  قوله: (والله لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في القرآن)، وقد روي أن جاهلا ناقش أحد أئمة المسلمين معترضا عليه في أن في القرآن الكريم كل شيء، وقال له: أين طريقة صنع السيارة في القرآن الكريم .فأجابه الإمام: هي في قوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، وبهذا يكون القرآن الكريم قد بحث في كل الأحكام، ونظم كل الحقوق والواجبات إجمالا لا تفصيلا.

ولزيادة الإيضاح نقول: أن القرآن الكريم نظم الأحكام التالية:

1- حقوق الإنسان وواجباته نحو ربه سبحانه وتعالى، اعتقادية كانت – وهو ما يسمى الآن بعلم الكلام – أو عملية – وهو ما يسمى بقسم العبادات – فأما الأمور الاعتقادية فقد شغلت أكثر القرآن الكريم ، وقد تفنن القرآن الكريم في عرضها، من ذلك قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص (1-4)، ومنها قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة:58-59) … أما أحكام العبادات، فقد تعرض لها القرآن الكريم بإجمال، وترك أكثر تفصيلاتها ودقائقها إلى السنة الشريفة الشريفة، من ذلك قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) من غير تفصيل لشروطه وأركانه وغيرها.

2- حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد أسرته، وهو ما يدخل اليوم تحت قسم الأحوال الشخصية، فقد بين القرآن الكريم حقوق الزوج وحقوق الزوجة وحقوق الوالدين وحقوق ذوي الأرحام جميعا، مالية كانت أو غير مالية، هذه الحقوق عالج القرآن الكريم قسما منها بالتفصيل لخطورتها ودقتها، فلم يترك أمر تفصيلها لأحد، بل تكفل هو بكل ذلك، من ذلك أحكام المواريث، وعالج القسم الآخر بإجمال، تاركا تفصيلها إلى المصادر التشريعية الأخرى بعد ما أرسى معالمها الرئيسية، من ذلك أحكام الزواج والطلاق وغيرها، حيث جاءت السنة وغيرها بالتفصيلات الكافية لها.

3- حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد مجتمعه، وهذه على أقسام متعددة، أهمها:

أ) الأمور والعلاقات المالية، وهي ما يدخل في قسم المعاملات، من بيع وشراء وهبة وغيرها، وهذه عالجها القرآن الكريم بشيء من الإجمال، حيث أرسى قواعدها الأساسية وخطوطها العريضة دون تعرض لتفصيلاتها التي ترك أمرها للمصادر الأخرى وللقضاء في أكثر الأحيان، نظراً لطبيعة وضرورة التطور الكامن فيها.

من ذلك قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة:1).

ب) الأحكام العقابية، وهي ما يدخل في قسم العقوبات، كالحدود والقصاص والتعزيرات، وقد جاء بعضها مفصلا لا لبس فيه ولا خفاء، وذلك لخطورتها ودقتها، من ذلك قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38)، وغيرها مما يتعلق بأنواع الحدود والقصاص، وجاء بعضها الآخر مجملا متروكا أمر تفصيله إلى القضاء، وهو ما يسمى ب(التعزيرات)، ويلحق بهذا القسم العقابي قسم الكفارات، فإن فيها معنى العقاب من ناحية ومعنى العبادة من ناحية أخرى، وهذه فصلها الله تعالى تفصيلا دقيقاً لخطورتها، من ذلك قوله تعالى في كفارة الظهار: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (القصص:3-4)، وغيرها من كفارات القتل واليمين…

ج) من الناحية الاقتصادية، فبين أحكام الزكاة مواردها ومصارفها، وقد عالج القرآن الكريم هذه الأحكام بإجمال، وترك تفصيلاتها للسنة المطهرة توضحها وتبينها وتحدد مقاديرها ومصارفها وشروطها، ومن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3)، والزكاة وإن كانت داخلة في باب العبادة فهي داخلة في باب حقوق المجتمع أيضاً، لاحتوائها على الشبهين معاً. ثم أحكام الغنائم والفيء وغيرها، وهذه ذكرها القرآن الكريم بتفصيل لأهميتها ودقتها، من ذلك قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال:41)،

د) من حيث طرق التقاضي والترافع أمام القضاء وطرق الإثبات وغيرها مما يدخل في باب المرافعات الشرعية، فقد تكلم عنها القرآن الكريم بإيجاز أيضاً، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)، وغير هذه الآية في القرآن الكريم كثير.

4- حقوق الدولة وواجباتها نحو مواطنيها وحقوقها وواجباتها تجاه الدول الأخرى، وهو ما يعرف في الإصلاح الحديث بالحقوق الدستورية والحقوق الدولية العامة والخاصة، فقد عني بها القرآن الكريم عناية كاملة، ولكنه تكلم عنها بإجمال وترك أمر تفصيلاتها للنبي  وللصحابة من بعده، لأن من هذه الأحكام ما يتغير غالباً بتغير الأزمان، ولذلك فالقرآن أرسى المعالم الرئيسة والخطوط العريضة فيها فقط، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)، وقوله تعالى في التحدث عن علاقة المسلمين بغيرهم: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة:12)، وقوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وغير ذلك من الآيات الكريمة.

ب - السنة المطهـــــرة

تعريفها:

السنة الشريفة في اللغة الطريقة المعتادة، حميدة كانت أو ذميمة، ومنه قول النبي : (من سن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .

والسنة في الاصطلاح الأصولي ما نقل عن النبي  من غير القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير، والسنة بهذا التعريف الاصطلاحي بينها وبين الحديث عموم وخصوص مطلق، إذ الحديث هو قول النبي  أما السنة الشريفة فقوله أو فعله أو تقريره، فكل حديث سنة ولا عكس، وقيل الحديث ما روي عن النبي  أو أصحابه  من قول أو فعل أو تقرير، أما السنة الشريفة فما روي عن النبي  من ذلك فقط دون ما روى عن الصحابة، فإنه ليس بسنة، وعلى كل، فذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح.

هذا تعريف السنة الشريفة في اصطلاح الأصوليين، وهو مدار بحثنا هنا، أما السنة الشريفة في اصطلاح الفقهاء، فهي مرتبة بين الواجب والمباح، وهي كل أمر فعله النبي  وتركه أحيانا، أو فعله أحياناً وتركه في أكثر الأحيان، أو هي الأمر المطلوب لا على سبيل الحتم، بحيث لا يعاقب تاركه بل يعاتب، إلى غير ذلك من التعريفات الكثيرة التي يوردها الفقهاء في تعريف السنة الشريفة.

وكذلك تطلق السنة الشريفة في مقابلة البدعة، فتكون السنة الشريفة بهذا المعنى ما عمله النبي  وقاله أو أقرّ عليه، أو ما كان على وفق ذلك، والبدعة ما كان منافيا له.

أنواع السنة الشريفة :

من تعريف السنة الشريفة لسابق عند الأصوليين نلاحظ أنها أقسام ثلاثة، هي:

السنة القولية والسنة الفعلية – والسنة التقريرية.

فالسنة القولية: هي كل ما نقل لنا عن النبي  من أقواله الشريفة، وهي كثيرة تكاد لا تدخل تحت الحصر، ذلك أن الصحابة  كانوا يرافقون رسول الله  في خلواته وجلواته، وكانوا يعنون عناية فائقة في حفظ كلامه واستذكاره وروايته، لعلمهم بأنه أصل من أصول هذه الشريعة، حتى إن بعضهم كان يدون عنه كل ما يقول، من أمثال عبدالله بن عمرو ، وكان النبي  يقره على ذلك، ومن أمثلته قول النبي : (إنما الأعمال بالنيات)(1) وقوله : (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)(2) وغير ذلك.

والسنة الفعلية: هي كل ما رواه الصحابة الأجلة عن أفعاله  وأعمال وعبادته وكل تصرفاته، فقد أحصوا – لشدة حرصهم – أفعاله كلها ونقلوها لنا، من ذلك كيفية وضوئه وصلاته وصومه وتهجده، ومعاملته لنسائه، وأقاربه وصحابته وغير ذلك ويعرف فعله  بقول الصحابي: (فعل رسول الله  كذا وكذا).

والسنة التقريرية: هي أن يقال قول أو يفعل فعل أمام النبي  أو أمام غيره فيراه أو يسمع به فيسكت عنه، لأن الرسول  مشرِع لا يجوز سكوته على معصية، ولذلك يعتبر سكوته عن هذا الفعل أو القول إقرارا بمشروعيته، أي إن سكوته  بمثابة قوله: (هذا حلال أو هذا مشروع)، وإذا كان ذلك كذلك كان سنة، ومن باب أولى ابتسامته واستبشاره واستحسانه للفعل أو القول الذي جاء بين يديه، فإنه دليل على رضاه عنه وإقراره لمشروعيته أيضا، فمن أمثلة النوع الأول قول أحد الصحابة: (أكل الضب على مائدة رسول الله  فلم يأكل منه ولم ينهنا عن أكله) رواه الترمذي، ومن النوع الثاني ما روي من سؤاله  لمعاذ بن جبل  عندما أرسله إلى اليمن قاضيا، حيث قال له: بم تقضي يا معاذ؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي، فقال النبي  عندها: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي الله ورسوله) ، فهذا الاستحسان دليل الرضا والإقرار لما ذهب إليه معاذ.

مراتب السنة الشريفة من حيث ثبوتها:

القرآن الكريم كله متواتر بجملته وتفصيله، ولذلك لا محل لتفصيل مراتبه من حيث الثبوت، فإنه في مرتبة واحدة هي مرتبة القطع واليقين، إذ هو حكم التواتر.

أما السنة الشريفة، فهي متواترة بمجموعها، بمعنى أنه تواتر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صدرت عنه سنة هي أقوال وأفعال وتقريرات، ولكن مفردات السنة الشريفة وتفصيلاتها ليست متواترة كلها، بل فيها المتواتر، وفيها ما هو دون ذلك، ولذلك قسمها الأصوليون إلى أقسام ومراتب تبعاً لطريق ثبوتها ودرجته.

فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أنها من حيث ثبوتها على مرتبتين: السنة المتواترة، والسنة الآحادية، وذهب الحنفية إلى أنها على ثلاث مراتب، هي: السنة المتواترة، والسنة الآحادية، والسنة المشهورة، وهي مرتبة ثالثة بين التواتر والآحاد.

السنة المتواترة:

التواتر في اللغة التتابع، وفي اصطلاح الأصوليين ما رواه قوم عن قوم يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، وقد بينا في تعريفنا للقرآن وتحليلنا له شروط التواتر وأركانه، فلا حاجة إلى إعادة ذلك هنا.

وعلى ذلك فالسنة المتواترة هي: أقوال النبي  وأفعاله وتقريراته التي وردت إلينا مستوفية شروط التواتر من حيث سندها، والسنة المتواترة قليلة جداً بشكل إجمالي، وهي في أفعاله أكثر منها في أقواله ، ذلك أن السنة الشريفة القولية المتواترة قليلة جداً، وهنالك كتب كثيرة عنيت بجميع السنة الشريفة المتواترة.

ومن السنة الشريف القولية المتواترة قول النبي : (لا وصية لوارث) فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه متواتر السند في المعنى.

ومن السنة الشريفة الفعلية المتواترة كيفية صلاة النبي  وحجه  ، فقد رويت لنا كل أفعاله تلك بأسانيد متواترة.

السنة المشهورة: المشهور في تعريف الحنفية هو: ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وكان آحادياً ـ أي لم يبلغ حد التواتر ـ في القرن الأول، وهو فوق الحديث الآحادي من حيث الثبوت وليس مثله كما سوف يأتي.

وهذا هو مذهب الحنفية، أما الجمهور فإنهم يدخلونه في حديث الآحاد.

السنة الآحــادية:

وهي ما رواه عن رسول الله  واحد أو أكثر لم يبلغوا حد التواتر في كل القرون، فمن بلغ عدد رواته حد التواتر في أحد القرون دون القرون الأخرى فهو آحادي. هذا عند الجمهور، أما على مذهب الحنفية فالآحادي عندهم ما لم يبلغ مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث فقط، دون القرن الأول، فلو بلغ عددهم مرتبة التواتر في القرنين الثاني والثالث دون الأول فإنه مشهور وليس بأحادي كما تقدم.

مراتب العلم المستفاد من السنة الشريفة :

يحدد الفقهاء والأصوليون للعلم مراتب أربعة هي: القطع أو اليقين، والظن، والشك، والوهم.

فالقطع واليقين: ما كان العلم فيه جازماً لا احتمال معه للنقيض مطلقاً.

والظن: ما كان جانب الإيجاب فيه راجحا على جانب السلب، أي إن احتماله للنقيض مرجوح لا راجح.

والشك: ما تساوى فيه جانب الإيجاب مع جانب السلب، أي تساوى فيه احتمال الشيء ونقيضه.

والوهم: ما كان جانب السلب فيه راجحاً على جانب الإيجاب، وكان احتمال النقيض فيه غالباً.

هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فيضيفون إلى ذلك مرتبة خامسة وسطاً بين اليقين والظن هي مرتبة طمأنينة الظن، وهي ما كان جانب الإيجاب فيها راجحاً رجحانا كبيراً يقربه من اليقين.

هذا والأصوليون متفقون على أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بطريق القطع أو الظن، فقط، أما الشك والوهم فلا يجوز أن تدار الأحكام عليهما بحال.

وقد قسم جمهور الأصوليين السنة الصحيحة بحسب طرق ثبوتها إلى مرتبتين وهما: التواتر الآحاد، وقالوا: الحديث المتواتر يفيد القطع أي العلم اليقيني، أما السنة الآحادية فإنها تفيد الظن، وذهب الحنفية إلى زيادة الحديث المشهور بين المتواتر والآحادي وقالوا إنه يفيد طمأنينة الظن وهي مرتبة فوق الظن ودون اليقين، هذا من حيث الثبوت فقط، لأن الحديث المتواتر قد يفيد الظن فقط دون اليقين إذا كان ظني الدلالة، ولكننا نحن الآن نقرر الأحكام الثابتة على فرض أن هذه الأحاديث قطعية الدلالة، فإذا كانت ظنية الدلالة فإنها تنزل بمرتبة العلم المستفاد من الحديث المتواتر أو المشهور إلى الظن، لهذه الظنية في الدلالة، لا لطريقة الثبوت، وهذا بحثا آخر يتعلق بباب الدلالات.

حجية السنة الشريفة :

السنة الشريفة دليل أصلي من أدلة التشريع الإسلامي، وقد ثبتت حجيتها بالقرآن والسنة والإجماع والعقل.

أما الكتاب: فآيات كثيرة تدل على أن الله فرض علينا اتباع النبي  في كل ما يقوله ويفعله ويقره من الأعمال والتصرفات، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)، وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)، فإن في هاتين الآيتين الكريمتين أمر صريح وبيان واضح بأن طاعة الله وطاعة الرسول شيء واحد لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، وما طاعة الله إلا اتباع كتابه، وما طاعة الرسول  إلا إتباع سنته، وقد أثبتنا حجية الكتاب قبل قليل، فلم يبق إلا اعتبار السنة الشريفة حجية بدلالة ذلك، ثم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)، وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)، فإن في هاتين الآيتين إلزام من الله تعالى باتباع حكم النبي ، وما الحكم إلا جزء من أقواله أو أفعاله ، وهو من السنة الشريفة.

4- قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4)) فيه دليل على أن ما جاء به النبي  من السنة الشريفة إنما هو وحي من عند الله تعالى، وما كان من عند الله واجب الاتباع، لأن الله هو المشرع. فلذلك كانت السنة الشريفة واجبة الاتباع، فإن قيل: إن كانت السنة الشريفة وحياً فما الفرق بينها وبين القرآن الكريم، أجيب بأن القرآن الكريم جاء عن طريق الوحي بلفظه ومعناه، أما السنة الشريفة فمعناها من الله تعالى، أما ألفاظها فمن النبي  فإن قيل: فما الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي، إذ الحديث القدسي معناه من الله تعالى ولفظه من النبي ، أجيب عنه أيضاً، بأن الحديث القدسي ألقي معناه في روع النبي  بطريق الوحي المباشر، وقد كان النبي  يصرح بهذا المعنى أحيانا فيقول: (نفث في روعي …) أما الحديث النبوي فمعناه من الله تعالى عن طريق التسديد لا عن طريق الوحي المباشر، ومثل هذه الآيات الدالة على حجية السنة الشريفة كثير في القرآن الكريم.

وأما السنة الشريفة: فأحاديث كثيرة كان النبي  يشير فيها بصراحة إلى أن طاعته واجبة، وأن أمره إنما هو من الله سبحانه وتعالى، منها:

1- قوله  في حجة الوداع: (تركت فيكم أمرين ما إن اعتصمتم بهما فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة نبيه) فإن في هذا القول النبوي الكريم تسوية بين القرآن الكريم والسنة الشريفة في الحجية.

2- ما رواه المقداد بن معديكرب من قوله : (يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث كذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه)، فإن هذا الحديث الشريف نص في الباب.

3- حديث معاذ بن جبل المتقدم في تعريف السنة الشريفة التقريرية المتضمن معنى قوله: (أقضي بالقرآن ثم بالسنة ثم اجتهد رأيي)، حيث قال له النبي  الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله، فإن في هذا إقراراً صريحاً بحجية السنة الشريفة .

وأما الإجماع: فهو ما ثبت لدينا بطريق لا شبهة فيه من أن الصحابة كانوا يلتزمون سنته  وقضاءه في حياته، ولا يخالفونه في شيء، ولا يطلبون منه دليلاً غير قوله وفتواه، والتزامهم بهذا المبدأ بعد وفاته، فإنهم كانوا إذا لم يجدوا في القرآن الكريم بغيتهم لجؤوا إلى سنة النبي  يتساءلون فيما بينهم هل روي عن رسول الله  في مثل هذه الحادثة شيء؟ هل قضى رسول الله  في مثل هذا الأمر بشيء؟ فإن وجدوا قضوا بما قضى به رسول الله ، وإن لم يجدوا أعملوا عقولهم وقاسوا هذا الأمر على الأمور الأخرى المنصوص عليها في القرآن الكريم أو السنة الشريفة وقد عُلم ذلك منهم دون معارضة أو منازعة ممن له رأي معتبر، فكان ذلك إجماعاً.

وأما المعقول: فانه يتجلى في عدة أمور أهمها:

أ) كثير من الأحكام التي وردت في القرآن الكريم جاء مجملاً أو عاماً أو مطلقاً أو مشتركاً، وهذا كله يحتاج إلى بيان لمجمله ومشتركة، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، إذا المعنى المراد منه لا يفهم إلا بذلك، والسنَّة هي التي تولت هذه المهمة، مهمة البيان بأمر الله تعالى حيث قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)، فكانت السنة الشريفة محتجاً إليها لفهم الكتاب، وقد اعتبرنا الكتاب حجة واتباعه واجبا فيما مضى، وما كان محتاجاً إليه لفهم الكتاب الذي هو مصدر الأمر والنهي الواجب الاتباع فهو واجب، لأن القاعدة الأًصولية تقول:مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ب) إن الله تعالى أمر الرسول  بتبليغ القرآن الكريم وبيانه معاً، لأن التبليغ لا يتم إلا بالبيان والتبليغ كان بتلقين آيات القرآن، أما البيان فكان بالسنة المطهرة الموضحة له، وقد قامت الأدلة على عصمة النبي  من الخطأ في التبليغ والبيان معاً والسهو فيهما، من مثل قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، وغيرها.

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الناس ممن سفهوا عقولهم، ذهبوا إلى أن السنة الشريفة ليست بحجَّة، واستندوا في دعواهم هذه إلى أمور حسبوها أدلة وما هي إلى أوهام وشكوك، ولذلك رأيت أن أصرف النظر عنها ولا أتعرض لذكرها، سيما وهي موضحة ومشار إليها في كتب الأصول، ويستطيع الاطلاع عليها كل من أراد ذلك، ثم إنها أتفه من أن تبحث أو يتعرض لها.

مرتبة السنة الشريفة من الكتاب الكريم في الحجيَّة:

السنة حجة وواجبة الاتباع للأدلة المتقدمة، ولكن هل هي في مرتبة القرآن الكريم، أم هي في مرتبة أدنى منه؟.

والجواب أن السنة الشريفة ن حيث مصدريتها للأحكام الشرعية تعد في مرتبة القرآن الكريم تماما، إذ هي دليل قاطع على حكم الله تعالى سبحانه ما دامت صحيحة بالنسبة إلى النبي  لما تقدم من الأدلة، فلا فرق والحال هذه بين حكم الله تعالى الذي ورد على لسان النبي  بلفظه ومعناه (القرآن الكريم) وبين حكم الله الذي ورد على لسان النبي  بمعناه دون لفظه (السنة الشريفة)، ما دام مصدر الحكم في الحالتين هو الله تعالى، ولذلك أجاز جمهور الفقهاء نسخ السنة الشريفة بالقرآن الكريم، ونسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة، أما الشافعية فقد خالفوا ذلك ولم يجيزوا نسخ القرآن الكريم بالسنة، ولكن هذه المخالفة ليست بسبب نزول السنة الشريفة ن مرتبة القرآن عندهم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة بالقرآن الكريم أيضاً، ولكن لأن كلا من السنة الشريفة والقرآن الكريم مصدر مستقل بذاته. والنسخ يقتضي رجحان الناسخ على المنسوخ، ولا رجحان هنا لأحدهما على الآخر فلا ينسخ به.

وهذا بطبيعة الحال إذا تساوت السنة الشريفة بالقرآن الكريم من حيث الثبوت، بأن كانت السنة الشريفة متواترة، إذ القرآن الكريم متواتر كله جملة وتفصيلاً، أما السنة الشريفة الآحادية، فهي في مرتبة دون القرآن الكريم بالإجماع، ولكن لا لأنها سنة بل لأنها دون مرتبته في الثبوت، فهو متواتر قطعي وهي آحادية ظنية.

هذا من حيث مصدرية السنة الشريفة للأحكام، أما من حيث الحاجة إليها في استيفاء الأحكام، فهي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، ذلك لأسباب عدة أهمها:

أ) القرآن الكريم قطعي الثبوت كله بالإجماع، أما السنة الشريفة فهي آحادية ظنية الثبوت في معظمها، إذا المتواتر منها بقليل، وحتى في هذا القليل تختلف أنظار الفقهاء، حتى يكاد لا يخلو حديث متواتر واحد من الاختلاف في تواتره بين الفقهاء، وما كان قطعي الثبوت بالإجماع لاشك أولى بالتقديم في الرجوع إليه من المختلف على قطعيته ( ).

ب) السنة الشريفة :بينة للكتاب وشارحة لنصوصه، فهو على ذلك أصل بالنسبة لها، وهي له تبع، وطبعي أن يحتاج إلى الأصل قبل التبع، ثم إنه لو سقط المبيَّن لسقط البيان ولا عكس، ولذلك كانت بعده.

ج) ما جاء في حديث معاذ بن جبل حينما أرسله الرسول إلى اليمن، فقد قدم القرآن الكريم على السنة الشريفة وأقره رسول الله  فكان ذلك دليلا على تقديم القرآن الكريم عليها، ولكن ينبغي أن ينحصر هذا التقديم في الحاجة إليها فقط، ولا يتعداه إلى مصدريتها، لأنها في ذلك في مرتبة تساوي القرآن الكريم تماما كما تقدم.

د) القرآن الكريم محصور في نصوص محدودة يسهل الرجوع إليها واستقصاؤها، أما السنة الشريفة فغير محصورة، بل هي واسعة جدا، فكان في تأخير الرجوع إليها بعد القرآن الكريم وجها مقبولا، هذا ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أكثر الأصوليين ساروا على أن السنة الشريفة في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم دون تفصيل، ولا بد من حمل قولهم هذا على الوجه الثاني دون الأول كما أوضحت، وأن تغاضيهم عن هذا البيان والتفصيل إنما كان للعلم به لا لإنكاره، فيتنبه له.

شروط حجيِّة السنة الشريفة :

السنة الشريفة حجة كما تقدم، سواء أكانت قولية أم فعلية أم تقريرية، ولكن هذا ليس على إطلاقه، فإن تصرفاته  الفعلية أو القولية أو التقريرية تنقسم إلى قسمين:

قسم يفعله بصفته التشريعية التبليغية عن الله تعالى، وقسم يفعله بصفته البشرية الجبلية،

فمن القسم الأول كل ما يتعلق بالأحكام والحلال والحرام، ومن القسم الثاني كل الأمور الخاصة به التي مبناها على الجبلة والطبيعة البشرية كطريقته  في نومه ومشيته ولباسه وترتيبه للجيوش وتنظيمه لأثاث بيته وغير ذلك.

فما كان من القسم الأول فداخل في نطاق التشريع والإلزام، ويعد مصدرا أصليا للشريعة الإسلامية لما تقدم.

وما كان من القسم الثاني فإنه خاص بالنبي  لا إلزام ولا حجية فيه على أحد، ولذلك فإننا نرى الفقهاء يستثنون من السنة الشريفة الملزمة أمورا ثلاثة لا يعتبرون فيها حجية ما. وهذه الأمور هي:

1- والأعمال التي يقوم بها النبي  بمقتضى طبيعته البشرية، وجبلته الإنسانية، كطعامه وشرابه وقيامه وقعوده ومشيته ولباسه وغير ذلك.

2- الأقوال التي تصدر عنه بمقتضى خبرته الإنسانية غير المعتمدة على الوحي وغير المتصلة بالأمور التشريعية، كصف الجيش، وطبخ الطعام وغيره، وقد ثبت عنه  في غزوة بدر أنه صف الجيش على شكل معين وفي موضع محدد، فسأله أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله إياه ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: إذا ليس لك هذا بمنزل، وأشار بتغييره، فوافق النبي على ذلك، فدل هذا على أن ما أمر به النبي  أولا ليس بتشريع ملزم، وكذلك حادثة تأبير النخل، وقول النبي  لهم ثانيا: أنتم أعلم بأمور دنياكم، دليل على ذلك أيضا، لأن هذه الأمور تقوم على الخبرة الإنسانية المجردة عن الوحي، ونحن إنما اعتبرنا السنة الشريفة حجة لاستنادها إلى الوحي فلما انفصلت عنه لم يعد فيها حجية.

3- ما صدر عن النبي  من قول أو فعل وقام دليل خاص على اعتباره خاصا بالنبي  لا يعم غيره، فإنه لا يعتبر تشريعا لعامة المسلمين لهذا الدليل، من ذلك إباحة الله له التزوج بأكثر من أربع نسوة مع تحريم ذلك على المؤمنين بنص القرآن الكريم، أو قام الدليل على اعتباره خاصا بحالة واحدة، كشهادة خزيمة.

فما عدى هذه الأمور الثلاثة فهو سنة ملزمة للمؤمنين، وهو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي الأصــلية.

مكانة السنة الشريفة من القرآن الكريم من حيث طريقتها في التشريع(1):

السنة كما قدمنا تبع للقرآن، فهي مبينة لنصوصه وشارحه لمجمله وعامه ومطلقه، ولكننا في بعض الأحيان نجدها مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم دون زيادة عليه أو إنقاص منه، ونجدها أحيانا تأتي بأحكام جديدة لم يتعرض لها القرآن الكريم أبدا، وعلى ذلك فإننا يمكن أن نلاحظ أن نسبة السنة الشريفة إلى القرآن الكريم من هذا الوجه تتجلى في أربعة أمور هي:

1 - أن تكون مفسرة لما جاء في الكتاب الكريم مجملا أو مشتركا، أو مقيدة لما جاء مطلقا، أو مخصصة لما جاء عاما،وهذه هي المهمة الأصلية للسنة المطهرة.

فمن تفسير المجمل قول الرسول  : (صلوا كما رأيتموني أصل)، فإن فيه بيانا لقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، فإنه مجمل.

ومن بيان المشترك تفسير النبي  القرء بالحيض في أحاديث أثبتها الحنفية ولم يسلم الشافعية بثبوتها، ومن تخصيص العام قول النبي : (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها)، فإنه مخصص لعام قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)(النساء:24).

ومن تقيد المطلق قطعه  يد السارق اليمنى من الرسغ، فإنه مقيد لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(المائدة:38).

2- أن تكون مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، فتكون بذلك دليلا ثانيا للحكم بعد القرآن الكريم، ومن هذا القبيل قوله : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فإنه تأكيدا لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).3- أن تثبت حكما زائدا على القرآن الكريم سكت عنه، ولم يتعرض له ولم ينص عليه، مثل قوله  للمدعي: (شاهداك أو يمينه) ، ومنه قضاؤه  بالشاهد واليمين .. فإنها نصوص نبوية مثبتة لأحكام سكت عنها القرآن الكريم.

4- أن تنسخ حكما جاء به القرآن، وهذه نقطة خالف فيها الشافعية جمهور الفقهاء، حيث لم يجيزوا نسخ القرآن الكريم بالسنة كما تقدمت الإشارة إليه، ولكن يقولون إن السنة الشريفة في هذه المواضع معرفة لدليل النسخ لا ناسخة، فإن نسخ القرآن الكريم لا يكون إلا بالقرآن، والأمر مبسوط في كتب الأصول، ومن أمثلة نسخ القرآن الكريم بالسنة على مذهب الجمهور قول النبي:  (لا وصية لوارث)، فإنه ناسخ لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:180)، وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الشافعية لا يريدون بمنعهم نسخ القرآن الكريم بالسنة، النزول بالسنة عن القرآن الكريم واعتبارها مصدرا من الدرجة الثانية بعده، بل إنهم يعتبرونها بمرتبة القرآن الكريم تماما مشيا مع الجمهور، وقولهم بعدم نسخ القرآن الكريم بها كان لاعتبارات أخرى غير نزولها عن مرتبة القرآن الكريم، بدليل أنهم لم يجيزوا نسخ السنة الشريفة بالقرآن أيضا، ولو كان الأمر هو نزول السنة الشريفة عن القرآن الكريم لديهم لقالوا بنسخها بالقرآن، لأن الأعلى يصلح ناسخا للأدنى، ولكنهم لم يقولوا بذلك.

ج- الإجمـــــاع

تعريفــــه:

الإجماع في اللغة الاتفاق، يقال: أجمعوا على الأمر اتفقوا عليه(1)، وهو في اصطلاح الأصوليين: (اتفاق المجتهدين من أمة محمد  في عصر على حكم شرعي).

تحليل التعريــف:

اتفـاق: معناه الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل، لأن ذلك كله من الإجماع، فلا يكون الإجماع خاصا بالقول فقط.

المجتهديـن: فيه إخراج من لم يبلغ درجة الاجتهاد من العلماء، أو عوام الناس، فإنه لا عبرة بإجماعهم، وقد عرف باللام وهي للاستغراق هنا احترازا عن اتفاق بعض مجتهدي عصر من العصور، فإنه ليس إجماعا عند الجمهور كما سيأتي، خلافا لبعض العلماء من أمة محمد  فيه احتراز عن اتفاق مجتهدي الشرائع الأخرى السابقة. فإنه ليس إجماعا عندنا (أن الإجماع من خواص هذه الأمة كما سيأتي تكريما لها ورفعا لشأنها.

في عصــر: معناه في زمان ما، قل العدد أو كثر، تنكيره احترازا عن سبق الذهن إلى أن الإجماع هو إجماع كل المجتهدين في كل العصور إلى آخر الزمان، لأن الإجماع يجب فيه ذلك، بل إجماع المجتهدين في عصر واحد يكفي.

على حكم شرعي: هذا قيد يخرج به ما ليس حكما، وما كان حكما غير شرعي، فإن الإجماع في ذلك ليس حجة عند الجمهور، وقد أطلق بعض العلماء التعريف ولم يذكر هذا القيد ومنهم ابن الحاجب حيث قال: (على أمر) ليشمل الشرعي وغيره، فيدخل في ذلك وجوب اتباع آراء المجتهدين في أمر الحروب ونحوها مما لا يدخل في نطاق الحكم الشرعي، ولكن يجاب عن هذا الإطلاق بأن من ترك اتباع هذا الإجماع الأخير إن كان يأثم في تركه، فهو إجماع على حكم شرعي يدخل في نطاق الإجماع بهذا القيد، وإن كان لا يأثم في ترك هذا الإجماع فهذا معناه أن ذلك ليس من الإجماع الملزم، فلا مانع أن يكون من الواجب إخراجه من التعريف.

ركن الإجماع:

ركن الإجماع الاتفاق قولا أو عملا، بأن يتفق المجتهدون جميعا، لا يتخلف عن ذلك واحد منهم، على قول واحد، سواء كانوا مجتمعين في مكان واحد أو لا، بأن يثبت عنهم جميعا الفتيا في مسألة معينة على حكم واحد، وكذلك اتفاقهم في العمل، بأن يصدر عن كل منهم العمل في المسألة على نهج واحد، لأن العمل من المجتهد دليل المشروعية.

هذا عند جماهير الفقهاء، وذهب بعض الناس إلى أن الإجماع هو إجماع الصحابة لا غير، لأنهم الأصول في أمور الدين لصلتهم بالنبي  وشهودهم الوحي، فلا عبرة بإجماع غيرهم.

وذهب ناس آخرون إلى أن الإجماع هو إجماع العترة النبوية لا غير لطهارتهم من الرجس بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33) وذهب آخرون إلى أن الإجماع خاص بأهل المدينة دون غيرهم لقوله : (إن المدينة طيبة تنفي خبثها)، ولا شك أن الخبث هنا هو الخطأ.

وذهب قوم إلى أن الإجماع هو اتفاق أكثر المجتهدين فقط، ولا يشرط اتفاق جميعهم، فلو خالف قلة منهم لم يضر ذلك الإجماع، ومن هؤلاء بعض المعتزلة، والأصح مذهب الجمهور، لما يأتي في أدلة حجية الإجماع.

أنواع الإجمــاع:

ما تقدم هو العزيمة في ركن الإجماع، وهي اتفاق المجتهدين جميعا قولا وعملا، والرخصة فيه على ما ذهب إليه بعض الأصوليين، أن يقول بعض المجتهدين في عصر من العصور قولا أو يعمل عملا فيسمع الآخرون به فلا يعارضونه، فإنهم بذلك ينزلون منزلة الموافق، ويعتبر هذا القول أو العمل مجمعا عليه منهم، وهو ما يسمى بالإجماع السكوتي، وإنما جعل رخصة لأنه جعل إجماعا ضرورة نفي نسبتهم إلى الفسق والتقصير في أمر الدين، فإن الساكت عن الحق في موضع الحاجة شيطان أخرس، ثم لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من الكل لأدى إلى تعذر انعقاده، لأن في الوقوف على قول كل واحد منهم في حكم كل حادثة حرجا بينهم، فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الإجماع، لكن هذا القول محل اختلاف كبير بين الفقهاء، يتضح فيما يلي:

فقد ذهب الأصوليون إلى أن الإجماع على قسمين:

1- إجماع صريح، وهو أن يتفق المجتهدون على قول أو فعل بشكل صريح، بأن يروى عن كل منهم هذا القول أو الفعل دون أن يخالف في ذلك واحد منهم.

2- إجماع سكوتي: وهو أن يقول أو يعمل أحد المجتهدين بقول أو بعمل فيعلم الباقون بذلك فلا يظهرون معارضة ما.

والقسم الأول هو العزيمة في الإجماع كما تقدم، وهو حجة باتفاق جماهير الفقهاء، أما القسم الثاني فقد اختلفوا في حجيته على آراء كما يلي:

1- أنه ليس حجة مطلقا، ولا يعتبر من أنواع الإجماع الذي هو أحد مصادر الشريعة الإسلامية، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وعيسى ابن أبان من الحنفية، وأبو بكر الباقلاني من الأشعرية، وبعض المعتزلة، وداود الظاهري.

2- أنه يعتبر إجماعا قطعيا، ولكنه في مرتبة ثانية بعد الإجماع الصريح، فلا يكفر جاحده، بخلاف الإجماع الصريح، فإنه يكفر جاحده كما سيأتي، وإلى هذا ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية، وهو مذهب أحمد بن حنبل.

3- أنه حجة بشرائط انقراض العصر، ليتيقن من انتفاء المعارضة، وهذا مذهب أبي اسحق الإسفرائيني.

4- أنه إجماع ولكنه ليس قطعيا، إنما هو دليل ظني كسائر الأدلة الظنية الأخرى، وهو مذهب أبي الحسن الكرخي من الحنفية، والآمدي من الشافعية.

أدلة حجية الإجمــاع الصريح:

اتفق جمهور المسلمين على أن الإجماع حجة، وأنه دليل من أدلة الشريعة الإسلامية، وإن كانوا اختلفوا في أنواعه وطبيعته وشروطه على ما مر، وسيأتي، وخالف في ذلك النظَّام وبعض الشيعة والخوارج، وذهبوا إلى أن الإجماع ليس بحجة أصلا.

وقد استدلوا لحجية الإجماع بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على النحو التالــي:

من الكتــاب الكريم:

لقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تفيد كلها وجوب احترام اتفاق المسلمين والمنع من مخالفتهم، كما تدل على صلاحهم وتقواهم بطريق يحيل اجتماعهم على ضلال أو خطأ.

ومن هذه الآيات الكريمة.

قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)

وجه الاستدلال بهذه الآيـــة الكريمة:

أن الله جمع في هذه الآية بين مشاقّة الرسول  واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، ولا شك أن مشاقة الرسول  وحدها تستوجب الوعيد. فدل ذلك على أن اتباع غير سبيل المؤمنين المذكور حرام يستوجب الوعيد كذلك، وإلا لما كان في ضمه إلى مشاقة الرسول  فائدة. وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما كان اتباع سبيلهم واجبا، لأن اتباع أحد السبل لا بد منه بنص الآية: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) ولا شك أن سبيل المؤمنين هو ما اتفقوا عليه، فكان ما اتفقوا عليه واجب الاتباع لذلك.

قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)

وجه الاستدلال بهذه الآيــة:

إن الخيرية توجب الحقيقة فيما اجتمعوا عليه، لأنه لو لم يكن حقا لكان ضلالا، لقوله تعالى: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)، ولا شك أن الأمة الضالة لا تكون خير الأمم، على أن الله تعالى وصفهم بقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا، وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا، فيكون إجماعهم حجة لذلك.

قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة:143)

وجه الاستدلال بهذه الآيــة الكريمة:

إن الوساطة هي العدالة، ومنه قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28)، أي أعدلهم، ثم كل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط،، فإن رؤوس الفضائل الحكمة والفقه والشجاعة والعدالة. فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية، وهي متوسطة بين الحربزة والغباوة، وكذلك كل من العفة والشجاعة والعدالة، فكان التوسط لذلك هو منتهى هذه الفضائل كلها.

من السنة المطهرة:

هنالك أحاديث عدة وآثار ثبت عن النبي  بمجموعها عصمة هذه الأمة عن الخطأ والزلل، واستحالة اجتماعها على غير الحق، من هذه الأحاديث: (إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ) رواه ابن ماجه)، وقوله : (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) رواه أحمد في كتاب السنة، وقوله : (فإن يد الله على الجماعة)رواه النسائي، وقوله  : (من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية)رواه أحمد، وقوله : (عليكم بالسواد الأعظم)رواه أحمد، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة الكثيرة.

من العقـــل:

من المتفق عليه أن المجتهد في الإسلام لا يذهب إلى قول إلا إذا قام عليه الدليل، لأن خلاف ذلك تشهي، والاجتهاد غير التشهي، إذ إن للاجتهاد قيودا وشروطا كثيرة معروفة في بابها، فإذا كان هذا حال المجتهد فاجتماع المجتهدين أولى بهذه الخاصية، وعلى ذلك يكون معناه اتفاق المجتهدين على ثبوت الدليل، وإذا كان كذلك كان الحكم واجب الاتباع لهذا الدليل، لكن نظرا لخفاء الدليل علينا أقمنا إجماعهم على الحكم مقام الدليل نفسه، لأنه دليل عليه.

أدلة نفاة الاحتجاج بالإجماع السكوتي:

أ‌- أن عمر بن الخطاب  عندما شاور الصحابة  في عدة مسائل،

منها: مسألة مال فضل عنده ماذا يفعل به.

ومنها إسقاط المرأة جنينها هيبة منه، فأشاروا عليه كل بما رآه، وكان علي  ساكتا حتى سأله عن رأيه فأفتاه، وذكر له الأدلة بما يخالف رأي الفقهاء الآخرين، ، فمال عمر إلى رأيه وسار عليه، فإن هذا يدل على أن عليا  سكت أول الأمر ولم يكن سكوته رضا بما أشار به الصحابة على عمر ، بدليل أنه أفتاه بعد ذلك بخلاف ما أشاروا به عليه، فكيف يمكن مع هذا اعتبار السكوت دليلا على الموافقة.

ب‌- سكوت ابن عباس  عن مخالفة عمر  في حياته في مسألة العول وإظهاره المخالفة والتحدي بعد وفاته، حيث قال له بعض الصحابة: (ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول؟ فقال: الدرة)، فإن كانت الدرة منعت ابن عباس  من إعلان مخالفته فلا شك أن السيوف المسلطة على رقاب العلماء في عصور كثيرة متأخرة قد تمنع هؤلاء العلماء من إعلان مخالفتهم، فلا يكون سكوتهم دليلا على الرضا، وما أكثر السيوف الظالمة عبر تاريخنا.

ج- سكوت العلماء قد يكون للتروي والتأمل والنظر وغير ذلك من الأسباب المانعة لإظهار الرأي فلا يصح أن يعتبر السكوت مع ذلك كله رضا وموافقة.

أدلة المحتجين بالإجماع السكوتي ومناقشتهم لأدلة النافين له:

أ‌- اشتراط التكلم أو العمل من كل المجتهدين متعسر غير معتاد، والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم، فكان سكوتهم تسليما على حسب العادة، فلا يحتاج مع هذه العادة إلى دليل، بل العكس هو الذي يتحاج إلى دليل.

ب‌- لا يمكن اعتبار السكوت إلا موافقة، لأن الحكم إذا كان مخالفا لرأي هذا الساكت كان السكوت عليه حراما، والمجتهدون والصحابة بصورة أخص لا يتهمون بذلك، إذ لو حصل منهم ذلك لزالت عدالتهم وسقط اعتبارهم من زمرة أهل الإجماع، وعندها لاعبرة لمخالفتهم الموهومة، مع أن الإجماع انعقد على عدالتهم جميعا.

ج- يجاب عن سكوت علي  الذي احتج به المخالفون –كما تقدم- بأنه محمول على أن ما أفتوا به من إمساك المال الفائض عنده وعدم الغرم عليه في مسألة الإسقاط كان حسنا، إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال رعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن، فلم يكن سكوته إلا رضا.

د- إذا سلمنا بأن ما أفتوا به كان خطأ صريحا في رأي علي  ، فلا نسلم بأن سكوته كان متحققا فعلا، لأن السكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز، وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا. وعلي  لم يسكت مطلقا، بل سكت لتوقع سؤاله، فلم يكن هذا السكوت هو السكوت المتكلم فيه، لأن السكوت المتكلم فيه إنما هو السكوت بعد العلم ومضي مدة التأمل -على ما يأتي-، ولم يكن هنا كذلك، فلم يكن فيه حجة لهـــم.

هـ- أما حديث الدِرة فغير صحيح، لأن الخلاف والمناظرة بين الصحابة في مسألة العول، أشهر من أن تخفى على عمر ، ثم إن عمر  كان ألين للحق من أن تخشى درته في سبيله، فإن له من المواقف الكثيرة ما يشهد له بذلك.

وعلى التسليم بصحة هذا الحديث، فإنه يجب حمله على أن ابن عباس  إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة مع عمر لا عن بيان مذهبه ورأيه، إذ الواجب على أي مؤمن في مثل هذه الحال أن يبين رأيه وما هو حق عنده، فكيف بابن عباس  ترجمان القرآن، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس، لكن المناظرة غير واجبة عليه، ولذلك اعتذر عن الكف عنها لذلك، وهي غير موضع البحث هنا.

وأما ما استدل به الخصوم من أن هذا السكوت قد يكون للتروي لا للموافقة، فإنه مردود، لأن من شروط الإجماع السكوت مضي مدة التروي والتأمل، ولذلك لم يعد لهذه الشبهة من وجه،

هذا وقد اختلف في مدة التروي، فقيل ثلاثة أيام، وقيل مجلس العلم، والأصح عندي أن ذلك يختلف باختلاف نوع المسألة تعقيدا وسهولة، وحال المجتهد استعدادا وفتورا، فلا يقطع في مدته بزمن معين، ولذلك أرى رجحان مذهب الحنفية في اعتبار الإجماع السكوتي دليلا قطعيا، ولكنه دون الإجماع الصريح، فلا يكفر جاحده بخلاف الإجماع الصريح.

شــــروط صحة الإجماع:

لا بد لصحة الإجماع من شرائط معينة، بحيث إذا فات واحد منها اعتبر إجماعا باطلا لا حجة فيه مطلقا، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق ومنها ما هو محل اختلاف بين الفقهاء، وهي:

1- انقراض عصر المجمعين: أي إن الإجماع لا يعتبر حجة إلا إذا انقرض عصر المجتهدين الذين أجمعوا على حكم المسألة، فما دام واحد منهم حيا لم يعتبر هذا الإجماع حجة.

وقد ذهب إلى اشتراط هذا الشرط أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي، واحتجوا بأن رجوع بعض المجتهدين محتمل ما داموا أحياء، فينتقض الإجماع بذلك، فإذا ماتوا انقطع هذا الاحتمال وثبت الإجماع.

وذهب جمهور الفقهاء وفيهم الحنفية وبعض الشافعية إلى أن انقراض العصر ليس بشرط، واحتجوا بأن الإجماع إنما هو في اللغة الاتفاق لا غير، وقد حصل، فلا يحتاج إلى غيره معه، وردوا على أصحاب الرأي الأول بأننا لا نجيز للمجمعين الرجوع عن رأيهم بعد ما تم الإجماع منهم، وذلك لأن الرجوع إما أن يكون من الجميع فيكونون بذلك أجمعوا على نقيض إجماعهم الأول، فنكون بذلك أمام إجماعين: أحدهما باطل لا محالة، وهذا محال، لأن الإجماع دليل قطعي لا احتمال فيه للنقيض، وإما أن يكون الرجوع من واحد منهم فقط، وهذا محال أيضا، لأنه بذلك يخالف إجماع المؤمنين الذي هو حجة ملزمة للجميــع.

وبذلك يسلم للجمهور مذهبهم في عدم اشتراط انقراض العصر.

2- أن لا يكون على مسألة جرى فيها اختلاف بين الفقهاء في زمن الصحابة، فلو اختلف الصحابة في مسألة بينهم ولم يتفقوا فيها على حكم، امتنع على من بعدهم أن يجمعوا فيها على رأي.

وقد ذهب إلى اعتبار هذا الشرط في صحة الإجماع أحمد بن حنبل، وأكثر الشافعية، وبعض أهل الحديث.

وذهب الحنفية وبعض الشافعية إلى أنه لا عبرة بهذا الشرط مطلقا، ولا مانع عندهم من أن يجتمع التابعون على رأي خالف فيه بعض الصحابة .

استدل أصحاب القول الأول بأدلة منهــا:

أ- إن اختلاف الصحابة لا شك ناتج عن دليل، وهذا يعني أن لكل منهم دليل على ما ذهب إليه، فكان إجماع من بعدهم تأييد لأحد الرأيين خلافا للرأي الثاني المبتني على الدليل، والإجماع في معارضة الدليل باطل.

ب- في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة، إذ الإجماع حجة قطعية، فمن خالفه اعتبر ضالا، ومحال تضليل الصحابة بعد ما شهد لهم الرسول  بالخيرية في أكثر من حديث شريف.

واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها:

أ‌- أن الأصل في الإجماع اتفاق أهل العصر، وقد فعلوا، فلا داعي إلى اشتراط شيء آخر.

ب‌- لا يعني قبول الإجماع هنا معارضة الدليل الأول المخالف، لأن هذا الإجماع كان مبطلا للدليل ومثبتا أنه ليس دليلا، فلم يبق في معارضة الدليل، كما إذا أنزل الله تعالى نصا بعد العمل بالقياس، فإنه مبطل لحكم القياس، وعلى ذلك لم يبق مبرر لتضليل الصحابة، لأنهم كانوا يتبعون دليلا ثم ألغي اعتبار ذلك الدليل.

3 - قيام دليل يصلح للحكم: أو استناد الإجماع إلى دليل يصلح للحكم المجمع عليه، فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الإجماع لا يجوز انعقاده إلا إذا كان هناك دليل يدل على الحكم الذي يثبته الإجماع، ولم يشذ عن ذلك إلا قلة من الناس الذين رأوا أن الإجماع جائز ولو لم يكن هنالك دليل للحكم إلا الإلهام والتسديد.

وقد استدل الجمهور لهذا الشرط بأدلة منها:

أ‌- أن الإجماع اجتهاد، بل هو مجموع اجتهاد المجتهدين، والاجتهاد معناه بذل الجهد في استخراج الحكم من دليله، فكان الإجماع كذلك، إذ ليس التشريع بدون دليل اجتهادا، بل تحكما، وهو ممنوع شرعا.

ب‌- إن إجماع الأمة جميعها دون خلاف واحد فيها دليل على وجود الدليل، لأن العقل يحيل عادة اجتماع آراء المجتهدين جميعا دون خلاف واحد منهم من غير دليل يستند إليه هذا الإجماع، وذلك اعتمادا على تعدد المشارب والاتجاهات الفكرية، وطرق الاستنباط، فكان قيام الدليل واستناد الإجماع إليه ضرورة عقلية.

ولكن قد يقول قائل: إذا كان الإجماع محتاجا إلى دليل فلماذا لا نجعل هذا الدليل هو المستند في الحكم دون الإجماع، ثم ما هي فائدة الإجماع مع قيام الدليل؟

والجواب على ذلك أن كثيرا من الأدلة التفصيلية في الشريعة الإسلامية ظنية في دلالتها وثبوتها معا، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة، وقليل منها قطعي الثبوت والدلالة معا، فإن كان الإجماع مستندا إلى دليل قطعي الثبوت والدلالة، فالاعتراض صحيح، لأن الإجماع لم يفده شيئا، ولكن إذا كان الدليل ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معا، فإن الإجماع في هذه الحال يرفعه من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع، لأن الإجماع دليل قطعي من أدلة الأحكام، فكان محتاجا إليه لذلك، لا سيما أن أكثر الأدلة في الشريعة الإسلامية –كما تقدم- من هذا النوع.

ج- أن لا يكون هناك نص قاطع يعارض ما جاء به الإجماع، سواء من القرآن الكريم أو السنة الشريفة، ولو كان هنالك نص قطعي يعارضه فالإجماع باطل، لأن الإجماع لا ينعقد في معارضة النصوص القطعية، إذ النصوص تأتي في المرتبة الأولى، والإجماع في المرتبة الثانية بعدها، ولذلك لا يصح في معارضتها، وكذلك لا ينعقد في معارضة إجماع سابق، لأن الإجماع حجة قطعية فلا تجوز مخالفته مطلقا، فإذا ما أجمع المسلمون في عصر من العصور على حكم لم يجز عقد إجماع بعدهم على خلافهم، وكل اتفاق على خلاف إجماعهم الأول باطل.

حكم الإجمــاع:

الإجماع –كما تقدم- على أنواع وأقسام جرى بيانها، وقد اختلف الفقهاء في حكمه على حسب اختلافهم في أقسامه، فمنهم من ذهب إلى أنه قطعي في كل أقسامه، ومنهم من ذهب إلى أنه ظني في بعضها قطعي في بعضها الآخر، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في حكم جاحده، أيكفر أم لا يكفر؟ فقيل إن كان قطعيا يكفر وإن كان ظنيا لا يكفر،، وقيل يكفر مطلقا وقيل لا يكفر جاحده أبدا.

والحق أن في المسألة تفصيل ووجوه على النحو التالي:

1- الوجه الأول: أن يكون الحكم الثابت بالإجماع مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أي علمه متيسر لكل الناس خاصتهم وعامتهم، كفرضية الصلاة والحج والصوم والزكاة وحرمة الكذب، وغير ذلك، وهذا لاختلاف في تكفير جاحده.

2- الوجه الثاني: أن يكون الحكم المجمع عليه ليس من المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن الإجماع المنعقد عليه قطعي الثبوت، ومتفق على صحته بين الفقهاء، بأن يكون إجماعا صريحا متواترا لم يستقر فيه خلاف سابق بين الصحابة.

فهذا الإجماع اختلف العلماء في تكفير جاحده.

فذهب أكثر الحنفية إلى تكفير جاحده مطلقا، لأنه إنكار لما ثبت قطعا أنه حكم الله تعالى، فيساوي في ذلك ما ثبت من الدين بالضرورة، لا فرق بينهما.

وذهب أكثر الشافعية إلى التفصيل، فقالوا: إن كان إجماعا مشتهرا فإن جاحده يكفر، وإن كان إجماعا خفيا لا يطلع عليه كل أحد فلا يكفر جاحده.

وذهب بعض الفقهاء الآخرين إلى أن جاحده لا يكفر مطلقا، لأنه ليس معلوما من الدين بالضرورة.

3- الوجه الثالث: أن يكون الإجماع غير مجمع على قطعيته، بأن كان سكوتيا أو منعقدا بعد خلاف سابق على موضوعه في زمن الصحابة، أو كان قطعيا ولكنه ورد إلينا بطريق الآحاد. فإن هذا الإجماع لا يكفر جاحده باتفاق الفقهاء، لظنيته، واختلاف الفقهاء في حجيته، ، فإنه يساوي في ذلك كل الأدلة الظنية الأخرى، ولم يقل أحد بتكفير منكر واحد منها، فكذلك هنـا.

درجــات الإجمــاع:

مما تقدم نلاحظ أن الفقهاء على تسليمهم واتفاقهم على حجية الإجماع مختلفون في بعض أنواعه وشروطه، ولذلك فإننا سوف نعمد إلى ترتيب هذه الأنواع على حسب حجيتها ودرجتها بالنظر لاتفاق الفقهاء واختلافهم عليها، فنضعها في الدرجات التالية:

1- إجماع الصحابة الصريح في قولهم وعملهم على حكم معين، فهذا محل اتفاق جميع المجتهدين والعلماء، ولم يختلف في حجيته أحد منهم كما تقدم، ولذلك فهو دليل قطعي بإجماعهم.

2- إجماع مَن بعد الصحابة إجماعا صريحا أيضا، بالقول أو الفعل، على أمر لم يرو فيه خلاف الصحابة، فهذا إجماع قطعي أيضا، حيث إنه لم يخالف في حجيته أحد ممن يعتد برأيه، إلا نفر قليل لا عبرة بخلافهم - كما تقدم-، ولذلك فإن هذا النوع يأتي في المرتبة الثانية بعد النوع الأول، وإن كان قطعي الدلالة أيضا.

3- إجماع الصحابة إجماعا سكوتيا، فإنه يأتي في المرتبة الثالثة، وقيل في المرتبة الثانية قبل إجماع من بعد الصحابة صريحا، ولكن الأول أولى لاختلاف الفقهاء في حجيته، فقد ذهب الشافعية وغيرهم إلى أنه ليس حجة مطلقا -كما تقدم-، خلافا لإجماع من بعد الصحابة صريحا، فإنهم يحتجون به.

4- إجماع من بعد الصحابة  على أمر روي فيه اختلاف الصحابة، فإنه يأتي في المرتبة الرابعة، لأنه إجماع مختلف فيه على النحو المتقدم.

5- الإجماع الذي يبت فيه المجتهدون ثم يرجع أحد المجتهدين المجمعين عليه عن رأيه بعد ذلك، فإنه محل اختلاف بين الفقهاء، ولذلك كان في المرتبة الأخيرة من مراتب الإجماع.

مرتبة الإجماع من القرآن الكريم والســنة:

تقدم معنا أن القرآن الكريم والسنة الشريفة هما المصدر الأول للتشريع، وأنهما في مرتبة واحدة من حيث حجيتهما، وإن كانت السنة الشريفة تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الحاجة إليها، ومن حيث ثبوت جزئياتها وتفصيلاتـها.

أما الإجماع فإنه يختلف عن السنة الشريفة في ذلك، فليس هو في مرتبتها ولا في مرتبة القرآن الكريم، بل هو في المرتبة الثانية بعدهما في أصل الحجيَّة، فلو تعارض إجماع وسنة قدمت السنة الشريفة من غير خلاف، والإجماع آنذاك باطل غير صحيح، لأن من شروط صحة الإجماع كما تقدم عدم معارضته للنصوص، قرآنا كانت أو سنة.

أهلية الإجمــاع:

اشترط الفقهاء في الذين يقبل إجماعهم شرطين اثنين، هما:

1- الاجتهاد: لأن الحكم المجمع عليه إما أن يكون دليله قطعيا أو ظنيا، فإن كان دليله قطعيا فإنه يقبل فيه المجتهد وغير المجتهد، لأن هذا الحكم لا محل للاجتهاد فيه، إ ذ الاجتهاد محله الأدلة الظنية، أما الأدلة القطعية فلا محل للاجتهاد فيها، لأن مخالفتها ممنوعة مطلقا، ولكن هذا ليس من باب الإجماع في شيء، لأن الحكم ثابت بالدليل القطعي الأول لا بالإجماع، فكان الإجماع وجوده كعدمه.

وإما أن يكون دليل الحكم المجمع عليه ظنيا، أي فيه مجال للاجتهاد والرأي، فهذا لا يقبل فيه إلا المجتهدون، لأنه لا عبرة برأي غيرهم.

وشروط الاجتهاد مبسوطة في كتب الأصول، ولا محل هنا لشرحها وتوضيحها.

2 - الخلو عن كل فسق أو بدعة، والفسق هو ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر، وهو مورث للتهمة مسقط للعدالة، أما البدعة فهي هنا كل جديد على الدين ليس على سَننه. والمبتدع على أحد شيئين، إما متعصب أو سفيه، فإن كان وافر العقل عالما بقبح بدعته مصرا عليها فهو المتعصب، وإن كان غير وافر العقل، وغير عالم بقبح بدعته، فهو السفيه، والمتعصب ساقط العدالة غير مأمون، وكذلك السفيه، فإنه سيء التفكير، لأن السفه خفة واضطراب يحملانه على فعل ما يخالف للعقل، لقلة التأمل، ولذلك لم يكن هذا من أهل الإجماع.

د- القيـــاس

تعريفــه:

القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع.

والقياس في اللغة التدبر والمساواة، يقال قست النعل بالنعل أي قدرتها بها، وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه وقد يعدى بعلي كقولهم قاس الشيء على الشيء.

والأصل فيه قاس يقيس بالمعنى نفسه، والمقياس المقدار.

والقياس في الاصطلاح الشرعي ذهب فيه الأصوليون مذهبين، ونظروا إليه من زاويتين:

أ‌- الزاوية الأولى: من حيث إنه دليل شرعي معتبر، فعرفوه بأنه: (مساواة الفرع للأصل في علة حكمه).

ب‌- الزاوية الثانية: من حيث إنه عمل المجتهد يظهر به الحكم الشرعي، وعليه فلا يثبت الحكم به إلا بإظهاره على أنه المجتهد، فعرفوه بأنه: (تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة).

تحليل التعريف الأول:

مســـاواة: تعني التعادل بين الفرع والأصل في العلة المستوجبة للحكم في الأصل، فيخرج بذلك ما لو كانت العلة في الفرع أقل منها في الأصل، فإنه لا يقاس عليها، والتعبير بالمساواة يشعر بأن الحكم إنما ينتقل من الأصل إلى الفرع بمجرد هذه المساواة تلقائيا بدون أن يقوم بنقله المجتهد، فهو ثابت للفرع بهذه المساواة نفسها.

الفرع للأصل في علة حكمه: إشارة إلى الأركان الأربعة التي لا يقوم القياس إلا بها، وهي: الفرع، والأصل، والعلة، والحكم.

وسوف نضرب مثالا لذلك يوضح معنى كل منهما وكنهه: وهو قول الفقهاء: (النبيذ كالخمر في الحرمة للإسكار).

فالنبيذ فرع لأنه يقاس على شيء آخر ويلحق به.

وكالخمر: هو الأصل، لأنه المقيس عليه.

وفي الحرمة: هو الحكم، لأنه الوصف الشرعي المنقول من الأصل إلى الفرع.

والإسكار: هو العلة التي من أجلها شرع الحكم في الأصل، وبسبب وجودها في الفرع مساوية للأصل نقل الحكم من الأصل إلى الفرع،

والعلة هنا لا يشترط فيها على هذا التعريف إلا أن تكون في الفرع مساوية لها في الأصل، فيدخل في ذلك علة الفرع المشمولة في دليل الأصل في أصل اللغة وغير المشمولة به في الإطلاق اللغوي، ومعنى ذلك اختلاط القياس بدلالة النص على هذا التعريف، مع أن القياس غير دلالة النص أو مفهوم الموافقة كما يسميها الشافعية، وهذا بدون شك عيب في التعريف لأنه غير مانع.

تحليل التعريف الثاني:

تعديــة: أي نقل، ولا بد للنقل من ناقل، والناقل هنا هوالمجتهد، فكان معنى ذلك أن القياس إنما هو عمل المجتهد، فلا يعتبر الحكم منقولا من الأصل إلى الفرع إلا إذا قام المجتهد بنقله إليه، فهو غير ثابت في الفرع قبل ذلك، وهذا هو الفارق الأساس بين هذا التعريف والتعريف الأول.

الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة: فيه إشارة إلى أركان القياس التي جرى بيانها في تحليل التعريف الأول، والمراد بلفظ متحدة ما أريد بلفظ المساواة في التعريف الأول نفسها، أي أن تكون العلة متمكنة في الفرع بمقدار تمكنها في الأصل، ولا تكون أولى منها.

لا تدرك بمجرد اللغة: أي لا تعرف بمجرد الوضع اللغوي لألفاظ حكم الأصل، فلو كان دليل حكم الأصل شاملا لها بمجرد الوضع اللغوي لكان هذا الدليل دليلا على إثبات الحكم للفرع بطريق مباشر، ولا حاجة معه إلى القياس، والمقصود بهذا القيد إخراج دلالة النص عند الحنفية، وهي ما يسميه الشافعية مفهوم الموافقة، فإنها ليست من القياس في شيء، وبذلك يكون هذا التعريف تلافي القصور الذي تضمنه التعريف الأول، فكان جامعا مانعا.

ومن أمثلة دلالة النص قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء:23)، فإن لفظ (أف) يشمل الضرب في أصل الوضع اللغوي لهذا اللفظ، لأن الضرب تأفف وزيادة، فكان الضرب ممنوعا بنص الآية مباشرة لا بطريق القياس على التأفف، وكانت الآية دليلا أصيلا على التأفف ودليلا أصيلا على الضرب، دون قياس أحدهما على الآخر.

مذاهب الفقهاء في القياس وحجيته:

قدمنا في أول باب مصادر التشريع أن المصدر الأصلي لهذه الشريعة هو قول الله تعالى، ولا مصدر غيره، وأثبتنا أن السنة الشريفة والإجماع علامتان قطعيتان على قول الله سبحانه وتعالى وحكمه، فكانا مصدرين بعد القرآن الكريم لذلك، وهنا نقول إن القياس مصدر من مصادر الشريعة، فعلينا أن نثبت دلالته على حكم الله تعالى، وإلا فما كان لنا أن نجعله مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.

ولا بد لنا قبل التعرض لأدلة حجية القياس أن نبين مدى اعتبار الفقهاء للقياس، وأخذهم به، فالفقهاء في حجية القياس على مذاهب ثلاثة هي:

1- مذهب جماهير العلماء، وهو الاحتجاج بالقياس مطلقا، ولهم على ذلك أدلة من النقل والعقل.

2- مذهب ابن حزم والنظّام والخوارج وبعض الشيعة، وهو إسقاط الاحتجاج بالقياس مطلقا ومنعه، ولهم على ذلك أدلة أيضا.

3- مذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني، وهو أن القياس ليس حجة إلا في صورتين فقط هما:

أ‌- أن ينص الشارع في حكم الأصل على العلة القائمة في الفرع باللفظ أو الإيماء، كأن يقول: إنما حرمت الخمر للإسكار، فعندها يصح قياس البيرة والنبيذ وكل المشروبات الأخرى التي يتيقن فيها الإسكار على الخمر، وإلا فلا.

ب‌- أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل، لأن العلة فيه أقوى منها في الأصل وآكد، كقياس الضرب على التأفف في قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء:23)، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفف، لأن العلة وهي الإيذاء آكد في الضرب منها في التأفف.

الأدلـــة:

1 - استدل الجمهور لمذهبهم في الاحتجاج بالقياس بأدلة كثيرة أهمها:

آ- قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2).

وجه الاستدلال أن الله تعالى أمر بالاعتبار، والقياس نوع من الاعتبار، فالقياس مأمور به لذلك، ثم إن الأمر للوجوب، والقياس مأمور به، فالقياس واجب، فإذا كان واجبا كان العمل به واجبا أيضا، فكان دليلا لذلك.

فإن قيل المراد بالاعتبار هنا الاتعاظ لأنه المفهوم من سياق الآية، أجيب بأن الاعتبار يفيد الاتعاظ بطريق العبارة، لأنه المقصود من السياق، وهو يفيد القياس بطريق الإشارة أيضا، لأن الاعتبار هو الاتعاظ، وكل ما هو رد الشيء إلى نظيره، أي إثبات الحكم على الشيء بالدليل المثبت لحكم نظيره، وليس قاصرا على الاتعاظ فقط في أصل اللغة، نعم أنه مساق للأول دون الثاني، وهذا يقتضي أن يكون الأول مفهوما بطريق العبارة والثاني مفهوما بطريق الإشارة لا غير.

فإن قيل: ما دامت الآية واردة في الأول فقط فهذا يعني أن الثاني غير مراد مطلقا، أجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا محل اتفاق، فلا داعي لمخالفته هنا مادام القياس داخلا في الاعتبار في أصل اللغة.

فإذا سلمنا أن الاعتبار هو الاتعاظ فقط، فإننا نقول: القياس ثابت بهذه الآية الكريمة بطريق دلالة النص، وبيانه أن الله قد ذكر هلاك قوم بسبب اغترارهم بقولهم، ثم أمر بالاعتبار بحالهم ليكف الآخرون عن مثل هذا السبب، فلا يحصل لهم ما حصل لأولئك، فكان معنى ذلك أن الله وضح لنا أن العلم بالعلة موجب للعلم بالحكم، وهذا هو القياس، فكان الاتعاظ المراد من الاعتبار شاملا المعنى النفسي الذي هو الامتناع عن العود، وللمعنى الحسي الذي هو بمعنى انصراف الذهن إلى مثل ذلك الحكم عند وجود العلة نفسها، وعلى ذلك كان القياس نوعا من أنواع الاتعاظ، فكان مشمولا ومدلولا عليه بالنص.

ب- حديث معاذ بن جبل ، حيث روي عنه أنه بعثه النبي  إلى اليمن وقال له: بم تقضي؟ قال بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله تعالي؟ قال: أقضي بما قضى به رسول الله ، قال: فإن لم تجد فيما قضي به رسول الله  قال: أجتهد برأيي، قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله.

وجه الاستدلال: أن الرسول  أقر معاذا على الاجتهاد برأيه فيما لا نص فيه، والقياس نوع اجتهاد، فكان مقرا به من قبل النبي ، وما كان مقرا به منه  فهو سنة، والسنة حجة كما تقدم.

ثم إن حديث معاذ هذا مشهور، والمشهور يفيد طمأنينة الظن كما تقدم في باب السنة الشريفة، فكان صالحا لإثبات القياس لذلك.

فإن قيل: الاجتهاد الذي أقر الرسول  معاذا عليه قد يكون بغير القياس الذي نحن بصدده، فقد يكون المراد به إعمال العقل في الاستنباط من النصوص الخفية الدلالة، أو الحكم بالبراءة الأصلية عند عدم وجود الدليل المانع، أو المراد به القياس على المنصوص على علته، فإنه يجاب بأن الاستنباط من المنصوص الخفية الدلالة إنما هو إعمال للنصوص وليس زيادة عليها، فكان ذلك مما في الكتاب والسنة، والاجتهاد في حديث معاذ إنما ورد على ما ليس في الكتاب والسنة، وأما حكم البراءة الأصلية، فإنه ثابت أيضاً بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام:145)، فكان مما في الكتاب والسنة أيضاً، وبالتالي ليس هو المراد بالاجتهاد في حديث معاذ.

فبقي المراد من الاجتهاد في هذا الحديث القياس، وقد جاء مطلقاً، وهو يشمل ما كان منصوص العلة وغير منصوصها على حد سواء، والقاعدة أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يظهر دليل التقييد، ولم يظهر فيبقى هنا على إطلاقه، فيكون القياس الذي نحن بصدده داخلاً فيه ومدلولاً عليه به.

فان قيل: ذلك حكم خاص بمعاذ لا يتعداه إلى غيره،أجيب بأن الأصل عدم الخصوصية، إلا أن يثبت دليل عليها، وهنا لم يثبت دليل الخصوصية، فيبقى عاما للمسلمين جميعاً، ويدل لذلك قوله  (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة).

ثم إنما أقر النبي  معاذا على القياس للحاجة إليه عند فقدان الدليل، والحاجة ماسة إليه في كل عصر، ولكل قاض وفقيه، فكان ذلك دليلاً على عدم الخصوصية.

فإن قيل إن هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3)، فإنها جاءت بعده بيقين، ثم إنه كان محتاجاً إليه في أول الأمر لعدم تمام القرآن الكريم والسنة، فلما تمت بهذه الآية لم يعد له من حاجة، أجيب بأن تمام الدين إنما كان من حيث الأصول والأحكام العامة والقواعد الأصلية، لا من حيث الفروع والتفصيلات من تلك النصوص الإجمالية أو الكلية، لأن الفروع غير متناهية، فكانت الحاجة إلى القياس من هذا الوجه مستمرة بعد الآية كالحاجة إليه قبلها، فلم تكن الآية ناسخة له، وإلا فما هي الحاجة إلى الإجماع وإلى الأحكام التي وردت عن طريقه مما لا نص فيه في القرآن الكريم والسنة الشريفة، مع أن الإجماع حجة بالإجماع.

هذا مع الإشارة إلى أن موافقة النبي  ورضاه عن قياس معاذ لم يقيد بزمن دون زمن، بل كان مطلقاً، والمطلق يجب أن يبقى على إطلاقه ما لم يقيد.

ج - أن النبي  كان يقيس بنفسه كثيراً من الأحكام، ويذكر عللها، والرسول  أسوة حسنة لنا وقدوة في كل أعماله وأقواله، فكان ذلك منه دليلاً على صحة القياس هنا، من ذلك حديث الخثعمية التي سألته عن جواز الحج عن والدتها فأجابها: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: بلى، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فإنه  قاس دين الله الذي هو الحج على دين العباد في صحة أدائه من غير المدين عن المدين.

ولكن يمكن أن يناقش هذا الدليل ويرد عليه بأن النبي  مشرع، فلا يقتدي به في هذه الأمور، لأنه لا يقر على خطأ خلافا لنا، ثم إن بيان العلة من الرسول  هنا ليس من باب القياس، إنما هو من باب علة الحكم مع الحكم، ليكون أوقع في النفس وأدخل في القبول، وهو رد قوي وسليم، ولو لم يكن هناك دليل غيره لسقط مذهبهم، ولكن بحمد الله وفضله هنالك أدلة كثيرة غيرها سالمة من أي مطعن، صامدة أمام كل شبهة كالطود، كما نحن بصدده.

د - عمل الصحابة: ذلك أنه ثبت عن جمع كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعملون بالقياس عند عدم النص، حتى بلغ ذلك مرتبة التواتر عنهم، والعادة تقضي بأن مثل ذلك العمل من قبل الجمع الغفير لا يمكن ولا يحصل إلا إذا كان مستنداً إلى دليل قاطع، وإن كان هذا الدليل غير معلوم لدينا بالتعيين، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

أولا) ما روى عن أبي بكر الصديق  من أنه سئل عن الكلالة ما معناها، فتلمس الدليل على ذلك من القرآن الكريم والسنة فلم يجد، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان: الكلالة ما عدا الوالد والوالد، ومعلوم أن الرأي أصل القياس، والقياس فرع منه.

ثانيا) ما روي عن عمر بن الخطاب  بعد ما أرسل أبا موسى الأشعري  والياً على البصرة، وكتب إليه كتابا طويلاً فيه كثير من الحكم والأسس، جاء فيه قوله : (اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك)، فهو دليل ظاهر على أمره له بالقياس.

ثالثا) ما روي عن ابن عباس  من إنزاله الجد منزلة الأب في حجب الإخوة من الميراث، وتشنيعه على زيد بن ثابت  الذي يشرك الجد مع الاخوة ولا يحجبهم به خلافاً للأب، وقوله : (ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً)، وهو يشير بذلك إلى أن ابن الابن يحجب كل من يحجب بالابن، سواء بسواء في مذهب زيد.

فإن قيل: إنه إلى جانب عمل كثير من الصحابة بالقياس ثبت عن كثير من الصحابة رفض القياس وذمة والتشنيع على من عمل به، حتى إنه ثبت عن النبي  نفسه أنه شنع على من عمل بالقياس، فقد ثبت عنه  أنه قال: (مازال أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى كثرت فيهم أولاد السبايا، فقاسوا ما لم يكن بما قد كان، فضلوا وأضلوا)، فجعل النبي  قياسهم دليلاً على ضلالتهم).

كما ثبت عن عمران  قال: (إياكم وأصحاب الرأي، فانهم أعداء السنة الشريفة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا)، والرأي أصل القياس. فإنه بجاب عنه بأنه ثبت عن الصحابة ذم القياس كما ثبت عنهم العمل به والثناء عليه، بل إن كثيراً من الذين ثبت عنهم ذمه ثبت عنهم العمل به كما تقدم، فكان لابد من التوفيق بين هذه الدلالة وذلك، بحمل النهي على القياس الفاسد القائم على الهوى، أو القائم في مقابلة النصوص، وحمل العمل على القياس الصحيح المستوفي للشروط.

أدلة الظاهرية ومن والاهم ممن رد الاحتجاج بالقياس:

أ) قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89)، إذ معنى ذلك أن الأحكام كلها مستفادة من الكتاب موجودة فيه، فلا حاجة إلى غيره، والقياس إنما هو إثبات لأحكام لم توجد في الكتاب، فكان غير محتاج إليه لذلك.

ولكن يجاب على هذا بأن القرآن الكريم تبيان لكل شيء أي بمعناه ولفظه لا بلفظه فقط، لأن التبيان يتعلق بكليهما، والثابت بالقياس داخل في معنى النص من الأصل، إذ القياس مظهر للحكم لا منشئ له من جديد، فيكون القياس على ذلك دالاً على حكم المقيس بطريق التبيان، وعلى ذلك يكون حكم الله تعالى في المقيس عليه موجوداً في الكتاب لفظاً، وحكمه تعالى في المقيس موجود معنى، وفي ذلك تعظيم لكتاب الله وعمل به لفظاً ومعنى، وهو لاشك أولى من العمل باللفظ وإهمال المعنى كما يفعل أهل الظاهر ومن والاهم، وبذلك يسقط دليلهم من أصله، وينقلب النص على هذا التوجيه عليهم لا لهم.

ب) تشنيعه  على بني إسرائيل لقياسهم ما لم يكن على ما كان، وقد تقدم هذا الدليل في معرض تعليل دليل الجمهور، وبينا الرد الكافي عليه.

ج) لا حاجة إلى القياس أصلا، ولكن إن كان في الكتاب أو السنة الشريفة أو إجماع رجعنا إليه، وإلا تمسكنا بحكم البراءة الأصلية، فإنه ممكن، وقد دعانا إلى التمسك به الله سبحانه وتعالى حيث قال في كتابه العزيز: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام:145)، فإن الله سبحانه وتعالى اعتبر في هذه الآية أن كل ما لم يذكر له حكم في الشريعة بأنه محرم لا يمكن اعتباره محرماً، فيبقى على حكم الإباحة والبراءة الأصلية.

ولكن يجاب عن ذلك بأن العمل على إثبات حكم الإباحة فيما لا دليل عليه عمل بلا دليل، والآية الكريمة لا تدل عليه، لأن إباحة الله سبحانه وتعالى ما عدا ما ذكر من أنواع المحرمات لم يكن لعدم وجود دليل على تحريمها، ولكنه مستند إلى دليل آخر هو قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29)، فإن هذه الآية هي دليل الإباحة، وليس حكم البراءة الأصلية دليلها.

دـ) الحكم حق الشارع، وهو قادر على البيان القطعي، فلا حاجة إلى إثبات الحكم بالدليل الظني وهو القياس، إذ القياس دليل ظني عند الجمهور، ثم هو تصرف فيما هو من حق الله تعالى، لقوله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فكان ممنوعاً لذلك.

ولكن يجاب عن ذلك بأن الظن كاف في حق العمل، وهو أيضاً تصرف في حق الله تعالى، ولكن بإذنه، فلم يكن ممنوعاً.

هـ) إن أحكام الله تعالى لا مدخل للعقل في إدراك معناها، وإلا فما هي العلة في جعل صلاة الظهر أربعاً، والمغرب ثلاثا، والعشاء أربعاً، وما معنى فرضه علينا صيام رمضان دون غيره من الشهور … ، وما كان كذلك شأنه امتنع القياس عليه.

ويجاب عن ذلك بأن مالا يمكن للعقل أن يدركه لا نقول فيه بصحة القياس مثلكم، ولكن لا نسلم بأن أحكام الله تعالى كلها كذلك، بل بعضها معقول المعنى وبعضها غير معقول المعنى، ونحن نقول بالقياس في القسم الأول دون القسم الثاني، فلم يبق محل للاعتراض علينا بذلك.

أركان القياس وشروطه:

يتضح من تعريف القياس السابق أن له أركانا أربعة يقوم بها ويتألف منها، وهذه الأركان الأربعة هي: المقيس ويسمى الفرع، والمقيس عليه ويسمى الأصل، والحكم وهو المراد تعديته من الأصل إلى الفرع، ثم العلة وهي الجامعة بين الأصل والفرع، وأكثر الأصوليين على الدمج بين الركنين الثاني والثالث في ركن واحد يسمونه حكم الأصل وهو ما سوف نسير عليه في بياننا لشروط الأركان.

ولكل ركن من هذه الأركان شروط خاصة به لابد من توافرها فيه لصحة القياس، فإذا فات واحد منها بطل القياس ولم يثبت حجة شرعية آنئذ.

وهذه الشروط هــي:

أ) شروط حكم الأصل: حكم الأصل هو الأثر الشرعي الثابت في مسألة يراد قياس غيرها عليها، ولحكم الأصل سبعة شروط هي:

1- أن يكون حكما شرعياً، لأن القياس الشرعي إنما يختص به، ولا علاقة له بالقياسات العقلية أو اللغوية، والحكم الشرعي ما كان نصاً شرعياً.

2- أن يكون ثابتاً بنص من الكتاب أو السنة الشريفة أو الإجماع لا غير، فإذا كان ثابتاً بالقياس، امتنع القياس عليه، لأن العلة الجامعة بين هذا الفرع وأصله إن كانت هي نفسها الجامعة بين ذلك الأصل وأصله، كان القياس على هذا الأصل عبثاً، إذ عندها يمكن القياس على الأصل الأول، مثل ذلك قياس البيرة عل النبيذ في الحرمة بجامع الإسكار في كل، مع العلم بأن النبيذ ثبتت حرمته قياساً على الخمرة لعلة الإسكار في كل أيضاً، ففي هذه الحال يكون قياس البيرة على النبيذ عبثا لا حاجة إليه، لأنه يمكن قياس البيرة على الخمرة مباشرة لاتحاد العلة، وهي الإسكار في كل.

وإن كانت العلة في القياس الثاني غير العلة في القياس الأول، كان القياس الثاني باطلاً، كقياس وجوب النية في الوضوء على وجوبها في التيمم، بجامع الطهارة في كل، مع العلم بأن النية في التيمم ثبتت قياسا على الصلاة، بجامع العبادة في كل، فهو باطل، لاختلاف العلة بين القياسين، مما يتعذر معه قياس الوضوء على الصلاة مباشرة، لاختلاف العلة بينهما.

3- أن يكون دليل حكم الأصل غير شامل لحكم الفرع، فلو كان شاملا له لكان القياس عبثاً لا حاجة إليه، لأن حكم الفرع هنا مأخوذ من النص مباشرة، فلا حاجة إلى القياس معه، لأن القياس إنما يحتاج إليه عند غياب النص، فلا حاجة إليه معه، مثاله قياس البنات على الذكور في حق أمر الآباء لهم بالصلاة وهم أبناء سبع، وضربهم عليها وهم أبناء عشر، لأن أمر الذكور بها ثبت بقول النبي : (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع)رواه أبو داود، فإن هذا القياس عبث لا حاجة إليه لأن أمر البنات ثابت بنص الحديث نفسه، لأن الولد يشمل كلا من الذكر والأنثى على حد سواء، والعبث ممنوع في الشريعة، فكان القياس باطلا لذلك.

4- أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس، وهو يشمل حالتين هما:

أ - الحالة الأولى: أن يكون حكم الأصل تعبديا غير معقول المعنى، كعدد الركعات، وأيام الصوم، ومقادير الكفارات، وغيرها مما لا يستطيع العقل إدراك علته، فإن هذه الأحكام لا يصح القياس عليها، لأن من شروط صحة القياس فهم العلة، وهذه نعجز عن فهمها، فلا يصح القياس لذلك، وهذا محل إجماع الفقهاء الذين يقولون بالقياس.

ب - الحالة الثانية: أن يكون حكم الأصل معقول المعنى واضح العلة، ولكنه جاء استثناء من القواعد العامة في الشريعة الإسلامية، لنص خاص به، مثل تضمين الأجير المشترك ما ضاع منه بغير تقصير، فإنه جاء مخالفا للقواعد العامة التي تقضي بعدم التضمين، لأنه أجير في الصناعة وليس أجيرا في الحفظ، فكان حاله في الحفظ كحال الوديع، وهو غير ضامن بالإجماع إذا لم يكن بتقصير منه، فكذلك هذا، ولكن هذا التضمين في الأجير المشترك ثبت بأدلة أخرى أخرجته عن حكم هذه القواعد العامة، منها فتوى علي  وقضاؤه بالتضمين، وغير ذلك. ومن ذلك كل الأحكام التي ثبتت بطريق الاستحسان عند الحنفية، لأنها تثبت على خلاف القياس، وقد وضع الأصوليون لذلك قاعدة، هي: (ما جاء على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس)، ولكن هذه الحالة ليست متفقا على حكمها عند الجميع، بل هي محل اختلاف بين الفقهاء، فمنهم من تمسك بها على إطلاقها، ومنهم من قيدها بشروط خاصة، على النحو التالي:

أ - مذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية وبعض المالكية:

إن ما جاء مستثنى من القواعد العامة في الشريعة لا يجوز القياس عليه بحال، من غير قيد أو شرط، ولذلك لم يقس الأجير الخاص على الأجير المشترك في حق التضمين، لأن حكم الضمان في الأجير المشترك جاء على خلاف القياس.

ب - مذهب الكرخي من الحنفية:

وهو عدم جواز القياس على ما جاء مستثنى من القواعد العامة إلا في ثلاثة أحوال فقط، فإنه يجوز القياس عليه فيها، وهي:

أولا: أن ينص الشارع على علة حكم الأصل نصا، فإن النص هنا إيذان من الشارع بالقياس عليه.

ثانيا: أن يقوم الإجماع على أن هذا الحكم معقول المعنى، فإنه يصح القياس عليه إذ ذاك ولو كان مستثنى من الأصول العامة.

ثالثا: أن يوافق هذا الاستثناء أحد القواعد العامة في الشريعة غير التي خالفها، أي أن يكون جاريا على غير سنن القياس بالنسبة لبعض القواعد، وعلى سنن القياس بالنسبة للبعض الآخر، فإنه يصح القياس عليه لذلك، ومن ذلك كل الأحكام الثابتة بطريق استحسان القياس الخفي عند الحنفية.

ج - مذهب جمهور الشافعية وبعض الحنفية:

وهو عدم صحة القياس على ما جاء مستثنى من القواعد العامة، إلا إذا كان حكما معقول المعنى واضح العلة، فإنه يجوز القياس عليه آنذاك.

1 - أن لا يكون حكم الفرع ثابتا بدليل سابق على حكم الأصل من الناحية التاريخية، لأن ذلك معناه جعل حكم الفرع ثابتا قبل ورود الدليل عليه، وهو باطل، لأن الحكم أثر الدليل، ولا يمكن أن يثبت قبله، مثاله، قياس الوضوء على التيمم في حق وجوب النية، فإنه باطل، لأن الوضوء شرع قبل التيمم، فلم يصح قياسه عليه.

2 - أن لا يكون حكم الأصل خاصا به بدليل اقتضى هذه الخصوصية، فإن كان هنالك دليل على هذه الخصوصية فإنه يمتنع القياس، لأن الخصوصية تنافيه، ومن أمثلة ما ثبتت خصوصيته إقامة شهادة خزيمة وحده مقام شهادة رجلين اثنين، أخذا من قول النبي :(من شهد له خزيمة فحسبه)، فإنه خاص بخزيمة  فلا يتعداه إلى غيره، وإن وجدت فيه العلة وهي كثرة الفطنة وشدة الوثوق به، ودليل الخصوصية هنا إطلاق النبي  وقوله: (شاهداك أو يمينه)، وعدم قبوله في حياته إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فكان ذلك دليلا على خصوصية خزيمة ، ومن ذلك أيضا كل خصوصيات النبي  من تزوجه بأكثر من أربع زوجات وغيره، فإنه لا يقاس عليه غيره بحال.

شروط الفرع:

الفرع هنا هو المسألة المراد إلحاقها بغيرها في الحكم لعلة جامعة بينهما.

وللفرع ثلاثة شروط ينبغي توافرها فيه لصحة القياس، وهي:

1- قيام علة حكم الأصل في الفرع، لأن القياس إنما هو تعديه الحكم من الأصل إلى الفرع لاشتراكهما في العلة، فلا بد إذن من توافرها فيهما معا، كقياس النبيذ على الخمر، فإن العلة في الأصل هي الإسكار وهي قائمة في الفرع أيضا، أما قياس الماء على الخمر فممتنع لأن العلة في الخمر هي الإسكار وهي غير موجودة في الماء، فلا يصح القياس لذلك، وهذا الشرط مفهوم من معنى القياس.

2- أن يساوي الفرع الأصل في علة حكمه بأن تكون العلة في الفرع مساوية لها في الأصل، فإذا كانت أنقص منها في الفرع لم يصح القياس، أما إذا كانت أكبر منها فيه، فإنه يصح ويكون ذلك من باب أولى، وهذا الشرط مفهوم من التعريف نفسه، إذ هو كما تقدم: (مساواة الفرع الأصل في علة حكمه)، والمساواة تشمل التعادل كما تشمل ما كانت العلة فيه في الفرع أكد منها في الأصل.

3- أن لا يكون في الفرع نص خاص يدل على مخالفته القياس، فلو كان كذلك كان النص أولى بالاستناد إليه، والقياس في معارضته باطل، مثال ذلك شهادة خزيمة المتقدمة، فإنه لا يجوز في هذه الحال قياس خزيمة على سائر الناس، وبالتالي عدم الاكتفاء بشهادته وحده مثلهم، بل لا بد من إعمال النص الخاص الذي جاء به، وهو الحديث الشريف المتقدم، وصرف النظر عن القياس، لأنه باطل في مواجهة النص، وهذا الشرط تقدم الكلام عليه في شروط الأصل.

شروط العلــة:

اختلف الفقهاء في تعريف العلة، فذهب البعض إلى أنها: (الوصف المعرِّف للحكم تحصيلا للمصلحة)، وذهب آخرون إلى أنها: (الوصف المؤثر في تشريع الحكم)، وهذا اختلاف واسع لا محل لتفصيله هنا، بل المهم هنا هو بيان أن العلة هي الوصف أو المعنى الذي شرع الحكم عنده تحقيقا للمصلحة، سواء كان هذا الوصف مؤثِّرا أو معرِّفا.

وللعلة شروط ثلاثة لابد من توافرها فيها لتصلح لتعددية الحكم من الأصل إلى الفرع، وهي:

1- أن يدور الحكم معها في كل الأحوال، ولا يتخلى عنها في بعض الأحوال، كقياس النبيذ على الخمر في التحريم، فإن العلة هي الإسكار، وهي موجودة في الخمرة مع النبيذ في كل أحوالهما، ولذلك كان القياس صحيحا، فإذا تخلف عنها الحكم في بعض الصور كان القياس باطلا، مثاله مسألة الرجم، فإنه معلل بالزنا، ولكن الزنا لا يصلح علة للقياس، لأن حكمه وهو الرجم يتخلف عنه في بعض الصور، منها زنا غير المحصن، فإنه لا يرجم، ولذلك لا يقاس عليه غيره.

وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن ما أخرج عن الحكم بدليل خاص لا يضر في عدم الدوران هذا، مثل استثناء شهادة خزيمة من اشتراط التعدد في الشهود، فإنه لا يؤثر في صحة العلة، وتبقى معه صالحة للنقل فيما عدا حدود المستثنى.

2- أن تكون العلة مطردة منعكسة مع حكمها، بحيث يلزم من وجودها وجوده ومن عدمها عدمه في كل الحالات، أي أن تكون سببا له، وإلا لم يصح النقل بها، ومثال العلة غير المنعكسة المشقة المطلقة في السفر، فإنها علة لقصر الصلاة، وإباحة الفطر، ولكنها غير منعكسة، بدليل أن المسافر مدة القصر له أن يقصر وأن يفطر ولو لم يشق الصوم أو الصلاة عليه، فكان انعدامها غير مؤثر في زوال الحكم المترتب عليها، ولذلك عدل عنها إلى ما هو مظنة لها، فأقيم مقامها، فجعل السفر مدة معينة قائما مقام المشقة الفعلية في وجوب القصر وإباحة الفطر وغير ذلك.

3- أن تكون ظاهرة منضبطة: فإذا كانت العلة خفية لم يجز النقل بها، مثل الإرادة الباطنة في العقود، فإن المدار عليها في الصحة والفساد، ولكن لخفائها ألغيت وأنيط تصحيح العقود وإبطالها بما هو مظنة لها، وهو الإيجاب والقبول، وكذلك إذا كانت ظاهرة ولكنها غير منضبطة، مثل المشقة في السفر، فإنها غير منضبطة، إذ تختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الظروف والقرائن، ولذلك ألغيت وأنيط الحكم بما هو مظنة لها، وهو السفر مدة معينة كما تقدم.

مراحل طرق إثبات العلة:

نحتاج في إثبات العلة وجعلها صالحة لتعددية الحكم إلى دراسة نقاط ثلاث، هي:

1- معرفة علة حكم الأصل، والوقوف عليها من بين الأوصاف التي تحيط بها،، مثل الخمرة فإن لها أوصافا كثيرة، منها أنها مائع، ومنها أنها ملونة، ومنها أنها مسكرة، ومنها أنها لاذعة الطعم، .. فأي هذه الأوصاف هو علة التحريم، وهذا البحث عن العلة في حكم الأصل ودليله يسمى تنقيح المناط.

2- معرفة مدى توفر العلة الثابتة في الأصل في الفرع، وهل هي موجودة فيه أملا،، وهل هي فيه مساوية لها في الأصل أم لا. وهذا ما يسمى بتحقيق المناط.

3- معرفة العلة من النص الذي لم يتعرض لها بالعبارة أو الإشارة، كتحريم الخمرة فإنه جاء مجردا من العلة الكامنة وراء التحريم، وإنما عرفت العلة هنا بطريق الاجتهاد، وهذا ما يسمى بتخريج المناط.

والمناط هنا هو العلة نفسها، فإن لها أسماء كثيرة، منها: العلة والمناط والمعنى وغيرها، وإنما سميت به لأن الحكم مناط بها أي مرتبط بها.

وللعلماء في كل من تحقيق المناط أو تخريجه أو تحقيقه دراسات واختلافات وشروط وطرق متعددة يطول شرحها، ولذلك نصرف النظر عن تفصيلها هنا، ونكتفي بالإحالة إليها في كتب الأصول المطولة.

حكم القياس ومرتبته من الكتاب والسنة والإجماع:

القياس دليل ظني وليس دليلا قطعيا خلافا لنصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة المتواترة والإجماع، فإنها –كما تقدم- مصادر قطعية، ولذلك فإن القياس يأتي في المرتبة الثالثة من الأدلة بعد نصوص القرآن الكريم والسنة التي هي الأولى، ثم الإجماع الذي هو في المرتبة الثانية، فإذا تعارض القياس مع النص قدم النص عليه، وإذا تعارض مع الإجماع قدم الإجماع عليه أيضا، لأنها قطعية وهو ظني.

هذا وقد يساوي القياس خبر الآحاد لأنه ظني الثبوت، فيكون مثل القياس، ولكن لا بد من الانتباه إلى أن هذا محدود في حالات معينة مختلف عليها بين الفقهاء، وليس قاعدة عامة، إذ القاعدة العامة تقديم النصوص على القياس، ولذلك نصوا على أن النصوص العامة مقدمة على القياس ولو دخلها التخصيص، مع أنها ظنية مثله.

المصادر المختلف فيها:

المصادر المختلف فيها هي المصادر التبعية كما أطلقنا عليها في أول باب المصادر، وهي عديدة اختلف الفقهاء على صحة الأخذ بها، فمنهم من أخذ بها جميعاً، ومنهم من أخذ ببعضها دون البعض الآخر.

ولذلك فإننا سوف نعمد إلى استعراضها، وبيان تعريف كل منها وكنهه ومدى احتجاج الفقهاء به، دون استعراض لتفصيلاتها وشروطها:

الاستحسان:

تعريفه: الاستحسان في اللغة عد الشيء حسناً، وفي الاصطلاح اختلف العلماء في تعريفه اختلافاً كبيراً، وقد عرفه صاحب التوضيح بعد ما ذكر الاختلاف فيه، فقال: (والصحيح أنه دليل يقع في مقابلة القياس الجلــي). والمعنى المراد من ذلك هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها لدليل أدق اقتضى هذا العدول، أي هو ترك القياس الظاهر لدليل اقتضى هذا الترك.

هذا هو الاستحسان عند عامة الحنفية، وذهب بعضهم إلى تخصيصه في صور محدودة، فقالوا: هو ترك القياس الجلي لقياس خفي، وبذلك خصوه بصورة واحدة من صور الاستحسان بحسب الإطلاق الأول، وهي حالة العدول عن القياس الجلي لدليل أدق هو القياس الخفي، دون غيره من الأدلة الأخرى، كنصوص الكتاب والسنة والإجماع،والضرورة وغيرها.

أنواع الاستحسان:

للاستحسان عند عامة الحنفية أنواع عدة بحسب اختلاف أنواع الدليل الذي ترك القياس الجلي من أجله، خلافاً لبعضهم الذي قيده في حالة واحدة فقط كما تقدم، وهذه الأنواع هــي:

أ - استحسان النص: وهي الأحكام التي عدل فيها عن القياس الجلي إلى نص خاص جاء به الكتاب العزيز أو السنة الشريفة المطهرة، مثال ذلك عقد السلم، فإنه في القياس باطل، لأن القواعد العامة في الشريعة تبطل العقد على المعدوم، والسلم عقد على معدوم، ولكن جاءت السنة الشريفة بنصوص خاصة في تصحيحه، منها قول بعض الصحابة: (منع رسول الله  بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم)، فإنه دليل على الاستثناء من القواعد العامة.

ومنها شهادة خزيمة كما مر، فإنها مستثناة من القواعد العامة بنصوص السنة الشريفة.

ب) استحسان الإجماع: وهو الأحكام التي أثبت الإجماع شرعيتها خلافاً للقواعد العامة في الشريعة، من ذلك: عقد الاستصناع، فإنه باطل حسب القواعد العامة، لأنه عقدان في عقد، وهو ممنوع، ولأنه بيع ما ليس عند الإنسان، وهو باطل. ولكن الإجماع انعقد على جوازه، فكان مباحاً استحساناً لذلك.

ج) استحسان الضرورة: وهو الأحكام التي شرعت على خلاف القواعد العامة للضرورة، فإن الضرورات تبيح المحظورات، ومن أمثال ذلك، الأجير المشترك -كما تقدم-، فإن الأصل فيه عدم التضمين في حالة هلاك الشيء في يده بدون تقصير منه، إلا أن الضرورة قضت بتضمينه، وهي حاجة الناس الملحة إلى ترك ثيابهم وممتلكاتهم بين يديه، فلولا التضمين لتهاون في حفظها وأدى ذلك إلى تلفها وضياعها، فكان التضمين هنا محتاجا إليه ضرورة، ، فعدل فيه عن القياس لذلك، وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن للحاجيات حكم الضروريات في حق العدول عن القياس.

د) استحسان القياس الخفي: وهو النوع الذي اقتصر عليه بعض الحنفية -كما تقدم-، وذلك بأن يعدل عن القياس الجلي إلى قياس خفي أولى منه بالأخذ والعمل، والقياس الجلي هو القياس الذي تظهر علته للمجتهد لأول نظرة، وأما القياس الخفي فهو القياس الذي لا يستطيع المجتهد تبين علته إلا بعد تدقيق نظر وسبر عميق، ومثال ذلك سؤر سباع الطير، فإن القياس الجلي يقتضي إلحاقه بسباع البهائم، بجامع نجاسة اللعاب في كل، فيكون نجسا، فإن نجاسة اللعاب علة واضحة لتنجيس السؤر، ولكن القياس الخفي الذي يظهر بعد النظر والتدقيق يقتضينا أن نحلق سؤر سباع الطير بسؤر الآدمي لا بسؤر سباع البهائم، فنحكم بطهارته، وذلك لأن المعنى في طهارة بسؤر الآدمي هو عدم تماس لعاب نجس منه بالماء، وذلك لطهارة لعابه، وهو موجود في سباع الطير إذ هي تشرب بمناقيرها ومناقيرها طاهرة، فحصل فيها عدم تماس لعاب نجس بالماء كما حصل للآدمي، ولا يضر حصوله في الآدمي لطهارة لعابه وحصوله في سباع الطير لعدم تماس لعابها مع الماء، فكان إلحاق سؤرها بسؤر الآدمي أولى، وهو قياس خفي.

حجية الاستحسان ومذاهب الفقهاء فيها:

أول من أوضح فكرة الاستحسان وقال بها هم الحنفية.

أما المالكية والحنابلة فلم يقولوا بها تحت هذا الاسم الخاص به، وإن كانوا يعملون به في تفريعاتهم للأحكام تحت أسماء متعددة كما سيأتي.

وأما الشافعية فقد رفضوا الأخذ به، واعتبروه خروجا على أحكام الشريعة، حتى إن الشافعي ثبت عنه قوله: (من استحسن فقد شرع).

ولكن تدبر هذا الاختلاف والتحقيق فيه كفيل بإزاحة الستار عن حقيقته، وإذ ذاك يتبدى لنا أنه لا خلاف بين الحنفية والشافعية في حجية الاستحسان في حقيقة الأمر، وأن الاختلاف بينهما لفظي فقط،.

ذلك أن الاستحسان إن كان معناه ترك القواعد العامة في الشريعة للهوى فهو مردود عندهما من غير خلاف، وإن كان معناه ترك القواعد العامة لنصوص القرآن الكريم و السنة الشريفة والإجماع فذلك محط اتفاق بينهم، كيفما سمي ذلك، فالحنفية يسمونه استحسان النصوص أو استحسان الإجماع، والشافعية يسمونه قرآنا أو سنة أو إجماعا دون إضافة لفظ الاستحسان إليه.

وإن كان تركا للقواعد العامة من أجل الضرورة، فهذا مسلم أيضا عندهما، لأن الضرورات تبيح المحظورات بالاتفاق.

وإن كان تركا للقياس الجلي لقياس خفي أدق منه، فهو محل اتفاق أيضا، لأنه ترك قياس مرجوح إلى قياس راجح، فليس فيه خروج على القياس.

وبذلك نستطيع أن نقول إن الاستحسان بالقيود والشروط السابقة محل اتفاق بين المجتهدين على حجيته، وإن كانوا اختلفوا في تسميته، فإن ذلك اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

حكم الاستحسان ومرتبته بين مصادر التشريع:

الاستحسان يختلف حكمه باختلاف دليله الذي ثبت به، فإن كان نصا من القرآن الكريم أو السنة الشريفة اعتبر حكمه بحكم ذلك النص ثبوتا ودلالة، وإن كان دليله الإجماع فحكمه حكم الإجماع، وهو قطعي إذا ثبت الإجماع بطريق متواتر، وإلا فظني، وإن كان \ليله القياس الخفي أو الضرورة، كان ظنيا لظنية القياس والضرورة، وعلى ذلك الاعتبار تكون مرتبته بين الأدلة الأخرى بحسب مرتبة الدليل الذي يثبت به على النحو المتقدم.

الاستصحاب، أو استصحاب الحال:

تعريفــه:

الاستصحاب في اللغة، من الصحبة وهي الملازمة، واستصحاب الحال هو التمسك بما كان ثابتا، وهو في اصطلاح الأصوليين: (الحكم ببقاء أمر كان في الزمان الأول ولم يظن عدمه)، وهو يعني أن الحكم الذي جاء الدليل بإثباته يبقى مستمرا حتى يظن ورود ما ينافيه، مثال ذلك: لو توضأ إنسان ثم شك بعد ذلك في أنه هل انتقض وضوؤه أم لا، فإنه على وضوئه، بدليل استصحاب الحال، لأن الحكم الأول أنه متوضئ، ولم يثبت ما يصلح ناقضا لهذا الوضوء بطريق الظن أو غلبة الظن، فيبقى الحكم السابق وهو قيام الطهارة ساري المفعول، لأن الوضوء الأول كان يقينا، فلا يقطع بالشك، أما الظن أو غلبة الظن فإنه يقطع به حكم اليقين في الأمور العملية، ومنها هذا، ولو حدث العكس، وهو أنه نقض وضوءه ثم شك في أنه هل توضأ ثانية أم لا، فإن الحكم أن طهارته منتقضة، بدليل استصحاب الحال كما تقدم.

حجيته ومذاهب الفقهاء فيه:

اختلف الفقهاء في الاحتجاج بالاستصحاب واعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي على مذاهب عديدة، وهي:

أ‌- مذهب جمهور الحنفية: فقد ذهبوا إلى أن الاستصحاب لا يصلح دليلا لإثبات الأحكام، ولكنه دليل صالح لنفيها أو دفعها فقط.

ب‌- مذهب جمهور الشافعية، والحنبلية، وبعض الحنفية: وهؤلاء اعتبروا الاستصحاب حجة في الدفع وفي الإثبات مطلقا، ما دام لم يعارضه دليل آخر.

ج- مذهب بعض الشافعية والحنفية: وهو أن الاستصحاب ليس بحجة في الإثبات ولا في الدفع مطلقا.

د- مذهب بعض الحنفية: وهو أن الاستصحاب حجة في الإثبات لا في الدفع، والمراد بالإثبات هنا إثبات الحكم من الناحية الإيجابية، أي إثبات وجوده، والمراد بالدفع هو إثبات نفي الحكم وانعدامه أو زواله.

ويتضح ذلك من المثال الآتي: رجل باع لآخر داره، فطالب الشفيع بها، وادعى أنه ملكها بحق الشفعة، فأنكر البائع أن الدار ملك الشفيع بحق الشفعة.

فعند الشافعية: الدار للشفيع من غير بينة على ملكه إياها، لأن الملك يثبت بالبيع، والبائع لا ينكره، واستصحاب الحال يدل له في استمرار ملكيته لها ما دام لم يثبت ما ينزع هذه الملكية عنه بعد ثبوتها، فتعتبر ثابتة له بدليل استصحاب الحال، فلا يكلف بإثباتها بالبينة ثانية، وعند الحنفية عليه البينة، لأن دليل استصحاب الحال هذا غير معتبر في الإثبات عندهم، فاحتجاج الشفيع إلى البينة في إثبات حقه.

أدلة كل من المثبتين والنافين للاحتجاج باستصحاب الحال:

أ‌- أدلة المثبتين: استدل المثبتون لحجية هذا الدليل في حالتي الإثبات والدفع بأدلة منها:

1- أن إثباته أمر ضروري يقضي به العقل، فإن ما تحقق وجوده أو عدمه في زمان ما لقيام الدليل عليه ولم يثبت دليل معارض له مما يظن أو يغلب على الظن معه أنه يلغيه يعتبر لزوم بقائه أمر ضروري عقلا، والظن يصلح دليلا في الأحكام العملية، فيكون الاستصحاب دليلا صحيحا لذلك.

2- أن الإجماع منعقد على وجوب العمل بالاستصحاب ضمنا، بدليل الإجماع على بقاء شريعة محمد ، وبقاء الشرائع السابقة إلى حين ظهور النبي ، وإن ذلك محل اتفاق، وليس له دليل إلا استصحاب الحال، فكن الاستصحاب دليلا صحيحا لذلك.

3- أن الإجماع منعقد على الأخذ بالاستصحاب في كثير من فروع الشريعة الإسلامية، منها الحكم ببقاء الوضوء كما جاء في المثال السابق ما دام المتوضأ لم يظن نقضه، ، وكذلك بقاء الحدث فيما لو لم يظن المحدث أنه توضأ، وفروع كثيرة مثله، فيكون ذلك إجماعا على اعتبار الاستصحاب والأخذ به، والإجماع حجة قاطعة، فيكون الاستصحاب حجة لذلك.

ب‌- أدلة النافيــن:

واستدل النافون لحجية الاستصحاب في الإثبات دون الدفع بأدلــة منها:

1 – يرد على احتجاج الشافعية ببقاء الشرائع بأن بقاءها لم يكن بالاستصحاب، ولكن بقيام الأحاديث الكثيرة على أنها باقية ما لم تنسخ، فكان بقاؤها لذلك الدليل لا للاستصحاب. وكذلك شريعة سيدنا عيسى عليه السلام وغيره، فهي باقية قبل بعثة محمد  لتواتر العمل بها لا للاستصحاب.

2- يرد على الاحتجاج بالإجماع على الاستدلال بالاستصحاب في كثير من الفروع، كثبوت الطهارة والحدث وغيرها على النحو المتقدم، بأن الدليل هناك ليس للاستصحاب، ولكنه وضع الشارع الحكيم الذي قضى باستمرارها ما لم يظهر المناقض، فكان دليل بقائها هو تحقق هذه الأفعال مع عدم ظهور المناقض لها، وليس الاستصحاب.

4- ويرد على الدليل الأول للشافعية وهو الدليل العقلي، بأن الدليل الموجب للحكم لا يدل على بقاء ذلك الحكم، وذلك لضرورة أن البقاء غير الوجود، لأن البقاء هو استمرار الوجود بعد الحدوث، والدليل الأول إنما دل على الوجود فقط، فلا يجعل دليلا على استمرار الوجود أيضا.

وهكذا نرى أن الحنفية ردوا كل الأدلة التي استند إليها الشافعية في الاحتجاج بالاستصحاب، وأسقطوها، وإذا لم يعد للاستصحاب من دليل سقط اعتباره ولم يجز عده دليلا من أدلة الشريعة الإسلامية، لكن يرد على الحنفية أنهم ماداموا ردوا الاحتجاج بالاستصحاب مطلقا، فلماذا يحتجون به في الدفع، فإن رد الشيء رد لكل أوصافه وإسقاط له من الأصل، مما يقتضي إسقاط الاحتجاج به مطلقا.

لكن الحنفية يجيبون على ذلك بأن الدفع لا يثبت في المسألة حكما، وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله، والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود بحكم العقل، فكان ثابتا ضرورة استمرار العدم، أي ضرورة عدم قيام الدليل، فلم يكن الاستصحاب هو الدليل المباشر في ذلك، فلا اعتراض.

مثال يوضح الخلاف وحدوده:

المفقود الذي يغيب عن أهله مدة ولا يعلم مكانه ولا تعلم حياته من موته، إذا مات أحد أقاربه الذين يرثهم أثناء غيابه. هل يرثه المفقود؟

- الشافعية على أنه يرث منه، لأنه يحكم هنا باستمرار حياته بدليل استصحاب الحال، فيعتبر حيا، فيرثه، لأن الاستصحاب حجة عندهم.

- والحنفية لا يرث عندهم، لأن الاستصحاب غير حجة في الإثبات، فكانت حياته غير ثابتة، مما ينتفي معه شرط الإرث، وهو العلم بحياة الوارث.

ثم هل يورَث المفقود قبل العلم بوفاته؟ الإجماع على عدم إرثه، أما الشافعية فلأن حياته ثابتة بدليل الاستصحاب، فلا يورث لذلك، وأما الحنفية فلأن شرط الإرث العلم بوفاة المورث ولم يثبت هنا، ولأن الأصل عدم الإرث ونفيه، والاستصحاب دليل على النفي والدفع عندهم كما تقدم، لأن العدم يستمر، فلا يورث لذلك.

طبيعة الاستصحاب:

من استعراض تعريف الاستصحاب وأمثلته نتبين أن الاستصحاب إنما هو مردود إلى الأدلة الأربعة الأصلية، الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لأنه ليس إلا حكما باستمرار ذلك الدليل، ولذلك اعتبر من الأدلة التبعية، لارتباطه بدليل آخر وتعلقه به وليس دليلا مستقلا بذاته.

حكمه ومرتبته بين الأدلة الأخرى:

الاستصحاب عند القائلين بحجيته دليل ظني ضعيف يأتي في المرتبة المتأخرة بعد كل الأدلة السابقة، لأنه دليل عند فقدان الدليل، فلا يعتد به مع وجود أي دليل آخر.

الاستصلاح أو المصالح المرسلة:

التعريف:

المصلحة في اللغة المنفعة، وهي خلاف المفسدة مطلقا، سواء كان ذلك في عرف العامة ومقصودهم، أم في عرف الشارع ومقصوده.

وهي في الاصطلاح الشرعي مقصود الشارع الحكيم من تشريع الأحكام دون غيره، فالمحافظة عليها محافظة على مقصود الشارع.

والمرسلة معناها في اللغة المطلقة من غير تقييد.

وفي الاصطلاح الشرعي المصلحة المرسلة هي المصلحة التي لم يرد فيها دليل خاص بالاعتبار أو النفي.

تحليل التعريف:

المصلحة المرسلة في التعريف الشرعي هي مقصود الشارع الذي لم يثبت بدليل خاص به نفي أو إثبات، والمتتبع للأحكام الشرعية يعلم أن أحكام الله سبحانه وتعالى كلها معللة بمصالح العباد، لأن الله حكيم، والحكمة معناها وضع الأمور في مواضيعها وتشريع الأحكام وفق الحاجة إليها، فكان مقصود الشارع لذلك إنما هو عين المصلحة التي يراها الناس مصلحة ويتعارفون عليها، لا فارق بينهما في واقع الحال، ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى قضت أن يشرع لنا أحكاما نستطيع فهم علتها، فندرك بذلك معنى المصلحة القائمة فيها، وتسمى هذه أحكاما معقولة المعنى، ويشرع لنا أحكاما أخرى نعجز عن إدراك معنى المصلحة فيها، وهذا لا يعني بحال أنها لا مصلحة فيها، فإن حكمة الله تنافي ذلك، ولكنه يعني أن عقولنا تعجز عن إدراك مواطن المصلحة فيها، وتسمى هذه أحكاما غير معقولة المعنى، ومن هذا النوع الثاني أكثر الأحكام التعبدية، ومن النوع الأول أكثر أحكام المعاملات، وما إخفاء الله سبحانه وتعالى عنا مواطن المصلحة في مواطن العبادة إلى لتكون عبادتنا أقرب إلى الإخلاص له وإظهار الطاعة التامة بين يديه، وما إظهاره المصلحة لنا في أكثر أحكام المعاملات إلا لتطمئن نفوسنا وترضى بهذه الأحكام، منا منه وكرما، وليكون ذلك أسهل على النفس في الانقياد إلى بارئها.

ننتهي من ذلك إلى أن أحكام الله تعالى كلها معللة بمصالح العباد، وأينما وجد الأمر فهو مقرون بمصلحة، وأينما وجد النهي فالفعل مقرون بالمفسدة، لا مراء في ذلك.

وأحيانا نلحظ أن الله سبحانه وتعالى في بعض الأحكام يأمرنا بما يخالف المصلحة في زعمنا، فينهانا عما يسرنا، ويأمرنا بما لا يسرنا، من ذلك مثلا الخمرة، فإن فيها مصالح كثيرة. وفوائد عميمة، مع أن الله تعالى نهانا عنها نهيا باتا.

لكن تفحص الأمر كفيل بإزاحة ستار الأشكال، ذلك أن المصالح والمفاسد في الدنيا أكثرها نسبي لا قطعي، ففي كل مصلحة مفسدة، وفي كل مفسدة مصلحة، والحكم يدار دائما على ما هو الغالب، فالصلاة نفسها مصلحة من حيث أنها تصل العبد بربه، وتدر عليه الأجر والثواب، وهي مفسدة من حيث أنها تحتاج إلى وقت وجهد، ولكن لما كانت المصلحة فيها غالبة اعتبرت مصلحة، وكانت المفسدة فيها ملغاة شرعا، وكذلك الخمرة، فإن فيها مصلحة، وهي ما فيها من مواد غذائية وحرارية كثيرة، إلا أن فيها مفسدة أيضا، وهي ما تسببه من زوال للعقل ونشر للأمراض وغير ذلك، فكانت المفسدة فيها غالبة، فاعتبرت مفسدة لذلك، وألغى ما فيها من مصلحة شرعا، وذلك مصداقا لقوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة:219).

وعلى ذلك نرى أن المصالح على قسمين، مصالح معتبرة من قبل الشارع، لأنها غالبة على ما فيها من مفسدة، ومصالح ملغية من قبل الشارع لما فيها من طغيان المفسدة على المصلحة.

كما أننا نرى إلى جانب هذه المصالح مصالح أخرى لم يرد عن الشارع فيها نص من اعتبار أو إلغاء، وهو ما يسمى بالمصالح المرسلة التي نحن بصددها.

وعلى ذلك تكون المصالح في اعتبار الشارع على ثلاثة أقسام هي:

1- المصالح المعتبرة من قبل الشارع، وتسمى في عرف الأصوليين المناسب المعتبر.

2- المصالح الملغاة من قبل الشارع، وتسمى في عرف الأصوليين المناسب الملغى.

3- المصالح المرسلة من قبل الشارع دون نص على اعتبارها أو إلغائها، وتسمى في عرف الأصوليين المناسب المرسل.

حجية المصالح المرسلة واختلاف الفقهاء فيها:

المصالح على ثلاثة أنواع كما تقدم. فأما النوع الأول فقد اتفق الفقهاء على اعتباره لورود الدليل الخاص بهذا الاعتبار، وكذلك النوع الثاني اتفقوا على إلغائه لورود الدليل الخاص على إلغائه، ولكنهم في النوع الثالث الذي لم يقم دليل خاص من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على اعتباره أو إلغائه أيكون معتبرا فيكون مناطا لتشريع الأحكام أم لا؟ اختلفوا في ذلك، وفي المسألة تفصيل على الوجه الآتي:

أحكام الشريعة إما أن تكون معقولة المعنى أو لا، فإن كانت غير معقولة المعنى كالأمور التعبدية، فإنها لا يمكن تشريع الأحكام لها بالقياس، فكيف بالمصالح المرسلة، وإما أن تكون معقولة المعنى فهذه محل اختلاف بين الفقهاء على جواز الاستدلال لها بالمناسب المرسل أو لا، وهم فيها على ثلاثة مذاهب هي:

1- مذهب مالك، وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية: فإنهم ذهبوا إلى الاحتجاج بالمصلحة المرسلة مطلقا، واعتبروها دليلا قائما بذاته من أدلة التشريع الإسلامي.

2- مذهب جمهور الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى عدم اعتبار المصلحة المرسلة دليلا قائما بذاته مستقلا عن غيره من أدلة التشريع الإسلامي، ولكنهم أدخلوها في أدلة أخرى، منها الاستحسان، فإنهم يرون صحة استحسان الضرورة، وهو ترك القياس لمطلق الضرورة المخالفة له، والمصلحة المرسلة ليست إلى تشريعا للحكم على مقتضى الضرورة التي هي المصلحة سواء خالفت القياس أم لم تخالفه، وإذا كانوا يقرون الضرورة في مقابلة القياس فهم يقرونها فيما ليس فيه قياس من باب أولى، وبذلك يمكن اعتبارهم ممن يأخذون بالمصالح المرسلة ضمنا.

3- الشافعية والشيعة وبعض الفقهاء الآخرين لا يرون صحة الأخذ بالمصالح المرسلة مطلقا، خلاف المالكية، هذا بالنسبة لظاهر كلامهم، ولكننا لو تتبعنا تفريعات الشافعية وتفصيلاتهم للأحكام لوجدناهم يحتجون بالمصلحة المرسلة ويسلمون بحجيتها ضمنا كالحنفية.

وبذلك يكون الجمهور ممن يأخذون بالمصالح المرسلة إن صراحة أو ضمنا، ولم يخالف في ذلك إلا القليل منهم.

الأدلـــة:

يستدل المثبتون لحجية المصلحة المرسلة على مذهبهم بأدلة، منها:

1- أن مصالح الناس متجددة متغيرة كل يوم، والحوادث لا تنتهي، ونصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع وعلل القياس محدودة، والمحدود لا يفي بغير المحدود، فكانت المصلحة المرسلة محتاجا إليها في إثبات الأحكام التي لم يرد فيها دليل، تلبية لداعي الحاجة، فكانت مصدرا تشريعيا لذلك.

2- أنه ثبت عن الصحابة  كثير من الأحكام الشرعية، وليس لها دليل إلا المصلحة المرسلة، دون اعتراض واحد منهم على ذلك، فكان ذلك إجماعا منهم على اعتبارها والاستدلال بها، من ذلك مثلا: جمع أبي بكر  القرآن الكريم، فإنه ليس هنالك نص من كتاب أو سنة أو إجماع يقتضي وجوب جمعه أو يجيزه إلا المصلحة المرسلة، وكذلك استخلافه عمر بن الخطاب  من بعده، ومثله أيضا تضمين على  الأجير المشترك ما هلك تحت يده بغير صنعه، وغيرها كثير.

ويستدل النافون لحجية المصلحة المرسلة بأدلة، منها:

1- أن المصدر للتشريع هو الله تعالى بأمره ونهيه، وليس في المصلحة المرسلة دليل يشهد لها بالاعتبار من قبل الشارع، ولذلك لا يمكن أن تكون دليلا على حكم الله تعالى، وبالتالي ليست مصدرا للتشريع.

لكن يجاب على هذا الدليل بأن المصلحة هذه معتبرة من الشارع بالجملة، وإن لم يكن هنالك دليل عليها بعينها، وذلك في عموميات الشريعة، من مثل القاعدة الفقهية الكلية: (لا ضرر ولا ضرار) والقاعدة: (الحرج مرفوع) وغيرها مما هو شاهد على أن ما غلبت مصلحته على ضرره فهو مصلحة معتبرة من قبل الشارع، وبالتالي معتبرة من قبله تمثل حكمه تعالى.

2- إن احتجاج المثبتين للمصلحة بأن ذلك كان ضرورة عدم خلو المسألة غير المنصوص عليها عن الحكم باطل، ذلك أن حكم الله تعالى في كل ما لم ينص عليه هو الإباحة، أي حكم البراءة الأصلية، فلم يكن محتاجا إليها، فلا تكون دليلا لذلك، ولكن يجاب عن ذلك بأن الحكم الثابت بالبراءة الأصلية هو الإباحة، أما الثابت بالمصلحة المرسلة فقد يكون الوجوب وقد يكون التحريم، مثل جمع القرآن الكريم، فإنه واجب، وحفر البئر في الطريق العام، فإنه حرام، فلم يكن حكم البراءة الأصلية بمغن عنها.

وبذلك ننتهي إلى أن الراجح أن الحق مع جمهور الفقهاء في اعتبار المصلحة المرسلة دليلا من أدلة الشريعة، ولكنه ليس دليلا أصليا بل إنه دليل تبعي، لأن الحكم الثابت بها إنما هو ثابت أصلا بالدليل الذي شهد لها بالاعتبار، وهو القواعد العامة التي جاءت بها السنة الشريفة أو شهد لها الكتاب الكريم بالاعتبار، كما تقدم.

مراتب المصلحة وأنواعها:

من استقصاء المصالح التي شهدت لها عموما الشريعة بالاعتبار نراها على ثلاث مراتب، تكمل كل مرتبة منها المرتبة الأخرى، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.

فالضرورات، هي الأمور والمصالح التي إذا فاتت فوتت على الإنسان مصالح الدنيا والدين جميعا، وهي خمس حصرا: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ الدين.

أما الحاجيات، فهي المصالح التي إذا فاتت ألحقت بالإنسان حرجا وضيقا.

وأما التحسينات فهي مصالح مكملة ومزينة للحاجيات والضروريات، ولا يلزم من فواتها لحوق الحرج، ولكن شيء من الارتباك والتعقيد في بعض المصالح.

فمن الضروريات وجوب القصاص، وذلك لما فيه من حفظ النفس، ووجوب الجهاد لما فيه من حفظ الدين والمال، وتحريم الخمر لما فيه من حفظ العقل، وإباحة الزواج وتحريم الزنا حفظا للنسل، وهكــذا.

ومن الحاجيات إباحة العقود والمبادلات المالية بأنواعها في حدود تأمين المصلحة، فإن في المنع منها حرجا كبيرا بالناس.

ومن التحسينيات: التحلي بمكارم الأخلاق، والتطهر من النجاسات، وكل الآداب الإسلامية، فإنها مكملة لمصالح الناس الحاجية.

والمصالح المرسلة معتبرة بهذا الترتيب، فنقدم أو لا المصالح الضرورية، ثم التكميلية، ثم التحسينية، وذلك عند التضارب والتعارض فيما بينهما، فإذا لم يكن بينها تعارض،روعيت جميعا بقدر الإمكان.

شروط العمل بالمصلحة المرسلة:

لقد وضع الفقهاء شروطا للعمل بالمصلحة المرسلة لئلا تكون ألعوبة في أيدي الساسة، فيسخرونها لأغراضهم ويشرعون الأحكام وفقا لها على هواهم، لكن الفقهاء اختلفوا في هذه الشروط توسعة وتضييقا،.

فالجمهور توسعوا أو توسطوا في الأخذ بالمصلحة، وهم الحنفية والمالكية والحنبلية. والغزالي من الشافعية ضيق العمل بها وقيده بشروط مشددة،.

أما الطوفي فقد توسع فيها توسعا مخلا، فخرج بها عن النطاق المشروع إلى الهوى المنبوذ.

وذلك على النحو التالي:

شروط الجمهور:

اشترط الجمهور لإعمال المصلحة المرسلة شروطا خمسة، هي:

1- أن تكون المصلحة ضرورية أو حاجية، أما التحسينية فلا عبرة بها ولا حجية فيها، لأنه لا عسر في تركها، وقد تقدم بيان الضروريات والحاجيات والتحسينات.

2- أن تكون حقيقية: وذلك بغلبة الظن النزيه أنها من جنس مقاصد الشارع، لأن المصلحة في هذا الباب هي المصلحة المشهود لها من قبل الشارع بالقواعد العامة، وليس كل ما جلب نفعا ودفع ضرا مطلقا، ثم بعد ذلك أن يكون نفعها غالبا على ضرها، لأن المصالح أمور نسبية كما تقدم، والعبرة فيها لما هو الغالب، فلو كانت مغلوبة لم تصلح لتشريع الحكم.

3- أن تكون عامَّة: وذلك بأن تشمل عددا كبيرا من الناس، لا أن تكون خاصة لواحد منهم أو لفئة محدودة دون بقية الناس، ولكن ليس معنى هذا أن تكون شاملة للناس جميعا من غير استثناء، فإن ذلك متعذر، بل إذا شملت أكثرهم أو جنسا غير محدود منهم كانت عامة، كأن تعم البدو فقط، أو الحضر فقط، أو أرباب صناعة بكاملها دون الصناعات الأخرى.

4- أن لا تكون معارضة بحكم ثابت بنص من القرآن الكريم أوالسنة الشريفة أو الإجماع، فإن كانت معارضة بذلك لم تكن مرسلة، بل كانت مصلحة ملغاة، وهذا الاتفاق على منع الاحتجاج بها كما تقدم، لأنها مصلحة غير معتبرة من الشارع، ولأن النص مقدم عليها أيضا.

5 - أن تكون المصلحة معقولة المعنى، وإلا لم يجز اعتبارها، كالعبادات والمقدرات الشرعية، فإنها لا يجري فيها القياس كما تقدم، فلا تجري فيها المصلحة المرسلة من باب أولى، لأن المصلحة ما عرف نفعه من ضرره بالعقل، وهذه لا يستطيع العقل إدراك كنهها، ولذلك لا يستطيع معرفة الحسن منها من القبيح، فلا تكون معتبرة لذلك.

شروط الغزالي:

قلنا إن الغزالي رحمه الله تعالى تشدد في اعتبار المصلحة أكثر من الجمهور، فقيدها بالضوابط الآتية:

1- أن تكون المصلحة ضرورية فقط، أما الحاجية والتحسينية فلا تعتبر في هذا الباب، خلافا للجمهور الذين اعتبروا الضروريات والحاجيات كما تقدم.

2- أن تكون قطعية، أي مقطوعا بحصولها بيقين أو بغلبة ظن يقارب اليقين، فإذ ا كانت مظنونة يتساوى فيها الاحتمالان أو يرجح جانب المصلحة فيها قليلا فإنها لا عبرة بها، خلافا للجمهور الذين يعتبرون المصلحة القطعية والظنية معا.

3- أن تكون كلية: أي عامة لجميع المسلمين غير خاصة بفئة معينة منهم، خلافا للجمهور الذين اشترطوا العموم فقط، وارتضوا أن تكون المصلحة خاصة بفئة معينة من المسلمين إذا كانت هذه الفئة غير محدودة، كما تقدم.

شروط الطـوفي:

وهو نجم الدين، أحد علماء القرن السابع الهجري، فقد ذهب إلى رأي شاذ في المصلحة المرسلة خالف فيها جماهير المسلمين وعامتهم، فقال: إن المصالح هي جلب المنافع ودفع المضار فقط، دون أن يقيدها بما جاء الشرع به أو بجنسه، ثم قال: إن المصالح بهذا التعريف هي مقصود الشارع دائما، فإذا كانت معقولة المعنى وجاءت النصوص على خلافها كانت المصلحة ناسخة للنصوص.

ولا شك أن هذا الرأي خطير وفاسد، وتشريع على مطلق الهوى، وإلغاء للنصوص بمطلق الوهم، وخلخلة للشريعة، ونقض لأركانها، ولذلك أجمع المسلمون على رفضه.

حكم المصالح المرسلة ودرجتها بين مصادر التشريع الأخرى:

المصلحة المرسلة ظنية الدلالة مثل القياس، ولكنها أضعف منه في ظنيتها، لأن القياس له شاهد من الشريعة هو المقيس عليه، وهذه لا شاهد لها إلا القواعد العامة، ولذلك فإن القياس مقدم عليها، وبالتالي نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع مقدمة عليها أيضا من باب أولى، وهكذا تأتي المصالح المرسلة في الدرجة التالية للقياس في ترتيبها بين مصادر التشريع الأخرى.

العــرف:

تعريفــه:

العرف في اللغة: المعرفة، ويطلق على الشيء المعروف المألوف الذي استحسنته العقول واستطابته الأمزجة، ومنه قول تعالى: (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين).

وهو في اصطلاح الأصوليين: مرادف لمعنى العادة، وهي مأخوذة من العود، وهو التكرار، وقد عرفه الغزالي رحمه الله تعالى بقوله: (العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول).

أنواعــه:

العرف على نوعين: قولي وعملــي ..

فالقولـي: هو تعارف قوم على النطق بلفظ من الألفاظ على معنى معين، بحيث لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه غيره، فهو في هذا يساوي الاصطلاح.

والعملـي: هو تعارف قوم القيام بعمل معين، كأكلهم لحم الضأن دون غيره، وشربهم ماء النهر دون غيره، وأكلهم خبز بر دون غيره…

حجِّيَّتــه:

الفقهاء على شبه الاتفاق على الاحتجاج بالعرف، وإن كانوا اختلفوا في شروط الأخذ به، وفي مرتبته بين المصادر التشريعية الأخرى إذا ما وقع التعارض بينه وبينها، واستدلوا لحجيته بأدلة منها:

أ‌- قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، فهذه الآية الكريمة على التسليم بأن المراد بالعرف فيها المعنى اللغوي له لا المعنى الشرعي، حيث المراد بالعرف فيها الشيء المعروف المستحسن، إلا أن فيها استئناسا إلى اعتبار العرف الشرعي، حيث إن العرف الشرعي ما هو إلا ما تعارفه الناس وألفوه واستحسنوه غالبا.

ب- الحديث الموقوف على ابن مسعود  وهو قوله: (فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌما) رواه أحمد، فهو وإن لم يصح رفعه إلى النبي  من طريق صحيح، لكنه صح وقفه على ابن مسعود، وهو مما لا يعرف بالرأي، فكان في حكم المرفوع.

وقد أوضح الفقهاء مدى احتجاجهم بالعرف وتمسكهم به في عبارات كثيرة، منها ما ذكر في شرح الأشباه للبيري قوله: (الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي)، وفي المبسوط للسرخسي: (الثابت بالعرف كالثابت بالنص).

وقد بنى الفقهاء قواعد فقهية عديدة على أساس الاحتجاج بالعرف، منها: (العادة محكمة) و(الحقيقة تترك بدلالة العادة) و(استعمال الناس حجة يجب العمل بها) و(المعروف عرفا كالمشروط شرطا) وغيرها.

شروط العمل بالعرف:

للعمل بالعرف شرط واحد، هو أن لا يكون في مقابلة النص، قرآنا كان أو سنة، ولا في مقابلة الإجماع، فإن ورد العرف على خلاف ما جاء به النص كان باطلا لا حجة فيه ، كأن يتعارف الناس على شرب الخمرة، أو فعل الزنا، أو أكل الربا … لأن هذه الأمور محرمة بنص الشارع، فيكون العرف على خلافها فاسدا لا حجة فيه، وإلا ألغيت كل أحكام الشريعة.

فإذا كان العرف معارضا للنص من وجه دون وجه، بأن كان النص عاما والعرف خاصا، أو كان العرف مخالفا له في بعض أفراده فقط، فإن العرف هنا يعتبر صحيحا لا فاسدا لعدم مصادمته النص من كل وجه، وفي تقديمه على النص أو تقديم النص عليه في هذه الحال وجوه سوف نعرض لها.

العرف الصحيح ومرتبته بين مصادر التشريع الأخرى:

إذا كان العرف فاسدا، بأن كان في مقابلة النص من كل وجه، فإنه ساقط لا عبرة به ولا حجية فيه، فإن كان صحيحا، بأن لم يكن كذلك، وجاءت بعض النصوص أو الأدلة تخالفه، فإنه ينظر، فإن كان الدليل نصا عاما وخالفه العرف الصحيح في بعض أفراده، أو كان الدليل قياسا، فإن العرف هنا يخصص العام ويلغي القياس، لأنه مقدم عليه، إن كان عرفا عاما، فإن كان عرفا خاصا، كان عموم النص والقياس مقدمان عليه، فيبقى النص على عمومه، ويبقى القياس صحيحا، ويلغى حكم العرف.

وعلى ذلك فالعرف العام أقوى من القياس، والعرف الخاص أدنى منه، والعرف العام هو العرف المنتشر بين جميع المسلمين في كل أقطارهم دون استثناء، والعرف الخاص هو العرف المحصور في بلدة معينة أو في أصحاب حرفة معينة دون غيرهم، مثال ذلك الشراء بشرط الحمل إلى البيت، فإن العرف قد ورد به في كثير من أنواع المشتريات، كالخضار واللحوم وغيرها، وانتشر بين الناس حتى عد عرفا عاما، ولذلك أفتى العلماء بصحة اشتراطه عند البيع رغم معارضته لعموم الحديث الشريف: (نهى رسول الله  عن بيع وشرط)، لأن الحديث هنا عام يشمل كل شرط، والعرف العام هنا جاء خاصا بشرط معين، فجاز تخصيص النص به، وهكذا كل الشروط العقدية التي جاء العرف العام بها مما لا يخالف نصا خاصا.

مذهب الصحابــي:

الصحابي عند الأصوليين: هو من لقي النبي  مؤمنا به ولازمه مدة طويلة بحيث يجوز إطلاق لفظ الصاحب عليه عرفا ولغة، وهو عند علماء الحديث: من لقي النبي  مؤمنا به ومات على الإيمان، ولو كانت مدة التقائه به دقيقة واحدة.

وقد اختلف الفقهاء في الاحتجاج بمذهب الصحابي وما صدر عنه من أقوال وأعمال وفتاوى، على أقوال متعددة، فمنهم من ذهب إلى الاحتجاج بأقوال الصحابة وأعمالهم مطلقا، ومنهم من احتج بها في مواطن دون أخرى، ولذلك فإننا سوف نفصل أحوال مذاهب الصحابة وأنواعها، ونبين مدى الاحتجاج بكل نوع منها، ومذاهب العلماء فيه.

أنواع مذاهب الصحابة:

1- أن يذهب الصحابي إلى قول لا مجال للرأي فيه، لأنه حكم غير معقول المعنى، كأن يفتي الصحابي بأن مكان سورة كذا قبل سورة كذا أو بعده، فإن ذلك أمر تعبدي توقيفي لا مجال للرأي فيه، وهذا النوع حجة عند جميع الفقهاء دون خلاف، لأنه في حكم الحديث المرفوع إلى النبي ، والحديث المرفوع حجة بالإجماع، فكذلك هذا.

2- أن يذهب الصحابي إلى قول معقول المعنى داخل في حدود الاجتهاد، فيوافقه عليه الصحابة جميعا دون خلاف، قولا أو سكوتا، فإن هذا النوع حجة عند جمهور المسلمين، لأنه داخل في حد الإجماع القولي أو السكوتي، والإجماع القولي حجة كما تقدم بالإجماع، وكذلك الإجماع السكوتي عند الجمهور، فيكون قول الصحابي هذا حجة لذلك.

3- أن يذهب الصحابي إلى قول معقول المعنى يصلح للاجتهاد والنظر فيه ويخالفه فيه غيره من الصحابة وينازعه فيه، فإن هذا النوع ليس بحجة على صحابي آخر غير قائله بإجماع المسلمين، وإلا لما جاز اختلاف الصحابة فيما بينهم، ولما وقع منهم ذلك، لكنه وقع اختلاف في كثير من المسائل بينهم، فدل ذلك على عدم الزامه لهم، أما بالنسبة للتابعين ومن بعدهم فقد اختلف الأئمة على الاحتجاج به على قولين:

أ - مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية والمالكية والحنبلية وهو الاحتجاج به وتقديمه على القياس إذا عارضه.

ب - مذهب الشافعي، وهو عدم الاحتجاج بقول الصحابي، إلا للاستئناس به فإنه معتبر عنده من غير إلزام.

أدلة الجمهور في الاحتجاج بمذهب الصحابي:

- قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، فإن هذا الآية الكريمة خطاب للصحابة، ومن توابع الأمر بالمعروف قبول قولهم.

- ما ثبت عن النبي  في امتداح الصحابة والشهادة لهم بالخيرية والعدالة، مما يشير إلى الأخذ بقولهم والاحتجاج به، من ذلك: قوله : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وقوله : (اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر).

- المعقول، فإن احتمال كون قول الصحابي وفعله مستندين إلى دليل كبير، لقربه من رسول الله ، وعلمه بأحواله، وحبه له، فإذا كان قوله مخالفا للقياس غلب على الظن استناده إلى دليل أقوى من القياس، تنزيها للصحابة من الوقوع في الإثم والقول بغير دليل.

أدلة النافين للاحتجاج بمذهب الصحابي:

- قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2)، فإن فيها أمرا بالقياس والاجتهاد، وإتباع مذهب الصحابي ينافي هذا الأمر، فكان ممنوعا منه لذلك.

- الإجماع من الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا، وغيرهم يقاس عليهم لعدم الفارق المؤثر.

- المعقول، وهو أن الصحابة جلهم من أهل الاجتهاد، فكان احتمال قولهم ذلك من اجتهاد كبير، بل هو الراجح، وإذا كان كذلك لم يكن حجة لعدم ارتقائه إلى مرتبة الرفع إلى النبي .

- كان التابعون يخالفون الصحابة في بعض أقوالهم، وكان الصحابة يقرونهم عليه، فكان ذلك دليلا على جواز المخالفة لهم فيما ذهبوا إليه.

من ذلك أن عليا  احتكم إلى شريح مع يهودي، وشهد له ابنه الحسن، فرد شريح شهادته، لأن شهادة الابن لأبيه لا تقبل عنده، وكانت مقبولة في رأي علي ، فلم يخالفه في رأيه، وانصاع لحكمه، ومثل هذه الحادثة كثير.

الترجيــح:

من استعراض هذه المذاهب نرى أن الاحتجاج بمذهب الصحابي فيما هو محل الاجتهاد ولم يجتمع عليه الصحابة لم يقم دليل ناهض عليه مقطوع به أو مظنون، ولذلك فإن المرجح هو عدم اعتباره حجة، جرياً على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله، وإن كان يحسن الاستئناس به دون أن يكون في ذلك نوع من الإلزام.

شرع من قبلنا:

شرع من قبلنا نعني به شرائع الأنبياء السابقين على سيدنا محمد  كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين قص علينا القرآن الكريم أخبارهم، وهو خاص بالتشريعات السماوية دون التشريعات الوضعية التي سبقت رسالة الإسلام، كالتشريع الروماني وتشريعات قدامى المصريين وشريعة حمورابي وغيرها، فإنها ليست شرائع معتبرة في نظر المتدينين في العالم من غير خلاف، لأن حق التشريع إنما هو لله وحده ولا يحق لأحد غيره في التشريع مطلقاً، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف:67) .

وقد اختلف الفقهاء في حكم شرع من قبلنا، أيعتبر شرعا ملزما لنا، كإلزام شرعنا لنا، أم لا يعتبر تشريعاً ملزماً لنا؟ وذلك على أقوال ومذاهب متعددة. وقبل أن نتعرض لخلافاتهم ومذاهبهم نريد أن نشير إلى مواطن الاختلاف في هذه المسألة، ونصرف النظر عن مواطن الاتفاق فيه، لعدم الفائدة من بحثها.

فإن شريعة من قبلنا لابد أن تعتريها الحالات التالية:

1- أن يقصها الله تعالى علينا ويأمرنا باتباعها، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، فهذا ملزم لنا بالإجماع، لا لأنه شرع من قبلنا ولكن لأنه شرعنا.

2- أن يقصها الله تعالى علينا ويقوم الدليل الشرعي على نسخها، مثل حكم الغنائم، فإن الرسول  أخبرنا أن الغنائم كانت محرمة على من قبلنا ثم أبيحت لنا، وذلك ثابت بقوله  في حديث الخصوصية، عن جابر : (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهذا منسوخ في حقنا باتفاق الفقهاء أيضاً، لقيام الدليل الشرعي على نسخه.

3- أن لا يقصها الله تعالى علينا مطلقاً، فإنها لا حجة فيها علينا بالاتفاق، لعدم ثبوتها بالطرق التي نقبلها، ولا يؤثر في ذلك أنها ثابتة عندهم، لأنهم بكفرهم سقطت عدالتهم وأهملت روايتهم، فلم يبق فيها نوع حجة علينا لذلك.

4- أن يقصها الله علينا من غير إلزام لنا بها أو نسخ لها، مثل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45) وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء.

فقد ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية والمالكية والحنبلية في رواية، إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الكتاب علينا دون بيان لنسخه شرع لنا.

وذهب بعض الشافعية والحنبلية في رواية، والأشاعرة والمعتزلة والشيعة إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الله علينا دون أن يأمرنا به ليس شرعاً لنا، وهو ما اختاره الغزالي والآمدي والرازي وابن حزم الظاهري.

الأدلـــة:

استدل كل من المحتجين والنافين للاحتجاج بشرح من قبلنا فيما قصه الله تعالى علينا دون بيان لنسخه أو أمرنا به بأدلة عدة، أهمها:

أدلة المحتجين:

أ‌- أن الله تعالى أمرنا في كثير من آياته القرآنية بالسير على منوال الأمم السابقة فيما لا يخالف شريعتنا، من ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90)، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123) .

ب‌- قال الله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، فقد استدل العلماء بها على وجوب القصاص، ولو لم يكن شرع من قبلنا شرعا لنا لما احتجوا بها.

ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في بعض الأحيان، ولو لا أن شرعهم حجة علينا لما أحب موافقتهم.

أدلة النافين للاحتجاج:

أ‌- أن الرسول  عندما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا وسأله بم تقضي، وأجابه بأنه سوف يقضي بالقرآن والسنة والاجتهاد، أقره الرسول  على ذلك، ولو كان شرع من قبلنا دليلا وحجة لأرشده رسول الله  إلى ذلك، ولكنه سكت ولم يرشده إليه، فدل على أنه لا حجة علينا فيه.

ب‌- قال تعالى: (وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48)، فهذا يدل على أن شريعة كل أمة من الأمم السابقة خاصة بها لا حجية فيها على غيرها.

ج‌- لو كان شرعا لنا لاهتم رسول الله  وأصحابه بتعلمه، ولو اهتموا به لنقل ذلك إلينا لتوافر الدواعي، ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فدل ذلك على أنه لا حجة فيه.

د- أن الشرائع السابقة خاصة بالأقوام التي نزلت فيهم، والعموم هو من خصائص شريعتنا فقط، لما جاء في حديث جابر أن النبي  قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، فدل ذلك على أن الإلزام في الشرائع السابقة ليس إلا للأقوام الذين أنزلت فيهم، فلا يكون فيها إلزام علينا.

المناقشــة والترجيح:

الحق أن كل الأدلة السابقة المثبتة والنافية للاحتجاج تحتمل المناقشة، وإن كانت تختلف بينها قوة وضعفا، والذي أراه هو أن شرع من قبلنا في هذه الصورة الأخيرة محل الخلاف ليس شرعا لنا بحال، وذلك لما يلي:

1- أن شرائع من قبلنا تختلف فيما بينها في كثير من الأحكام، ولو كانت حجة علينا لوقعنا في الحيرة، لأنه لا مرجح لواحد منها على الأخر مادامت كلها سابقة على شرعنا، ولم يرد فيها في شريعتنا ما يدل على النسخ أو الاعتبار، ولذلك لا تعتبر شريعة لنا لذلك.

2- أن الشرائع إنما جاءت لتيسير مصالح الدين والدنيا معا، ومصالح الدين والدنيا متغيرة متجددة بتجدد العصور والأزمان، فما كان شريعة صالحة في الأزمنة الغابرة لا يمكن الجزم بأنه شريعة صالحة في زماننا، وإذا كان ذلك كذلك امتنع تكليفنا بها، ولا يمكن أن يرد على هذا أن ذلك يقتضي نسخ شريعتنا أيضا بعدما تقادم عليها الزمن، وذلك أن شريعتنا جاء الدليل القاطع على عمومها ووجوب العمل بها في كل زمان بخلاف تلك، ولأن الشارع عندما أمر بعموميتها أودع في نصوصها من المرونة ما يكفي لتلبيتها حاجات كل العصور، واختلاف الفقهاء في بعض الأحكام أكبر شاهد على هذه المرونة وهذه الصلاحية.

3- أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وكمال الدين يقتضي عدم الحاجة إلى دليل آخر.

ولا يمكن أن يقال إن كمال الدين معناه من حيث أصول الأحكام فقط، وإلا فما معنى حجية الإجماع والقياس وغيرها، إذ الجواب على ذلك واضح، هو أن الدين نفسه وجه إلى هذه المصادر بأدلة قاطعة فكانت منه، ولكنه لم يوجه إلى الأخذ بشرائع من قبلنا بأدلة قاطعة أو مظنونة فلم تكن منه، فكان اعتبارها والاحتجاج بها مناقضاً لكمال الدين، إذ إن كل ما أورده المثبتون للاحتجاج بها من نصوص هو نصوص دون مرتبة الظن، فلا تصلح دليلا على اعتبار شرائع من قبلنا والاحتجاج بها علينا.

هذا ولابد من الإشارة إلى أن البحث والاختلاف في هذا كله اختلاف غير ذي موضوع، لأنه غير حاصل من الناحية العلمية، فان الله تعالى لم يقص علينا من شرائع من قبلنا شيئاً إلا وبين نسخه أو اعتباره، فكان المدار على ذلك النسخ أو الاعتبار، وما جاء به المثبتون من شواهد، فانه مردود، ذلك أن أهم الشواهد التي أتوا بها هو قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، وادعوا أنه لم يثبت عن الشارع ما يعتبرها أو ينسخها مع أن الشارع ثبت عنه اعتبارها، وهو ما جاء في قول النبي : (النفس بالنفس إن هلكت)، فكان تشريع القصاص حجته حديث النبي  هذا الذي شهد للآية بالاعتبار في حقنا.

وهكذا يمكن تخريج كل الأمثلة والشواهد التي أتوا بها دون حاجة إلى الخوض في ذلك الاختلاف، ولكن على التسليم بقيام موطن الخلاف، فان الرأي المرجح عندي عدم الاحتجاج بها لما قدمت من الأدلة والترجيح، والله تعالى أعلم.

********

"مباحث الحكـــم"

تمهيــــد:

تتركز أبحاث علم أصول الفقه في أربعة أبواب رئيسة عامة، ويعتبر ما عداها من الأبحاث تابعاً لها أو ملحقاً بها، وهذه الأبواب الأربعة هي: الحكم، والحاكم، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه.(1).

فالحكم الشرعي: هو ما نحن بصدده في هذا المبحث، وهو الثمرة التي نجنيها من دراستنا لهذا العلم، وتعريفه كما سوف يأتي معنا هو: (خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أوتخييراً أو وضعاً).

والحاكم: هو الله سبحانه وتعالى وحده كما أوضحنا في أول مبحث المصادر من هذه المذكرة، ويدخل في هذا المبحث كل مصادر التشريع الإسلامي الأصلية منها والتبعية ومباحثها، لأنها دالة على حكم الله سبحانه وتعالى بطريق القطع أو الظن، كما تقدم(2).

والمحكوم فيه: هو أفعال العباد أو أفعال المكلفين التي يتعلق الحكم بها، من حيث إنها مقدورة لهم أو غير مقدورة، ومن حيث إنها حق الله تعالى أو حق العباد.

والمحكوم عليه: هو المكلف بالحكم الشرعي، ويبحث فيه عن معنى التكليف وشروطه، من الأهلية وأنواعها وعوارضها.

هذه هي المباحث الأساس التي يعني بها الأصوليون في علم أصول الفقه. وهي تدور حول الحكم ومصادره ومحله والمكلف به، وكل ماعداها من البحوث المسهبة في كتب أصول الفقه تابع لها كما تقدمت الإشارة إليه، فمبحث الاجتهاد مثلاً تابع لمبحث الحاكم وجزء منه، وإن كان كثير من الأصوليين يضعه في آخر مباحث هذا العلم.

تعريف الحكم:

الحكم في اللغة بالضم القضاء، يقال حكمت بين القوم أي فصلت بينهم وقضيت، وأصله المنع، يقال حكمت عليه بكذا منعته من خلافه، ويطلق الحكم على المحكمة أيضاً، وهي ضرب من ضروب العلم(1).

والحكم في إصلاح الأصوليين هو: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أوالتخيير أو الوضع)(2).

تحليل التعريف ومحترزاته:

خطاب: الخطاب في اللغة توجيه الكلام من المتكلم نحو غيره لإفهامه، فهو بهذا المعنى مصدر، ثم نقل إلى الكلام الموجه نحو الغير للإفهام، أي أصبح اسما للمخاطب به من الكلام لا لمصدر المخاطبة نفسه، وهذا المعنى المنقول إليه الخطاب هو المراد في تعريفنا للحكم، وقد عرَّف الآمدي الخطاب تعريفاً اصطلاحياً بقوله: (هو اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه)، وبذلك خرج عنه الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة والعرف، فإنها ليست لفظاً، كما خرج عنه الألفاظ المهملة التي لا معنى لها، فإنها غير متواضع عليها، وخرج عنه أيضاً الكلام الذي لم يقصد به إفهام المستمع، فإنه لا يسمى خطاباً.

وإذا كان المقصود بالخطاب الكلام الموجه للغير، كان لابد من بيان معنى الكلام ومدلولاته. فالكلام يطلق على معنيين اثنين، يطلق على العبارة الدالة بالوضع على معناها، ويطلق على مدلول هذه العبارة القائم بالنفس، أي إنه يطلق على اللفظ المفيد للمعنى كما يطلق على المعنى المعبر عنه باللفظ، وهو ما يعرف بالكلام النفسي، ولا شك أن المراد بالخطاب هنا إنما هو الكلام اللفظي، لأن كلام الله تعالى كلام نفسي لا يوصف بصوت ولا حركة(3).

الله: لفظ الجلالة قيد أول، خرج به خطاب الناس بعضهم لبعض، وخطاب الرسول  مما ليس بسنة، كأقواله وأفعاله  الجبلية، دون ما يعتبر تبليغا عن الله منها، وغير ذلك.

فإن قيل إن سنة رسول الله  التشريعية ليست خطاباً من الله، وكذلك الإجماع والقياس، مع أنها تثبت أحكاماً شرعية كثيرة، أجيب بأن رسول الله  إنما وجبت طاعته بإيجاب الله سبحانه وتعالى، حيث أمر بها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وكذلك الإجماع، فإنه علامة على قيام الدليل المثبت للحكم، أما القياس فهو مظهر للحكم لا مثبت له، والحكم الذي يظهره القياس ثابت بالقرآن والسنة، وبذلك يتمحض الحكم لله سبحانه وتعالى، إذ لا حكم لأحد غيره مصداقاً لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57).المتعلق: التعلق هو الارتباط، والمراد به هنا المتعلق المعنوي القديم، لا التعلق اللفظي الحادث، لأن الحكم كما تقدم هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي الحادث، وهو محال على الله تعالى، والمراد من التعلق هنا هو التعلق المبين للمراد منه من إيجاب وندب وغيره.

بأفعال المكلفين: قيد ثان خرج به ما تعلق بذاته تعالى، كقوله سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)، كما خرج به ما تعلق بمخلوقات الله تعالى من غير المكلفين، كالجمادات والحيوانات وغيرها، كقوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طـه:55)، وغير ذلك.

فإن هذه ليست أحكاماً، والفعل في الأصل هو كل ما يطلق عليه أنه فعل عرفاً، وهو مقابل للقول، لكن المراد به هنا هو كل ما يصدر عن الإنسان من حركات تسمى أفعالاً عرفاً، أو ألفاظا ونيات، فالفعل هنا أعم منه في العرف، إذ هو هنا شامل لكل ما يصدر عن اللسان أو القلب أو الجوارح من حركات.

والمكلف: هو الإنسان البالغ العاقل الذي استجمع شرائط التكليف العامة التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم، وقد خرج بهذا القيد الخطابات المتعلقة بأفعال الصبي من أمره بالعبادات ببعض المعاملات وغيرها، فإنها ليست أحكاماً شرعية، لأن الصبي ليس من أهل التكليف، فإن قيل يدار عليها الثواب، فإن الصبي المميز مثاب على صلاته وصدقاته، وهذا آية الحكم الشرعي، أجيب بأن الحكم متعلق بوليه لا به، والثواب منحة من الله وفضل، ولكن هذا الجواب غير مقنع، إذ إن الصبي تتعلق به بعض الأحكام مباشرة، من ذلك الزكاة إذا لم يؤدها عنه وليه حتى يبلغ وأخبره بها، فإنه مكلف بأداء ما سبق أن أهمل وليه إنفاقه، وهذه آية التكليف، ثم إن أمره بالإسلام وقبوله منه وهو صغير دليل على أن ما تعلق بأفعاله حكم شرعي أيضا، لا مفر من إدخاله في تعريف الحكم، ولذلك رأى كثير من الأصوليين استبدال كلمة (العباد) بكلمة (المكلفين) فقال: ( … المتعلق بأفعال العباد) فيدخل في ذلك الصبي وغيره(1).

وقد اعترض بعض الأصوليين على جمع كلمة مكلف، وقال: هذا يخرج الخطاب المتعلق بالأفعال الخاصة بالنبي  كتزوجه بأكثر من أربع، وغير ذلك، وهي أحكام شرعية بالإجماع، ولو قال بإفراد المكلف لكان أحسن(2).

وأجيب بأن جمع كلمة مكلفين لا يخرج أفعال النبي  الخاصة به، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال، فكان المراد منه المتعلق بأحد أفعال المكلفين، فيدخل في ذلك أفعال النبي  الخاصة، ويكون ذلك من باب قولهم: (زيد يركب الخيل وإن لم يركب إلا واحداً منها) فإنه يفهم أن الركوب متعلق بجنس هذا الجمع لا بأجناس أخرى كالحمير وغيرها، ثم إن القاعدة الأصولية القائلة: (مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحدا) تحل الخلاف وتدخل خواص النبي  في هذا التعريف، لأنه إن أريد المقابلة بين الخطاب والأفعال فإن الخطب ليس بجمع فلا أشكال، وإن أريد المقابلة بين الأفعال والمكلفين فإنه يقال إن الجمع هنا يقتضي القسمة آحاداً، فتكون على التوزيع، ويكون المراد: (بكل فعل صادر عن كل مكلف).

بالاقتضاء أو التخيير: قيد ثالث يخرج به القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم، والأخبار المتعلقة بأعمالهم، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)، فإن ذلك ليس بحكم شرعي باتفاق الفقهاء.

والاقتضاء: معناه طلب الفعل أو الترك، وهو على أربعة أنواع هي:

1- طلب الفعل مع المنع من الترك وهو الواجب.

2- طلب الفعل مع عدم المنع من الترك وهو الندب.

3- طلب الترك مع المنع من الفعل وهو الحرام.

4- طلب الترك مع عدم المنع من الفعل وهو المكروه.

والتخيير: معناه إباحة الفعل والترك للمكلف دون ترجيح أحدهما على الآخر، وذهب بعض الفقهاء(1) إلى إهمال هذا القيد (بالاقتضاء أو التخيير) وقالوا هو مفهوم من قولنا أفعال المكلفين، لأن قيد التكليف مراد هنا، والمعنى خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف، لأن لفظ المكلف مشتق وهو يأذن بعملية الاشتقاق، فيخرج عنه نحو قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96)، لأنها متعلقة بفعل المكلف ولكن لا من حيث كونه مكلفاً، فلا تكون من الحكم.

أو الوضع: الوضع هو الجعل، والمراد به هنا جعل الشارع الشيء سبباً لغيره أو شرطاً له أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة، وقد أتى بكلمة (أو الوضع) لتدخل كل هذه الأقسام في التعريف، لأنها من الحكم، واعترض بعض الأصوليين على إدخالها في تعريف الحكم(2)، واستدل بأن هذه الأنواع تدخل تارة تحت قيد الاقتضاء أو التخيير، فلا حاجة إلى زيادة كلمة (أو الوضع)، وتارة لا تكون من الحكم، فلا يصح إدخالها في تعريفه، أما من حيث إنها تدخل تحت تعريف الحكم تارة، فذلك لأن خطاب الوضع داخل في خطاب التكليف، إذ إن معنى جعل الزنا سبباً لوجوب الحد هو وجوب هذا الحد، وهو خطاب تكليفي، وكذلك معنى جعل طهارة المبيع شرطاً لصحة البيع هو جواز الانتفاع عندها وحرمته دونها، والحاصل أن مراد هم من الاقتضاء والتخيير أعم من أن يراد به الصريح فقط أو الضمني فقط، وخطاب الوضع داخل في نطاق التكليف ضمناً لما تقدم أنه دال عليه، فكان داخلاً فيه لذلك، فلا حاجة لأفراده بالذكر.

ولا شك بأن الاصطلاحين متقاربين من حيث الفائدة العملية، لما يوجد من تلازم بين مدلوليهما، وإن كان الاصطلاح الذي اتجه إليه الفقهاء أوضح وأدق في دلالته على المعنى المراد منه، ثم فيه تفريق بين الحكم ودليله، مما يجعل الحكم أكثر جلاء ووضوحاً.

وقد ترتب على هذا الاختلاف في الاصطلاح بين الفقهاء والأصوليين أن اعتبر الأصوليين الحكم قديماً، واعتبره الفقهاء حادثاً، لأن خطاب الله تعالى قديم أما أثره فحادث، ولما كان الحكم عند الأصوليين هو الخطاب نفسه كان الحكم قديماً، ولما كان عند الفقهاء هو أثر الخطاب كان حادثاً لذلك.

أقسام الحكم:

تبين معنا في تعريف الحكم أنه ينقسم إلى قسمين، حكم تكليفي وحكم وضعي، فالحكم التكليفي هو خطاب الله تعالى المتضمن طلباً لفعل من المكلف أو كف عنه أو تخيير فيه، والحكم الوضعي هو خطاب الله تعالى المتضمن ربط شيء بشيء آخر وتعليقه به على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية.

ثم إن كلا من الحكمين التكليفي والوضعي ينقسم إلى أقسام متعددة سوف ندرسها تباعاً بإذن الله تعالى، وسوف نبدأ بدراسة أقسام الحكم التكليفي، ثم أقسام الحكم الوضعي، متبعين في ذلك مسلك الأصوليين رضي الله تعالى عنهم.

وللتمييز بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، نود أن نورد النقاط الرئيسة التي يتميز بها كل منهما عن الآخر، وهذه النقاط يمكن أن ندرجها في ثلاثة، هي:

أ) المقصود المباشر من الحكم التكليفي هو طلب فعل من المكلف أو منعه عن فعل أو تخييره فيه، أما الحكم الوضعي، فإن المقصود المباشر منه ليس ذلك، بل هو ربط شيء بشيء آخر، فإن نتج عن ذلك تكليف في بعض الأحوال كان ذلك التكليف أثرا غير مباشر لهذا الحكم، بخلاف الحكم التكليفي، فأثره المباشر هو التكليف، وليس فيه ربط شيء بشيء آخر، مثال الأول: قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78)، فإن فيه ربط وجوب الصلاة بدلوك الشمس، وهذا الربط نتج عنه وجوبها عند دلوكها، ولكن هذا الوجوب ناتج عن الدلوك المربوط به الوجوب لا عن الأمر بالربط مباشرة(1).

ب) الحكم التكليفي خاص بالمكلفين فلا يتعلق بغيرهم. أما الحكم الوضعي فهو يعم المكلفين وغيرهم من بني آدم، إذ يربط الشارع الضمان في المتلفات بأعمال الصبي المميز وغير المميز، كما يربط الصحة أحياناً ببيع الصبي المميز والمعتوه، وكل أولئك ليسوا من أهل التكليف(2).

وأما من حيث أن هذه الأنواع لا تدخل تحت اسم الحكم تارة، ولا هي من مضمونه، فذلك لأنها علامات معرفة للأحكام وليست أحكاماً، ثم هي لا تختص بأفعال المكلفين، بل إن بعضها لا يختص بأفعال العباد مطلقاً، ولذلك لا يصح اعتبارها من أقسام الحكم وأنواعه.

وقد صرح بحذف هذا النوع من الأحكام من تعريف الحكم العضد في شرحه على ابن الحاجب، فقال: (ونحن لا نسمي هذه الأمور أحكاماً وإن سماها غيرنا به، فلا مشاحنة في الاصطلاح)(2).

وقد تعرض صدر الشريعة في التوضيح لهذا القول بالتضعيف، فذكره بعد ما ذكر القول بموجب إدخال الحكم الوضعي في التعريف فقال: (الحق هو الأول، لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر، والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا، ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعاً)(3).

ولكن صاحب التلويح تعقب المصنف في قوله هذا بالرد عليه، فقال: (وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا، أما أولاً: فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكماً يصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض، فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم، بل كيف يصح، وأما ثانيا: فلأنه يمنع كونه خارجاً عن التعريف، ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملاً له، فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما، بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص(4).

هذا ولابد من الإشارة هنا إلى أن جمهور علماء الأصول اصطلحوا على ذكر الحكم الوضعي في تعريف الحكم ،وأفردوه باسم مستقل به عن الحكم التكليفي لما تقدم.

وقد عرف الآمدي الحكم الشرعي بتعريف غير التعريف الأول الذي اتفق عليه الجمهور، فقال: (الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به)(5).

فقد استبدل بكلمة (الله تعالى) كلمة الشارع، ليعم كل المصادر التشريعية غير القرآن الكريم، كالسنة الشريفة والإجماع والقياس وغيرهما، وقد بينا أنها داخلة أيضاً في التعريف الأول، لأنها جميعاً معرِّفة لحكم الله سبحانه وتعالى ومبينة له، ووجَّهنا كل ذلك.

هذا تعريف الأصوليين للحكم، وقد خالف الفقهاء هذا التعريف، وذهبوا إلى أن الحكم هو ما ثبت بالخطاب لا هو(1)، أو هو أثر الخطاب، فقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، حكم عند الأصوليين، أما الفقهاء فالحكم عندهم هو وجوب الصلاة المستمد من هذه الآية الكريمة، والآية دليل الحكم.

لذلك رأينا بعض الأصوليين يستبدل بكلمة (مكلفين) كلمة (عباد) في تعريف الحكم ليدخل الحكم الوضعي في التعريف.

ج) الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بما هو مقدور للمكلف، لأن القصد المباشر منه هو التكليف، والله سبحانه وتعالى قضت حكمته أن لا يكلف إلا بما هو مقدور للمكلف، رحمة منه ومنا، إذ التكليف بغير المقدور عبث والعبث محال على الشارع، أما الحكم الوضعي فليس فيه تكليف فجاز تعلقه بما هو غير مقدور للمكلف كما جاز تعلقه بما هو مقدور له أيضاً.

مثال الأول: قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة:43)، فإنه تكليف، وهو مقدور للمكلف، إذ الإعطاء ممكن له ومقدور مادام يجد ما يستطيع الإنفاق منه من المال، فإذا لم يجد ما ينفق منه لم يجب عليه شيء.

ومثال الثاني: قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(الإسراء:78) فإن دلوك الشمس ليس في مقدور الإنسان ولا من صنعه.

أقسام الحكم التكليفي:

قدمنا أن الحكم التكليفي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وبينا معنى كل من الاقتضاء والتخيير، كما شرحنا بإيجاز أنواع الاقتضاء، ومن خلال هذا الموجز الذي قدمناه في تعريف الحكم نستطيع أن نقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام يقتضيها العقل، ذلك أن الطلب إما أن يكون للفعل أو للترك، وكلاهما إما أن يكون بطريق الجزم والمنع من المخالفة أولا يكون كذلك، أو يكون تخييراً بين الفعل والترك(2).

ـ فإن كان طلباً للفعل وكان بطريق الجزم، سمي واجباً.

ـ وإن كان طلباً للفعل وكان بغير جزم، سمي مندوباً.

ـ فان كان طلباً للترك وكان بطريق الجزم، سمي حراماً.

ـ وإن كان طلباً للترك وكان بغير جزم، سمي مكروهاً.

ـ وإن كان تخييراً بين الفعل والترك على حد سواء، سمي مباحاً.

وعلى ذلك تكون أقسام الحكم التكليفي خمسة، هي الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح.

هذا هو التقسيم الذي مشى عليه جمهور الفقهاء، وخالف في ذلك الحنفية، وزادوا قسمين اثنين على هذه الأقسام الخمسة، هما الفرض والمكروه تحريماً، فجعلوها سبعة بدل خمسة.

وذلك أنهم نظروا إلى الواجب المعرَّف في هذا الباب من زاوية خاصة، وقسموه إلى قسمين، فما كان ثابتاً منه بدليل قطعي في ثبوته ودلالته سموه فرضاً، وما كان ثابتاً منه بدليل ظني في ثبوته أو دلالته سموه واجباً.

كما أنهم نظروا إلى المحرَّم المعرف في هذا الباب من الزاوية الخاصة نفسها التي نظروا من خلالها إلى الواجب، فما كان منه ثابتاً بدليل قطعي سموه حراماً، وما كان ثابتاً منه بدليل ظني سموه مكروهاً تحريماً.

هذا التقسيم تفرد الحنفية باختياره دون غيرهم من الأئمة، حتى عرفوا به، وإن لهم (دون شك) في هذا الاختيار وجهاً قوياً ومستنداً من اللغة، ذلك أن الفرض في اللغة التقدير(1) وهو مناسب لما كان مقدراً بدليل قطعي من قبل الشارع ولا محل للرأي فيه، وهو حد الواجب عند الجمهور، أما لفظ الواجب، فهو في اللغة يطلق على اللازم والثابت كما يطلق على الساقط، فمن الأول قولهم: وجبت الشمس أي لزمت وثبتت، ومن الثاني: وجب الحائط بمعنى سقط، ومنه قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج:36)، أي سقطت(2) فالمعنى الأول للواجب يتساوى فيه مع الفرض، إذ إن كليهما يفيد معنى اللزوم، أما المعنى الثاني فيفترق فيه عنه، إذ إن الواجب يعطي معنى السقوط دون الفرض، والطلب الثابت من الشارع بدليل ظني يتضمن هذا المعنى إذ أنه ساقط من المكلف اعتقاده، فكان هذا اللفظ أليق به دون الفرض.

هذا من ناحية اللغة، وأما من ناحية التقعيد الفقهي فهو دقيق أيضاً ومناسب، ذلك أن الفقهاء كادوا يتفقون على أن ما ثبت بدليل قطعي اعتبر منكره كافراً، وما ثبت بدليل ظني اعتبر منكره فاسقاً فقط، ولا يكفر لهذه الظنية.

ثم إن الفقهاء جميعاً نجدهم يفرقون بين كثير من الأحكام في أكثر العبادات والمعاملات من حيث أثرها على صحة تلك العبادات والمعاملات، فيجعلون فوات بعضها موجباً لفسادها، وفوات بعضها الآخر غير مفسد لها، وذلك دون أن يفردوا كلا من ذلك باسم خاص به.

كما أنهم في الصلاة يفرقون بين ما يقتضي تركه سجوداً لسهو منها، وبين ما لا يقتضي سجود السهو، كسنة الأبعاض عند الشافعية، فإن فوات واحد منها يقتضي سجودا السهو وينجبر به دون سنة الهيئة، ودون الواجبات التي يقتضي فوات واحد منها بطلان الصلاة.

ثم إنهم اضطروا في بعض الأحكام في العبادات إلى التفريق بين ما ثبت بدليل قطعي وبين ما ثبت بدليل ظني، فسموا الأول فرضاً وسموا الثاني واجباً جرياً على اصطلاح الحنفية، كما في الحج عند الشافعية.. كل هذه الفوارق التي نلحظها بين الفرض والواجب في اصطلاح الحنفية من الأحكام تدعونا لأن نرجح مذهبهم في تقسيم ما ثبت عن الشارع طلبه بجزم إلى ما كان ثبوته بدليل قطعي فنسيه فرضاً وما كان ثبوته بدليل ظني فنسيه واجباً.

وما دام الجمهور متفقين على التفريق بين ما ثبت بدليل قطعي وما ثبت بدليل ظني في كثير من الأحكام على الوجه المتقدم، فيصبح إفراد كل واحد منها باسم مستقل به عن الآخر علامة عليه إفرادا مستساغا ودقيقاً، وعلى كل فالخلاف بين الجمهور والحنفية إنما هو لفظي فقط لا يؤثر في جوهر الموضوع، إذ إن ما يترتب على ذلك من الأحكام متفق عليه، وقد عبر عن ذلك الأستاذ أبو النور زهير حيث قال: (وبذلك يكون غير الحنفية قد رتبوا على القطع والظن ما رتبه الحنفية على كل منهما، فلا خلاف بينهم في المعنى(1) كما أشار إلى ذلك في شرح العضد حيث قال: (والنزاع لفظي).

هذا ولابد من الإشارة إلى أن الحنفية قد يطلقون لفظ الفرض على الواجب ولفظ الواجب على الفرض تجوزاً في كثير من عباراتهم، فلا ينبغي أن يدعو ذلك إلى التشكيل في التزامهم بهذا الاصطلاح أبداً،(2) بل هم ملتزمون به في كل أبواب الفقه دون استثناء.

الواجب: تعريفه وأقسامه:

تعريف الواجب:

قدمنا أن الواجب هو ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم، وهذا هو تعريف الجمهور له، أما الحنفية فقد عرفوه بأنه ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم بدليل ظني، فإن كان الدليل قطعياً فهو الفرض، وقد تقدمت الإشارة إليه.

وقد عرف كثير من الأصوليين الواجب بتعريفات أخرى أهمها:

1ـ ما جاء في شرح العضد من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم قوله(3): (فإن كان ظنياً للفعل غير كف ينهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب فوجوب). أي إن الواجب ما طلب الشارع فعله على وجه يكون تركه في وقته موجباً للعقاب، وهو معنى الجزم في التعريف الأول نفسه، وقد جاء قيد (في جميع وقته) في التعريف ليدخل الواجب الموسع كما سوف نرى، فإن تأخيره عن أول الوقت لا يوجب الإثم.

وقد نقل صاحب فواتح الرحموت من الفقهاء زيادة قيد (من وجه) فيكون تعريف الواجب (هو ما استحق العقاب تاركه في جميع وقته من وجه) وقد زيد هذا القيد ليدخل في التعريف الواجب الكفائي، فإن تاركه يعاقب من وجه ولا يعاقب من وجه، ذلك أنه إذا فعله غيره سقط عنه كما سوف يأتي معنا في تقسيمات الواجب إن شاء الله تعالى(1).

2ـ وما جاء في التلويح على التوضيح من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم التكليفي قوله: (فإن كان هذا أي كون الفعل أولى من الترك مع منع الترك بدليل قطعي فالفعل فرضي وبظني واجب)(2). وهو التعريف السابق نفسه في معناه كما هو ظاهر.

أقسام الواجب:

ينقسم الواجب من حيثيات متعددة إلى أقسام مختلفة يمكن أن نضعها في أربعة أقسام، هي:

1- من حيث ارتباطه بوقت معين أو عدم ارتباطه به.

2- من حيث كونه محددا بحد معين من قبل الشارع أو غير محدد.

3- من حيث الملتزم بفعله أهو معين أو غير معين.

4- من حيث كون المطلوب فيه معينا أو غير معين.

التقسيم الأول من حيث ارتباطه بوقت أو عدم ارتباطه به: فإنه ينقسم إلى قسمين:

أ‌- واجب مطلق، أي مطلق عن الوقت غير مرتبط به، وهو ما لم يقيده الشارع بوقت محدد من العمر(3)، مثل الكفارات والنذور المطلقة والزكاة وغير ذلك مما هو مرتبط بوقت معين لا يسع الإنسان الخروج بالواجب عنه أو أداؤه في غيره.

ب‌- وواجب مؤقت، أي مقيد بوقت معلوم من قبل الشارع لا يسع المكلف إخراج الواجب عنه دون إثم(4)، مثل صوم رمضان، فقد أناطه الشارع بوقت محدد له هو شهر رمضان، فلا يسع المكلف أداء الصيام خارج رمضان إلا مع الإثم، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة:185)، فإن الله سبحانه وتعالى ربط الأمر بالصوم بشهود الشهر، ومن ذلك أيضا الصلاة المكتوبة، فإن الشارع ربطها بأوقات محددة لها لا يسع المكلف أخراجها عنها ...

ومن ذلك أيضا النذور المؤقتة، فإنه لا يسع الناذر إخراجها عن وقتها إلا بأثم نظرا لتعيينها بالنذر.

الفائدة من هذا التقسيم:

ويترتب على هذا التقسيم للواجب حكم شرعي، هو أن الواجب المطلق يسع الإنسان المكلف به فعله في أي وقت دون إثم يلحق به، ويسمى فعله هذا أداء، ويعبر الفقهاء عن هذا المعنى بأنه واجب على التراخي، وقد نص صاحب التوضيح على التنقيح على ذلك، فقال: (أما المطلق فعلى التراخي لأنه أي الأمر جاء للفور وجاء للتراخي، فلا يثبت للفور إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا الأمر يدل عليه، لأن المراد بالفور الوجوب في الحال، والمراد بالتراخي عدم التقيد بالحال لا التقيد بالمستقبل، حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة، فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخي)(1).

أما الواجب المؤقت، فيجب على الإنسان فعله في وقته، ويترتب عليه بطلان الفعل لو كان سابقا على الوقت، وصحته مع الإثم لو كان متأخرا عنه لغير عذر، ويسمى قضاء لا أداء، وسوف يأتي معنا تعريف الأداء والقضاء قريبا.

أنواع الواجب المؤقت:

ينقسم الواجب المؤقت إلى عدة أنواع من حيثيات متعددة، هي(2):

أ‌- الواجب الموسع:

هذا الواجب هو الذي وقته يتسع له ولغيره من جنسه، أي إن الوقت فيه أكبر من الواجب المرتبط به، مثل أوقات الصلاة المكتوبة، فإن كل وقت فيها يتسع للصلاة الواجبة فيها ولغيرها من أنواع الصلوات الأخرى، فروضا كانت أم واجبات أم سننا.

وهذا الوقت يسميه الجمهور موسعا، لأنه أوسع من الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (ظرفا)، والظرف في اللغة الوعاء(3) الذي يضم أجزاء الشيء الموضوع داخله بصرف النظر عن كونه ممتلئا بالشيء الذي بداخله ولا يسع غيره معه أولا، وهو قريب من المعنى المصطلح عليه، لكنه يفترق عنه في أن الظرف في اللغة لا يفيد اشتراط زيادته عن المظروف وإن كان اتساعه لغيره معه وإن كان يحتمله، والمعنى المراد تحديده هنا يشترط فيه ذلك، فإطلاقه عليه غير دقيق، ولذلك كان إطلاق الجمهور عليه (موسعا) أدق في نظري. وعلى كل هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

5 - الواجب المضيـق:

هو الواجب الذي لا يتسع وقته لأكثر من الواجب المرتبط به، أي أن الوقت فيه بقدر الواجب المرتبط به ولا يتسع لغيره من جنسه، كرمضان، فإن الصوم المفروض المرتبط به مقدر به لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فلا يتسع شهر رمضان لصوم غير الصوم المفروض فيه، ولا يضر أنه يتسع مع الصوم لعدد كبير من الصلوات، فإنها ليست من جنس الواجب المرتبط به وهو الصيام.

وهذا الواجب يسميه الجمهور (مضيقا)، لأن الوقت فيه يضيق من غير الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (معيارا)، والمعيار في اللغة العيار، وهو ما يقاس به غيره في الكيل(1)، أي ما جعل ضابطا لغيره كيلا، وهو المعنى المراد للأصوليين من الوقت الضيق نفسه، فكان إطلاق اسم المعيار عليه إطلاقا دقيقا جدا.

3- الواجب ذو الشبهين:

وهو الواجب الذي يتسع وقته للواجب المرتبط به ولا يتسع معه لغيره من جنسه، ولكن الواجب فيه لا يستغرق كل الوقت المقدر له، مثل الحج، فإنه مؤقت بوقت معلوم لا يصح إلا فيه، وهو شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة، وهذا الوقت لا يتسع إلا لحجة واحدة، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بحجتين أو أكثر في ضمن هذا الوقت، فهو لهذا يشبه الواجب المضيق، ولكن هذا الوقت غير مستغرَق كله بالواجب، فإن أفعال الحج لا تحتاج إلا إلى جزء يسير منه فقط، وهو في هذا يشبه الواجب الموسع، ولهذا الشبه المزدوج بكل من الواجب الموسع والمضيق أفرد باسم خاص به، وسمي بالواجب ذي الشبهين.

الفائدة المرتبة على تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق وذي شبهين:

يترتب على تقسيم الواجب إلى هذه الأنواع الثلاثة بيان حكم تعيين النية عند أداء الواجب.

فقد اتفق الفقهاء على وجوب تعيين النية في الواجب الموسع، لأن الوقت محل له ولغيره من الواجبات الأخرى التي من جنسه، فلا يكون الفعل متمحضا له إلا بتعيين النية، كصلاة الظهر مثلا، فإن وقتها يتسع لها ولغيرها من الصلوات الأخرى، فلو صلى الظهر بنية واجب آخر لم يصح عن الظهر، وكذلك لو صلاها بمطلق النية، فإن صلاته تقع نفلا ولا تقع عن الظهر باتفاق الفقهاء.

ولكنهم اختلفوا في الواجب المضيق، أيجب فيه تعيين النية كالواجب الموسع أم لا يجب فيه ذلك؟

فذهب الجمهور إلى أن الواجب المضيق في حكم تعيين النية حكمه كحكم الواجب الموسع تماما، فيجب فيه تعيين النية.

وذهب الحنفية إلى أن الأمر يختلف في الواجب المضيق عنه في الواجب الموسع، لأن الواجب المضيق وقته لا يسع غيره من جنسه فكان متعينا له من قبل الشارع فينصرف الفعل إليه عند إطلاق النية، وكذلك عند النية المخالفة، لأن الواجب المخالف المقصود للمكلف يلغى لمخالفته لتعيين الشارع، فإذا ألغي وقع الفعل عن الواجب المربوط بالوقت المحدد له شرعا، كرمضان مثلا، فلو نوى في المكلف غير صوم الفرض، فإنه يقع عن رمضان عند الحنفية، لأن الوقت محدد له من قبل الشارع، فإذا حدد المكلف شيئا غير ذلك، ألغي ذلك التحديد لمخالفته لتحديد الشارع، فيتمحض الصيام لفرض الوقت بتحديد الشارع.

لكن الجمهور ردوا هذا الاستدلال، ونصوا على أن عدم صحة تعيين المكلف لا يفيد وقوع الفعل عن الفرض، إذ لا لزوم بينهما أبدا، لأن النية إذا لغت وقع الفعل بغير نية، فيقع باطلا، لأن النية شرط صحة العبادات بالاتفاق.

يضاف إلى ذلك أن المكلف مجاهر وقاصد عدم وقوع الفعل عن فرض الوقت، فلا يجوز صرفه إليه، خلافا لقصده، فلو صام رمضان بنية فرض آخر وقع صومه باطلا، ولا يقع عن رمضان، لأن المكلف لم يقصده، بل قصد غيره بصراحة لفظه ونيته.

وإنني أرى هنا رجحان رأي الجمهور في هذا المسألة لقوة دليلهم، فإن النبي  يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى)، والنية هي عمل القلب، ولا يمكن أن يحمل عمل إنسان على خلاف ما قصد، وناوي فرض آخر لا يمكن أن يعتبر ناويا فرض الوقت بحال، ولهذه القوة في دليل الجمهور مال الكمال بن الهمام المحقق في المذهب الحنفي إلى ترجيح رأي الجمهور على رأي مذهبه، نزولا عند الدليل، فقال: (الحق معهم – أي مع الجمهور – لأن التعيين شرعا لفرض الصوم يقتضي عدم صحة ما نوى، لا صحة ما لم ينو، كيف وهو ينادي أنا لم أرد صوم الفرض، والأعمال بالنيات)(1)، وهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على ما كان يتمتع به سلفنا الصالح من صدق وإخلاص للعلم، وبعد عن التعصب المقيت، فكانوا يسيرون من الدليل حيثما سار واتجه.

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن مؤدى دليل الجمهور ينتهي إلى تصحيح فرض الوقت المضيق بمطلق النية، فلو نوى في رمضان مطلق الصوم جاز صرفه إلى فرض الوقت، لأنه لم يظهر من المكلف قصد يخالف قصد الشارع حتى يحكم عليه بالإلغاء، ولما كان الوقت محددا لفرض معين من قبل الشارع، جاز صرف قصد المكلف إلى الواجب الذي حدده الشارع، لاحتماله إياه وعدم وضوح ما يخالفه، وذلك بخلاف الواجب الموسع، فإنه لا يمكن تصحيحه بمطلق النية، لأن الوقت لم يتمحض له من قبل الشارع.

وأما الواجب ذو الشبهين، فقد كاد الفقهاء يتفقون على أن الحج عن النفس يتأدى بمطلق النية، إلحاقا له بالواجب المضيق، لشبهه به، وأنه لا يصح بنية النفل أو بنية واجب آخر كالحج عن الغير، إلحاقا له بالواجب الموسع، لشبهه به أيضا(1).

حكم الوقت بالنسبة للواجب المؤقت:

اتفق الفقهاء في الواجب المؤقت الموسع على أن الوقت فيه سبب للوجوب شرط للأداء ظرف للمؤدى(2)، وسوف يأتي معنا في الحكم الوضعي تعريف كل من السبب والشرط وحكمهما، أما الظرف فمعناه أن يقع الواجب في ضمنه.

وأما الواجب المضيق، فالوقت فيه شرط للأداء معيار للمؤدى، وأما من حيث سببيته للوجوب فذلك على قسمين: قسم يكون فيه الوقت سببا للوجوب كرمضان، فإن الوجوب يتم عند شهود الشهر، وهذا دليل لسببيته، وقسم لا يكون فيه الوقت سببا للوجوب، كالنذر المعين، وذلك تفريقا بين تحديد الله للوقت وتحديد المكلف له، فما كان الوقت فيه محددا من قبل الله تعالى كان الوقت فيه سببا للوجوب، وما لا فلا.

وقد بنى الحنفية على هذا التفريق أن أجازوا رمضان بنية واجب آخر، ولم يجيزوا النذر المعين بنية واجب آخر(3)، ويتعين على اعتبار الوقت كذلك أحكام متعددة، أهمها:

1- أنه لا يجب أداء الواجب المؤقت ولا شيء منه قبل دخول الوقت، لأنه سبب الوجوب، ومعنى السبب أن ما ارتبط به من الوجوب لا يثبت قبل تحققه، فلا يجب على المسلم أن يصوم رمضان قبل شهود الشهر، ولا يجب عليه أداء صلاة الفجر قبل دخول وقتها، وهكذا، حتى إن المرأة لو حاضت قبل دخول وقت الفجر مثلا لم تجب عليها صلاة الفجر، ولم تدخل في ذمتها.

2- لا يصح أداء الواجب أو جزء منه قبل دخول الوقت، لأنه شرط للأداء، ومعنى الشرط أن ما ارتبط به لا يصح بدونه، فلو أدى الصلاة قبل وقتها لم تصح، وكذلك الحج والصوم.

3- يجوز فعل الواجب في أي لحظة من لحظات الوقت إذا كان موسعا، لأن الوقت كله ظرف له، ففي أي جزء من الوقت وقع وقع الواجب في محله، فإذا كان الوقت مضيقا وجب البدء بالواجب مع بدء الوقت، لأن الوقت فيه على قدر الواجب، وإذا أخره عن أول الوقت لزم منه فعل بعض الواجب خارج الوقت، وهو قضاء وليس بأداء كما سوف يتضح بعد قليل، لأنه لا يتحقق إلا بفعل الواجب كله ضمن الوقت(1).

تحديد جزء الوقت الذي يعتبر سببا للوجوب المؤقت(2):

مادام الوقت سببا للوجوب في الواجب الموسع، وفي بعض أنواع الواجب المضيق، كان لابد من معرفة الجزء المعتبر سببا للوجوب في هذه الواجبات، أهو الوقت كله، أم جزء منه فقط، وإذا كان جزؤه فقط فما هو هذا الجزء؟

الاتفاق قائم على أن السبب بالنسبة للواجب المضيق الذي يعتبر الوقت فيه سببا للوجوب إنما هو أول الوقت، ليستطيع المكلف أداء الواجب كله في وقته.

أما الواجب الموسع فقد اتفق الفقهاء فيه على أن السبب ليس كل الوقت، بل هو جزء منه فقط، وذلك لأننا لو اعتبرنا الوقت كله سبب الوجوب فإن الحال لا يخلو من أن نعتبر الأداء واجبا في الوقت أو بعده، وكلاهما باطل، ذلك أننا لو اعتبرناه واجبا في الوقت لزم من ذلك تقدم السبب على المسبب، لأن الوقت مادام كله سببا فإنه لا يوجد ما لم ينقض كل الوقت، وحصول الوجوب داخل الوقت ينافي ذلك، فكان باطلا.

ولو اعتبرنا الوجوب حاصلا خارج الوقت وبعد تمامه للزم من ذلك الأداء خارج الوقت، وهو باطل، لأن فعل الواجب خارج الوقت قضاء وليس أداء.

ولذلك كان لابد من اعتبار أن السبب هو جزء من الوقت فقط لما تقدم، وهو ما اتفق عليه الفقهاء.

ولكنهم اختلفوا في الجزء المعتبر سببا للوجوب، أهو أول الوقت أو آخره أو غير ذلك، على خمسة مذاهب هي:

1 – مذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين(1): وهو أن السبب هو أول الوقت على وجه التوسع، بمعنى أن المكلف مخير في أن يوقع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد له دون حرج أو إثم، ويكون فعله في ذلك أداء، كالصلاة، فإن سبب وجوبها في الذمة إنما هو أول الوقت، ولكن للمصلي أن يبادر إلى الأداء أول الوقت كما له أن يؤخر الأداء إلى نصف الوقت أو آخره، وكل ذلك يعتبر أداء ولا إثم فيه، لكنه ترك الأفضل إن كان بلا عذر مشروع، لعموم فضيلة أول الوقت، وخروجا من الخلاف.

وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن أول الوقت هو سبب الوجوب بالنسبة لمن أدركه هذا الجزء وكان مكلفا، فإن كان ليس من أهل التكليف أول الوقت، ثم أصبح مكلفا في آخره، كالحائض تطهر آخر الوقت، والغلام يبلغ آخره، كان جزء الوقت المرافق لتكليفه هو سبب الوجوب في حقه، لا الجزء الأول من الوقت، لأننا لو قلنا بأن الجزء الأول هو سبب الوجوب لما وجبت عليه الصلاة، لأنه لم يدركه وهو مكلف، مع أن الاتفاق منعقد على وجوب الصلاة عليه.

وقد استدل الجمهور لمذهبهم هذا بأن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام صبيحة فرض الصلاة، فأم بالنبي  في الصلاة وصلى به أول يوم الصلوات في أول وقتها، وصلى به في الثاني في آخر وقتها، ثم أعلم النبي  المسلمين بذلك مبينا لهم أول وقت كل صلاة وآخره، وقال: الوقت ما بين هذين، فدل ذلك على أن الوقت كله ظرف للصلاة يخير الإنسان بأدائها في أي جزء منه دون تعيين، وبما أن الصلاة لا تصح قبل ثبوت سببها، وكان فعلها في أول الوقت صحيحا بالاتفاق، فإنه يلزم منه اعتبار أول الوقت سببا للوجوب، وصلاة جبريل عليه السلام بالنبي  أول يوم في أول الوقت يدل على أنه الأفضل.

2 - مذهب الحنفية، وهو أن السبب إنما هو جزء الوقت المتصل بالأداء، فإن تأخر الأداء إلى آخر الوقت كان السبب هو جزء الوقت الأخير مطلقا عند جمهور الحنفية، وذهب زفر إلى أنه الجزء الأخير المتسع لأداء الواجب.

فإن أخرج المكلف الواجب عن الوقت ولم يؤده فيه كان السبب هو الوقت كله في حق القضاء(1)، ولا اعتراض هنا على اعتبار الوقت كله سببا لما تقدم، مع أننا رددنا هناك اعتبار كل الوقت سببا لما يترتب عليه من اعتبار التقدم على السبب أو تأخر الأداء عن الوقت، وهو هنا منتف، فلا ضرر في اعتباره كذلك.

احتج الحنفية لمذهبهم هذا، بأنه لا يمكن جعل الوقت كله سببا للوجوب لما تقدم، فتعين جزء منه فقط هو سببا للوجوب، ولا يمكن تعيين جزء خاص منه سببا، فإذا بدأ المكلف بأداء الواجب تعين الجزء المرافق لأدائه سببا للوجوب ضرورة تصحيح فعله، لأن المسبب لا يصح قبل انعقاد سببه، وصحة هذا الفعل هي محل الاتفاق، فإذا لم يؤد أول الوقت وانتظر إلى آخره كان الجزء الأخير مطلقا أو المتسع للواجب هو السبب ضرورة عدم الانفلات من التكليف.

فإذا خرج الواجب عن الوقت كله، كان الواجب هو الوقت كله، لعدم ترجح جزء على جزء منه في السببية(2).

وقد رجح الكمال ابن الهمام الحنفي في هذا رأي الجمهور على رأي الحنفية لقوة دليلهم في نظره، وأنا أرى ترجيح رأي الحنفية لما قدمته من الاحتجاج لهم، فإنه في نظري كلام لا غبار عليه.

3- مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من المتكلمين(3)، وهو أن السبب إنما هو الجزء الأول من الوقت، فإذا أخر المكلف الأداء عنه إلى منتصف الوقت أو آخره كان عليه أن يعزم على الأداء في الجزء السابق من الوقت بدلا عن الأداء فعلا، ويتعين الجزء الأخير للأداء فعلا بحيث لا ينوب عنه العزم فيه، فلو ترك العزم في الجزء الأول أثم، وقد استدل الباقلاني ومن تبعه على سببية أول الوقت بما استدل به الجمهور، وقد تقدم ذلك، كما استدل على وجوب العزم في أول الوقت إذ لم يحصل فيه أداء بأنه لو لم يكن العزم واجبا عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل، وهو باطل، لأنه يجعل الواجب غير واجب، إذ أن الواجب هو مالا يجوز تركه بلا بدل.

وقد رد الجمهور على هذا الدليل بعد موافقتهم على تعريف الواجب بأنه ما لا يجوز تركه بلا بدل، بأن العزم لا يصلح بدلا عن الفعل، لأن البدل هو ما يقوم مقام المبدل منه بحيث يسقط به، والعزم على الفعل لا يقوم مقام الفعل في ذلك، فلا يعتبر فعلا، ولا يسقط به الواجب باتفاق الفقهاء.

ولا يمكن أن يرد على هذا القول بأن مؤداه ترك الواجب لا إلى بدل بعد تحقيق السبب، ذلك أن معنى الترك في الواجب الموسع هو تركه إلى ما بعد خروج الوقت، لا تركه ضمن الوقت، فإنه لا يضر، بل إن معنى التوسع هو ذلك.

4- وذهب بعض الأصوليين، قيل هم بعض المتكلمين، وقيل بعض الشافعية، إلى أن السبب هو أول الوقت فقط، فإذا أخر الواجب عنه كان قضاء لا أداء، ولكن هل يأثم المكلف بهذا التأخير؟ خلاف بين أصحاب هذا المذهب، فذهب بعضهم إلى التأثيم، وذهب آخرون إلى عدم التأثيم.

وهذا المذهب يعني التسوية بين الواجب الموسع والواجب المضيق، أو إلغاء الواجب الموسع من أصله، وقد استدل أصحاب هذا المذهب بحديث النبي : (الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخره عفو الله)، فإن العفو لا يكون إلى عن ذنب، ولو كان آخر الوقت سببا في الوجوب لما كان أداء الصلاة فيه ذنبا يستوجب العفو من الله تعالى، فدل ذلك على أن أول الوقت هو السبب، وتأخيره عنه قضاء وذنب يستوجب العفو من الله تعالى.

وأجيب عن هذا الدليل بأن أقصى ما يفيده الحديث الشريف أن أداء الصلاة في أول الوقت أفضل من أدائها في آخره، وأن ترك الأفضل مخالفة تستحق العفو من الله تعالى، فيحمل الحديث عليها، ولا يمكن أن يصل هذا التقصير إلى درجة العقوبة، وإلا لصرح الشارع بها كما صرح بالعقوبة المترتبة على إخراج الصلاة عن وقت، ولكنه لم يصرح بالعقوبة، فكان ذلك دالا على الوقت الأفضل فقط، وليس ذلك محل خلاف، إنما الخلاف على الوقت الذي هو سبب الوجوب، وهذا ما ليس في الحديث دلالة عليه(1).

5- مذهب بعض الحنفية(2)في غير المشهور عندهم، إذ المشهور ما تقدم، وهو أن السبب هو الجزء الأخير من الوقت، فإذا قدم المكلف الواجب عنه بأن فعله في أول الوقت وقع نفلا يسقط به الفرض، كتقديم إخراج الزكاة على انتهاء الحول، فإنه نفل يسقط به الواجب بعد تحققه، وقد ذهب أبو الحسن الكرخي من الحنفية إلى هذا المذهب، إلا أنه قيده بشرط، وهو: (أن لا يبقى المكلف على صفة التكليف) كأن يجن أو يموت، فإن بقي على صفة التكليف وقع عن الواجب منذ فعله، أي إن الفعل عنده موقوف على نهاية الوقت، فإن انقضى الوقت أو بقى منه أقل مما يسع الواجب والفاعل مكلف، وقع الفعل عن الواجب منذ فعله، وإن خرج الفاعل عن التكليف قبل آخر الوقت، وقع الفعل نفلا من أصله.

استدل أصحاب هذا المذهب بأنه لو وجب الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت لما جاز تركه فيه، لأن شأن الواجب أن لا يجوز تركه، لكن الفقهاء متفقون على جواز ترك فعله قبل الجزء الأخير، فدل هذا على أن السبب في الوجوب إنما هو الجزء الأخير لا غير.

ونقض هذا الدليل بأن جواز ترك الواجب فيما عدا الجزء الأخير لا يستوجب عدم وجوب الفعل في هذا الجزء، بل يحتمل وجوبه فيه على التوسع، لأن معنى الواجب الموسع هو ذلك لما تقدم، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

انتقال الواجب الموسع إلى مضيق:

اتفق الفقهاء على أن الواجب الموسع قد ينتقل إلى مضيق في الحكم، فلا يجوز عندئذ للمكلف أن يؤخر الواجب عن أول الوقت، لأن حكم الواجب المضيق هو ذلك.

ويتم هذا الانتقال من الموسع إلى المضيق إذا ظن المكلف العجز عن أداء الواجب قبل آخر الوقت، فإنه يتضيق عليه الواجب بذلك، ويُستحق عليه وجوب الأداء فورا، وذلك كمن حُكم بالإعدام مثلا، وسحب إلى المقصلة مع دخول الوقت، وظن أنه لن ينظر إلى آخر الوقت، وكذلك المرأة إذا ظنت أنها تحيض في منتصف الوقت استنادا إلى عادتها في ذلك، فإنه يجب عليهما في هذه الحال المبادرة إلى أداء الواجب فور دخول الوقت، لأن الواجب انقلب في حقهما مضيقا لغلبة ظنهما، فإن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية.

ولكن الحائض والمحكوم عليه بالموت لو أخر الواجب عن الوقت الذي ظنا أنهما لن يدركاه بحالة التكليف، ثم سلم المحكوم عليه ولم تحض المرأة، فأوقعا الواجب قبل خروج وقته المحدد له شرعا، أيكون ذلك منهما أداء أم قضاء؟

اختلف في ذلك الفقهاء، فذهب الجمهور إلى أن فعلهما أداء وليس قضاء، لأن الأداء هو ما كان فعله في وقته المحدد له شرعا أولاً، وهذا كذلك، ولا عبرة بغلبة الظن هنا بعد أن تعين بطلانها، مثلهما في ذلك مثل من ظن خروج الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يخرج بعد، فإن فعله الواجب أداء بالاتفاق، لظهور بطلان ظنه، وهنا كذلك.

وذهب القاضي أبو بكر الباقلاَّني إلى أن فعله الواجب يقع قضاء، لأن الوقت انتقل في حقه من موسع إلى مضيق بناء على غلبة ظنه، فكان إيقاعه له كذلك إيقاعا خارج الوقت، فكان قضاء لذلك، لأن الإنسان يحاسب على ظنه.

والأرجح في نظري هو مذهب الجمهور، لما تقدم من قياسه على مسألة من ظن خروج الوقت وهو باق، لأن الظن إذا تبين خطؤه لم يعد له اعتبار في الشرع.

هذا من حيث كون الفعل قضاء أو أداء، أما من حيث الإثم، فالاتفاق على ثبوته، بحيث لو أخر الواجب عن الوقت المضيق الذي انتقل إليه في حقهما أثما بالاتفاق، والإثم هنا مبني على غلبة ظنهما، ولا يمكن أن يقال إن غلبة الظن بطلت فلا تصح أساسا للإثم، لأن الإثم قد استقر بمجرد خروج الوقت المضيق، فلا يسقط بعد ذلك(1).

وعلى كل فالخلاف بين القاضي والجمهور لفظي ماداما متفقين على التأثيم، إلا أن يشترط القاضي وجوب نية القضاء، وهذا ما لم يثبت عنه.

أنواع الواجب المؤقت من حيث وقت فعله والإتيان به:

ينقسم الواجب المؤقت من حيث وقت فعله إلى ثلاثة أقسام: أداء، وقضاء، وإعادة، ومن الفقهاء من ذهب إلى تقسيمه إلى قسمين فقط، هما: الأداء، والقضاء وجعل الإعادة قسما من أقسام الأداء، ولكنني هنا رجحت فصل الإعادة عن الأداء بقسم مستقل ثالث، ليكون ذلك أوضح في الأذهان.

ثم إن من الفقهاء من خص هذا التقسيم بالواجب دون غيره من أنواع الحكم الأخرى، كالمندوب مثلا، ومنهم من أطلقها في كل العبادات، فجعل هذا التقسيم من أنواع العبادات كلها بما فيها الواجب وغيره.

ثم إن منهم من قصر هذا التقسيم على الواجب المؤقت دون غيره، ومنهم من أطلقه في كل الواجبات مؤقتة كانت أو غيرها(2).

1 - الأداء :

اختلف الأصوليون في تعريف الأداء بالنظر لاختلافهم على طبيعة انتماء هذا التقسيم:

أ‌- فمن ذهب إلى أنه من تقسيمات العبادة المؤقتة مطلقا واجبة كانت أو غير واجبة عرَّف الأداء بأنه فعل العبادة في وقتها المحدد لها شرعا أو لاً، أو ما فعل في وقته المقدر له شرعا أو لاً(3).

ب‌- ومن ذهب إلى أنه من تقسيمات الواجب المؤقت لا غير، عرف الأداء بأنه فعل الواجب في وقته المحدد له شرعا أولاً.

ج- أما من ذهب إلى أن هذا التقسيم من تقسيمات المأمور به مطلقا، مؤقتا كان أو غير مؤقت، واجبا كان أو غير واجب، فقد عرَّف الأداء بأنه تسليم عين الثابت بالأمر، فإنه يدخل فيه تسليم الواجب المؤقت في وقته المحدد له شرعا، كما يدخل فيه كل حقوق العباد الأخرى، فتسليم الصوم في وقته أداء، لأنه تسليم عين الثابت بالأمر، بخلاف فعله خارج وقته المحدد له شرعا، فإنه تسليم مثل الواجب لا عينه، وهو قضاء كما يأتي، وكذلك تسليم عين المغصوب، فإنه أداء، بخلاف تسليم قيمته، فإنه قضاء، لأنه مثل الثابت بالأمر لا عينه(1).

وقد اختار هذا التعريف فخر الإسلام، ورجحه صاحب فواتح الرحموت واعتبره التعريف الجامع، وهو ما نرى ترجيحه، لأنه جامع لكل أنواع الحكم التكليفي.

شرح التعاريف وبيان محترزاتـها:

التعريف الأول:

فعل العبادات: يشمل الواجب والمندوب والمباح دون تخصيص، لأن العبادة تطلق عليها جميعا، ويدخل في هذا العموم ما كان من العبادة مؤقتا أو غير مؤقت، كما يدخل فيه ما كان وقته مقدرا من الشارع أو لا، كما يدخل في ذلك ما كان فعله في الوقت أو لاً أو ثانيا، ولما لم تكن هذه من المعرف أخرجت بالقيود الآتية.

في وقته: قيد أول يخرج به ما لم يكن له وقت من المأمورات، كالنوافل المطلقة، والكفَّارات والنذور المطلقة، فإنها لا تدخل في هذا التقسيم على هذا التعريف، لأنها غير مؤقتة.

المقدر له شرعا: قيد ثان يخرج به ما كان تقديره من المكلف نفسه، كالزكاة إذا عين لها الإمام شهرا، فإنها غير مؤقتة في الأصل من قبل الشارع، وتأقيت الإمام لا يجعل تأخره عند خروجه عن الأداء إليه قضاء، لأنه ليس تقديرا من الشارع.

أولا: قيد ثالث يخرج به ما كان فعله في وقته المقدر له شرعا ولكن ليس أولاً، بل ثانيا، جبرا لما وقع في الأداء الأول نفسه، كإعادة الظهر في وقتها لخلل أصابها من تأخير ركن أو ترك واجب، فإنه داخل في قسم الإعادة لا الأداء على ما يأتي.

هذا إذا كان فعلها أولا صحيحا ناقصا كترك الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، فإذا كان باطلا كان فعلها ثانيا أداء، لعدم الاعتداد بالفعل الأول، فإن الباطل وجوده وعدمه في اعتبار الشرع سواء، وكالصلاة بلا قراءة مطلقا لغير المؤتم، فإنها باطلة، فإذا أعادها كان الفعل الثاني أداء لا إعادة، لعدم الاعتداد بالفعل الأول مطلقا(1).

هذا ولا بد من فعل العبادة أو الواجب كله في الوقت حتى يسمى أداء، أما فعل بعض العبادة في الوقت وبعضها خارجه فلا يكون أداء على هذا التعريف، ولكن جمهور الفقهاء على أن فعل أول العبادة في الوقت كاف لاعتبارها أداء، ولو كان بعضها الآخر خارج الوقت، فمن أدرك أول صلاة العصر في الوقت ثم غربت الشمس وهو في صلاته فإن عصره يعتبر أداء، ولذلك أدخل الفقهاء في التعريف قولهم: (فعل ابتداء العبادة)(2)، ليدخل ما نصوا عليه، ولكنهم مع ذلك اختلفوا في الجزء الذي يعتبر إيقاعه في الوقت كاف لاعتبار الصلاة أداء، فذهب الحنفية إلى أنه التحريمية فقط، وذهب الشافعية إلى أنه ركعة على الأقل، فلو أحرم بالعصر ثم غربت الشمس كان فعله أداء عند الحنفية قضاء عند الشافعية، لعدم وقوع ركعة كاملة في الوقت.

التعريف الثاني:

التعريف الثاني كالأول تماما، ولا يفترق عنه إلا في تخصيص التعريف بالواجب دون غيره، فهو يخص هذا التقسيم بالواجب فقط، وهو ما طلب الشارع من المكلف فعله على سبيل الإلزام، فيخرج عن هذا التعريف جميع المندوبات والمباحات والمكروهات، أما المحرمات فإنها داخلة فيه، لما فيها من معنى الواجب وهو الإلزام بالترك.

التعريف الثالث:

هذا التعريف جامع شامل لكل المأمورات، سواء أكان الأمر فيها على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب أو على سبيل الإباحة، وهو يشمل المأمورات المؤقتة وغير المؤقتة على حد سواء، كما يدخل فيه ما كان من حقوق الله تعالى وما كان من حقوق العباد، لذلك كان التعريف المرجح لدى جماهير الأصوليين، لشموله وصدقه على كل أفراده.

والمقصود بعين الثابت بالأمر، الإتيان بالمأمور به – أي المطلوب فعله – على الوجه الذي طلبه الشارع تماما، من غير مخالفة، مثل رد المغصوب عينا، فإنه هو الذي طلبه الشارع، أما رد القيمة عند هلاك العين فذلك ليس عين المطلوب من الشارع رده، بل هو بدل عن رد العين، يصار إليه عند الضرورة، وكذلك أداء الصلاة في وقتها، فهو عين المطلوب من الشارع، أما أداؤها بعد الوقت فذلك بدل للمطلوب، يصار إليه عند الأعذار والضرورات، فكان مثل المطلوب فعله لا عين المطلوب فعله.

2- الإعـــادة:

الإعادة تعريفها تعريف الأداء نفسه تقريبا وقد جرى فيها من الخلاف مثلما جرى في تعريف الأداء، فلا حاجة لنا إلى تكراره هنا.

والفارق الوحيد الذي تفترق به الإعادة عن الأداء هو أن الإعادة لا تكون إلا بعد سبق أداء الواجب ناقصا، أما الأداء فلا يكون إلا أولاً، وقد تم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحنفية اختلفوا في الإعادة أيكون الفعل الأول فيها مسقطا للواجب ويكون الثاني جابرا لنقص الأول، أم يكون الثاني هو المسقط للواجب.

فذهب إلى الأول جمهور الحنفية، بدليل أنه لو لم يعده لكان الفرض ساقطا عنه بالاتفاق، وهذا دليل وقوع الفرض بالأول، لأن الإعادة لم ترد عليه بالنقص بل بالتكميل فقط.

وذهب أبو اليسر من الحنفية، إلى أن الفعل الثاني هو المسقط للواجب بعد الإتيان به، لأنه يستجمع كل أوصاف الواجب، فلم يعد هنالك حاجة إلى الالتفات للفعل الأول والاعتداد به(1).

والأرجح في نظري القول الأول، لما تقدم من الدليل الناهض.

3 - القضـــاء:

اختلف الفقهاء في تعريفه كاختلافهم في تعريف الأداء، لأنه نقيضه، فأصحاب التعريف الأول للأداء عرفوا القضاء بأنه: (ما فعل بعد وقته المقدر له شرعا أولا استدراكا لما سبق له وجوب)(2) فشمل ذلك تأخير الواجب عن وقته عمدا أو سهوا، كما شمل التأخير عن الوقت مع التمكن من الأداء، كالمسافر مثلا، أو مع عدم التمكن منه كالمريض والحائض والنائم.

وقد قيد بعض الفقهاء هذا التعريف بكلمة عليه، فقال: (.. استدراكا لما سبق له وجوب عليه) ليخرج به النائم والحائض والمجنون عن حد القضاء، لعدم تأكد الواجب في ذمتهم أثناء العذر، فإن الخطاب متجه عليهم في الجملة، ولكنه لم يتأكد في حقهم، فعلى التعريف الأول يدخل فعلهم الواجب بعد الوقت في حد القضاء، لتوجه الواجب عليهم بالجملة، وعلى التعريف الثاني ليس بقضاء، لعدم تأكد الوجوب في حقهم، للمانع الشرعي المبيح للتأخير.

وأصحاب التعريف الثاني مثل أصحاب التعريف الأول تماما، إلا أنهم قصروا التعريف على الواجب دون غيره، فلا يعتبرون من القضاء فعل النوافل خارج وقتها.

أما أصحاب التعريف الثالث فقد عمموا هذا التقسيم – كما تقدم – على كل مأمور به، سواء كان حقا لله تعالى أو حقا للعباد، مؤقتا أو غير مؤقت، فعرفوا القضاء بأنه: (تسليم مثل الثابت بالأمر)(1) والمراد بكلمة مثل هنا هو تسليم المأمور به ناقصا بعض أوصافه الشرعية، كأداء الصلاة خارج وقتها، فإنها ناقصة الوقت المرتبطة به، وتسليم قيمة المغصوب عند هلاك عينه، فإنه ناقص تسليم ذات العين الثابت بحكم الغصب، وقد تقدم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.

دليل قضاء الواجب وحكمه:

اتفق الفقهاء على أن الواجب إذا لم يؤد في وقته وجب أداؤه بعد الوقت قضاء، كالصلاة والصوم إذا لم يؤدهما المكلف في وقتهما المحدد لهما شرعا وجب قضاؤهما بعد الوقت، سواء أكان التأخير لعذر كالمرض والسفر والسهو، أو لغير عذر كالعمد.

ولكنهم اختلفوا في الدليل الموجب للقضاء، أهو الخطاب الذي وجب به الأداء نفسه، أم هو خطاب جديد غيره.

فذهب الجمهور وفيهم الشافعية والمالكية وبعض الحنفية إلى أن القضاء إنما يثبت بسبب جديد غير سبب الأداء.

وذهب جمهور الحنفية والحنبلية وأهل الحديث إلى أن القضاء يجب بما يجب به الأداء، ولا حاجة إلى دليل جديد له.

وذهب جماعة إلى أن القضاء بمثل معقول لا يحتاج إلى دليل جديد، أما القضاء بمثل غير معقول فهو الذي لا بد له من دليل جديد، حتى إن صاحب التلويح ادعى على ذلك الإجماع، فقال: (لا خلاف في أن القضاء بمثل غير معقول يكون بسبب جديد، واختلفوا في القضاء بمثل معقول..)(2) إلا أن صاحب فواتح الرحموت رد على ذلك، وأثبت أن الخلاف في المثل المعقول وغير المعقول على حد سواء، وأنه لا فرق بينهما، فقال: (وقد بان لك أن الفرق بين القضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول ليس في موضعه، فإن الأداء كما كان مفرغا للذمة عن اشتغالها بأصل الفعل، كذلك الإتيان بمثل غير معقول أو بمثل معقول ..)(3).

الأدلة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها(1):

1- بأن الأمر بالأداء لم يتضمن أمرا بالقضاء، ولا يمكن أن ينتظم لفظ الأمر كليهما معا على وجه يحصل به المطلوب بفعل أي منهما، إذ إن ذلك معناه التسوية بين الأداء والقضاء من كل وجه، وهذا باطل، لما في القضاء من إثم التأخير، مثل ذلك مثل من قال لغيره: صم يوم الخميس، فإن ذلك الأمر لا يعني صوم يوم الجمعة اقتضاء عدم الجمع بينهما، وهذا كذلك.

2- بأن الأمر بالأداء يستوجب أمرين هما: أداء الفعل، وكونه في وقته المقرر له شرعا، وليس مطلق الإتيان بالفعل فقط، أي إن الأمر اقتضى واجبا متصفا بقيد، فإذا تعذر حصول القيد لم يعد التفريغ على الوجه المطلوب ممكنا، فاحتيج إلى دليل جديد للقضاء.

واستدل الحنفية لمذهبهم(2):

1- بأن الأمر فيه شغل الذمة بالواجب بقصد التفريغ بالأداء، وكون ذلك في الوقت قيد تكميلي، فإذا تم التفريغ في الوقت فقد تم التفريغ على الكمال، وإذا أخرج عن الوقت بقي الواجب في الذمة، ولزم أداؤه ما دام الكمال متعذرا، وهذا النقص هو محل المسؤولية والإثم، ثم إن لفظ القضاء يدل على ذلك أيضا، لأنه لو كان ثابتا بدليل جديد لسمي أداء ولم يسم قضاء، فإن لفظ القضاء يدل على انشغال الذمة بالأمر السابق.

2- بأن فوات الأصل (الأداء) يستلزم أحد أمور ثلاثة لا رابع لها، هي:

أ - العفو عن الواجب بالكلية، وتفريغ الذمة منه بتاتا، وبالتالي عدم المطالبة بالواجب خارج الوقت قضاء.

ب - بقاء الواجب في الذمة كما كان رغم خروج الوقت.

ج - ثبوت المعصية ثبوتا لا رافع له دون مطالبة بالفعل.

فأما الاستلزام الأول فلا سبيل إليه، لأن القضاء واجب باتفاق الفقهاء، سواء أكان ذلك بسبب جديد أو بالسبب السابق، وهو ينافي العفو.

وأما الاستلزام الثالث فلا سبيل إليه أيضا، وذلك لأن المعصية المترتبة على إخراج الواجب عن الوقت معصيتان، الأولى بسبب تأخير الواجب عن وقته، وهذا لا رافع له إلا كرم الله تعالى وجوده، والثانية بسبب ترك نفس الواجب، وهذه تجبر بالقضاء باتفاق الفقهاء.

فلم يبق إلا الوجه الثاني، وهو انشغال الذمة بالواجب على وجه لا تفرغ فيه إلا بالتنفيذ فعلا.

3- لو كان القضاء لا يثبت إلا بخطاب جديد، لما وجب قضاء الصلاة على تاركها عمدا، لأن قول النبي  (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها) لا يشمل التارك للصلاة عمدا، ولا دليل غيره يوجب القضاء عليه مع أن الفقهاء كنفقون على وجوب القضاء عليه، فلزم منه ثبوته بالدليل الأول.

وقد نقض الحنفية والحنبلية مذهب الجمهور من عدة وجوه:

فردوا على الوجه الأول بأنه لو كان مرادنا شمول دليل الأداء للقضاء لفظا لكان دليلهم صحيحا، ولكن قصدنا ليس كذلك، بل هو أن المطالبة بشيء تتضمن المطالبة بمثله عند فوته تضمنا، فكان دليل وجوب الأداء شاملا لوجوب القضاء ضمنا لا لفظا، وكان إيجاب الأداء موجبا للقضاء، إذ هو مثل الأداء، فيصار إليه عند فوت الأصل ضرورة تفريغ الذمة.

كما أنهم ردوا على الوجه الثاني بأن الوقت مكمل للواجب لا أصل مثله، فليس الثابت بالأمر شيئين هما الواجب وكونه في الوقت، بل إن الثابت به هو فعل الواجب فقط، وأما كونه في الوقت فذلك وصف مكمل له، بدليل أنه لو أخرج الواجب عن وقته ثم فعله صح الواجب وسقط عن ذمته، وأما الإثم فهو نتيجة الإخلال والكمال وهو كونه في الوقت، ولو كان الوقت مقصودا بالأمر الأول كالواجب سواء بسواء لما سقط الواجب به قضاء، ولكن يسقط الواجب باتفاق الفقهاء بالقضاء، فكان مكملا له لا أصلا لذلك.

فإن قيل إن المكمل لا يوجب فواته الإثم لأنه بمثابة المندوبات، والقضاء يثبت فيه الإثم بالإجماع، أجيب بأن المكمل نوعان: نوع يكون واجبا، كقراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، ونوع يكون مندوبا كعقد اليدين في القيام، وتفويت الواجب يوجب الإثم بالاتفاق، فكان اعتبار الوقت مكملا للواجب إنما هو من النوع الأول، فلم يعد هنالك اعتراض على استحقاق الإثم بتفويته(1).

وقد رد الجمهور على الحنفية والحنبلية في دليلهم الرابع، بأن قضاء الصلاة على التارك لها عمدا إنما وجب بالحديث المتقدم نفسه بطريق دلالة النص، فإن حالة الترك عمدا أولى بالقضاء من حالة الترك سهوا أو النوم، ودلالة النص حجة عند الحنفية والحنبلية.

ثم إن القضاء على التارك عمدا ثبت بإجماع الفقهاء عليه من غير نكير، والإجماع حجة قطعية بالاتفاق، فصلح ذلك أن يكون دليلا جديدا لوجوب القضاء.

هذا وقد مال كثير من الفقهاء إلى ترجيح مذهب الجمهور، ولكنني مع ذلك أرى ترجيح رأي الحنفية والحنبلية من اعتبار الخطاب الأول الموجب للأداء موجبا للقضاء ضمنا لا لفظا، ما لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك، أي إن الأصل هو الشمول ما لم يعارض بدليل آخر لما تقدم من الأدلة.

أنواع الأداء والقضاء(1):

أ‌- أنواع الأداء:

ينقسم الأداء سواء كان ذلك في حقوق الله تعالى أوحقوق العباد إلى ثلاثة أقسام، هي:

ا- أداء كامل: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بالوصف الذي شرع عليه، أي كاملا مستجمعا كل شروطه وأركانه وسننه على الوجه الذي جاء به الخطاب، كصلاة الجماعة في وقتها فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها أداء كامل، لاحتوائها على الجماعة، وهي من سنن الصلاة أو واجباتها، وكرد عين المال المغصوب سليما، فإنه أداء كامل أيضا.

2- أداء ناقص: هو فعل عين الثابت بالأمر في وقته ناقصا بعض الأوصاف التي شرع عليها، كصلاة المنفرد فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها ناقصة صفة الجماعة، كرد عين المغصوب مشغولا بجناية أو دين.

3- أداء شبيه بالقضاء: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بعد فوات محله من وجه، كصلاة اللاحق للإمام فيما يصليه وحده بعد الإمام، فإنه أداء لفعله في وقته، وفيه معنى القضاء، لما فيه من فعله بعد محله، إذ محله خلف الأمام، وكذلك إذا تزوج امرأة على عبد لغيره، ثم اشتراه ودفعه لها، فإنه أداء من حيث إن فيه دفع العبد نفسه، ولكنه يشبه القضاء من حيث إن تبدل الملك كتبدل العين.

ب - أنواع القضــاء:

ينقسم القضاء إلى ثلاثة أقسام أيضا:

1- قضاء بمثل معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما يدركه العقل، كقضاء الصلاة بالصلاة، والصوم بالصوم، وضمان المغصوب بالمثل بعد هلاك العين.

2- قضاء بمثل غير معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما لا يدركه العقل ولكن ثبت بالشرع، كالفدية في الصوم، فإن العقل لا يستطيع إدراك المماثلة بين الإنفاق في الفدية بدلا عن الصوم وبين الصوم، وكذلك ضمان النفس بالمال المتقوِّم في القتل، والإرش عن الأطراف، وغيرها.

3- قضاء يشبه الأداء: كإدراك المقتدي الإمام في صلاة العيد وهو راكع، فإن عليه أن يكبر تكبيرات الزوائد في حالة الركوع، وهذه تعتبر قضاء لزوالها عن وقتها، إذ هو القيام، لكنها شبيهة بالأداء، لما في الركوع من شبه بالقيام من حيث انتصاب الساقين في كل، فكان فعلها في الركوع له شبهة بفعلها في القيام، وكذلك لو تزوج امرأة على عبد غير معين ثم دفع إليها قيمة عبد وسط، فإنه قضاء من حيث أن الثابت عليه عبد وسط لا قيمته، وهو شبيه بالأداء، لأن العبد الثابت عبد وسط، والوسطية لا تعرف إلا بالقيمة، فكأن القيمة هنا أصبحت شبيهة بالأداء، لما فيها من معنى الأصلية في تعيين الواجب.

التقسيم الثاني للواجب: من حيث تقديره من الشارع بحد معين أو عدم تقديره به، فإنه ينقسم من هذه الحيثية إلى واجب محدد، وواجب غير محدد:

1- الواجب المحدد: وهو الواجب الذي حدد الشارع له مقدارا معينا، كالزكاة، فإن الشارع بيَّن أنصبتها والواجب في كل نصاب، والصلاة، فإن الشارع بيَّن عددها وأوقاتها، ولم يترك شيئا من ذلك لتحديد البشر.

ومن ذلك أيضا كل الحدود والكفارات، ومقدار الفروض في المواريث، فإنها لا دخل لإنسان في أمر تحديدها زيادة أو نقصانا.

2- الواجب غير المحدد: وهو الواجب الذي أمر الله تعالى بفعله ولم يحدد المقدار الواجب فيه، بل ترك أمر التحديد للسلطة البشرية وقرائن الأحوال يتحدد بموجبها، كنفقة الأقارب، والتعزيرات، والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما لم يحدد الله سبحانه وتعالى مقداره مسبقا.

الحكمة في التحديد وعدمه:

لقد قضت حكمة الله تعالى وإرادته أن يأمر بني البشر بواجبات كثيرة تلبية لمصالحهم وتحقيقا للعدالة بينهم، ولمَّا كانت مصالح البشر منها ما هو ثابت لا يتبدل بتبدل العصور والأزمان، ولا بتغير الأشخاص والبلدان، ولا يتأثر بالأعراف والعادات، أو أن المصلحة التي سبق تعلق إرادة الله تعالى بها تستلزم هذا الثبات، وتمنع التغير والتبدل، كما في جريمة السرقة، فإنها مستنكرة بدرجة واحدة في كل العصور وفي كل البيئات وعند جميع الأمم على حد سواء، وكجريمة الزنا، فإنها مكروهة لكل عاقل منبوذة مجرَّمة في كل تشريع يُعنى بالمصلحة العامة، فإذا حدث أن استبيحت في بعض البيئات أو أحلت في بعض العصور لبعض الناس عدَّ ذلك انحرافا وخروجا عن جادة الصواب، لأن جريمة الزنا جريمة يجب أن تكون ثابتة الجرمية في كل عصر، فإذا انحرف قوم عن تجريمها عد ذلك منهم انحرافا، لا تغييرا سليما ينبغي بناء الأحكام عليه وتغيرها وفقا له.

ومنها ما هو قابل للتبدل بطبيعته، وهو ما يرتبط بالعادة والعرف، بحيث إنه يتكيف بها كثرة وقلة شدة وضعفا، حتى إذا ما لجأنا إلى تحديده مسبقا في نطاق محدد لا يقبل التغيير والتبديل عطلنا المصلحة التي شرع من أجلها، والغاية التي أوجب لها، مثل النفقة على الأقارب، فإن العرف والعادة والأسعار هي التي تحدده، ولو حددت مسبقا من الشارع لكان في ذلك كل المجافاة للعدالة، ومنها الجرائم التعزيرية، فإنها متأثرة بالعرف والعادة كمَّا وكيفا، ثم هي غير منضبطة تختلف باختلاف الأحوال والظروف والقرائن المحيطة بها، فإن شتيمة العالم غير شتيمة آحاد الناس في جرميتها.

فلذلك كله وتحقيقا للعدالة المطلقة التي هي مناط الواجبات الشرعية قسم الشارع الواجب إلى القسمين المذكورين، فجعل بعض الواجبات محددة لا دخل للسلطان البشري في تحديدها زيادة وقلة كمَّا وكيفا، وهذا هو القسم الأكثر من الواجبات الشرعية، وجعل بعض الواجبات الأخرى غير محددة مسبقا، وأوكل إلى السلطان البشري أمر تحديدها بقواعد وأسس معينة بينها لنا سبحانه.

حكم الواجب المحدد وغير المحدد:

لهذا التفريق بين الواجب المحدد وغير المحدد ثمرة هي: أن الواجب المحدد يثبت في الذمة إذا لم يؤَدَّ في وقته، أما الواجب غير المحدد فلا يثبت في الذمة بفوات وقته.

ودليل ذلك أن شغل الذمة بالواجب الغاية منه القدرة على تفريغها بأدائه ضرورة عدم التكليف بمتعذر، ولما كان الواجب هنا غير محدد لم يكن إخراجه من الذمة، فلزم من ذلك عدم شغل الذمة به.

هذا إذا لم يكن حدد ممن له سلطة التحديد من البشر، فإذا حدد بالقضاء أو الرضا فإنه يلحق بالواجب المحدد باتفاق الفقهاء، ويثبت في الذمة، ولكن الشافعية اختلفوا مع الحنفية في إسناد هذا الترتيب إلى تاريخ مبدأ الوجوب أو قصره على وقت التقدير، فذهب الحنفية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له السلطة في تحديده، كنفقة الزوجة يحددها القاضي، فإنها تثبت في الذمة من تاريخ التحديد لا من تاريخ الوجوب، لالتحاقها بالواجب المحدد من تاريخه فقط، وذهب الشافعية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له تحديده يلحق بالواجب المحدد منذ تاريخ نشوء الواجب، فتجب نفقة الزوجة بعد تحديدها في ذمة الزوج وجوبا مستندا إلى تاريخ نشوئها، أي تجب في ذمته النفقة الجديدة والنفقة الماضية السابقة على التحديد.

الأدلــــة:

استدل الحنفية لمذهبهم بأن الواجب غير المحدد غير قابل للثبوت في الذمة في أصله لعدم تحديده، فيسقط، فإذا حدد بعد ذلك كان التحديد بمثابة إيجاب جديد له، فلا يرجع على ما وقع ساقطا من الأصل.

واستدل الشافعية لمذهبهم بأن عدم الثبوت في الذمة إنما كان لعدم التحديد، فلما تم التحديد زال المانع من الإثبات في الذمة، فرجع إليها متعلقا بها(1).

التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله.

ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب على العين، وواجب على الكفاية.

1- فالواجب على العين: ويسمى الواجب العيني، هو الواجب المتعلق بجميع أفراد المكلفين على وجه لا يتأدى إلا بفعل كل واحد منهم له.

2- الواجب الكفائي: وهو الواجب المتعلق بجماعة المكلفين على وجه يتأدى فيه بفعل البعض منهم له، لحصول الغرض منه بفعل بعض المكلفين(2)، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم، لعدم حصول الواجب منهم.

معنى هذا التقسيم ومنشأه:

كل الواجبات التي شرعها الله جل شأنه الحكمة فيها شيئان، هما تربية البشرية جمعاء، وإقامة العدالة بينها، والتربية لا تتحقق إلا بالتزام كل واحد من المكلفين الواجبات التي شرعت له، لأن التربية أمر شخصي ذاتي لا يصلح أن يقوم فيه إنسان مقام آخر، كالقوة البدنية تماما، لا تتم لإنسان إلا إذا قام بالرياضة لها بنفسه، ولا يغني عن ذلك قيام غيره بها مهما كان ذلك الغير.

أما إقامة العدالة وتأمين المصالح فتتحقق بفعل البعض دون الكل، لأن الغاية منها نوعية وليست شخصية، كالقضاء والجهاد، فإن الغاية منها إقامة العدالة بين الناس وكسر شوكة الأعداء ورد أذاهم.

لهذا كله انقسمت الواجبات إلى هذين القسمين، فما كان منها متعلقا بجانب التربية اعتبر واجب عين لا يتأدى فيه الواجب إلا بفعل كل إنسان مكلف له، فإذا ما تركه إنسان من المكلفين أثم لوحده، ولم يغن عنه قيام غيره به.

وما كان منها متعلقا بجانب العدالة ومصلحة المجتمع دون النظر إلى أفراد هذا المجتمع اعتبر واجب كفاية يتأدى فيه الواجب بفعل بعض المكلفين له، ويسقط الوجوب عن الباقين بذلك، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم لفوات المصلحة المترتبة على هذا الوجوب كليا.

وهذا التقسيم للواجب منطقي وضروري، ومجافاته جور وعبث، ذلك أن مصالح المجتمع كثيرة ومتعددة، لا يستطيع كل مكلف القيام بها جميعا، كالعلم والقضاء والجهاد والمهن كلها.. فإذا ما كان وجوبها عليه عينا كان تكليفا بما لا يطاق، وجورا ينزه التشريع الإسلامي عنه، ثم إن في تكليف المؤمنين جميعا به خروجا عن الحكمة التي يتصف الله سبحانه وتعالى بها، ذلك أن فيه جعل كل الناس علماء بالفقه وبالأصول وبالكيمياء والفيزياء والخياطة والتجارة.. وهو لا شك -على ما فيه من استحالة- عبث من العبث لعدم الحاجة إليه، والعبث لا يليق بأي تشريع فضلا عن التشريع الإسلامي الصادر من حكيم حميد(1).

حكم الواجبين العيني والكفائي:

اتفق الفقهاء على أن حكم الواجب العيني التزام كل مكلف به وعدم براءة ذمته منه إلا بالأداء شخصيا، وأن الواجب الكفائي حكمه براءة ذمة المكلفين به بفعل جماعة منهم له، على أن الثواب خاص بالجماعة التي قامت به دون غيرها، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم.

محل تعلق الواجب الكفائي:

واتفق الفقهاء أيضا على أن الواجب العيني متعلق بذمة المكلفين به جميعا، أما الواجب الكفائي فقد اختلف الفقهاء في متعلقة على أربعة مذاهب، هي:

1- مذهب الجمهور من الفقهاء: وهو أن الخطاب في الواجب الكفائي متعلق بالكل الإفرادي، أي هو متعلق بكل فرد من أفراد المكلفين على حد سواء.

2- وذهب آخرون: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة المكلفة به، وإليه مال صاحب المحصول.

3- وذهب آخرون أيضا: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة معلوم عند الله تعالى ولا نعلمه نحن.

4- وذهبت طائفة من الفقهاء: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة هم المشاهدون للشيء محل الواجب.

الأدلــــــة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:

أ‌- نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة الشريقة، منها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، وقوله : (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وهي كلها جاءت عامة فتشمل كل المكلفين دون التحديد بفئة معينة، ولا مخصص لهذا العموم، فلا يجوز العدول عنه.

ب - اتفق الفقهاء على أن المكلفين لو تركوا الواجب الكفائي جميعا أثموا كلهم، والإثم دليل الوجوب، فدل ذلك على أن الوجوب متعلق بالجميع(1).

استدل أصحاب المذهب الثاني بأدلة منها:

أ - بأن الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض بالاتفاق، ولو كان واجبا على الكل لم يسقط بفعل البعض كسائر العبادات، لأن الواجب إذا ما استقر في الذمة لم يسقط إلا بالأداء أو النسخ، ولا نسخ هنا لعدم قيام دليله، أما الأداء فمتفق على إجزاء البعض فيه عن الكل، فكان لا بد من اعتبار الوجوب متعلقا بالبعض فقط، ولما كان لا مرجح لبعض على غيره من أفراد الجماعة اعتبر الواجب متعلقا ببعض منهم.

ب - اتفق الفقهاء على صحة التكليف ببعض مبهم، وهو مما يسمى بالواجب المخير على ما سيأتي، فكان تكليف بعض مبهم صحيحا قياسا عليه، أي إن أصحاب هذا المذهب قاسوا الإبهام في المكلف على الإبهام في المكلف به، بجامع وجود البعضية والإبهام في كل، ولما كان الأول محل اتفاق على جوازه وصحته، كان الثاني صحيحا قياسا عليه في نظرهم(2).

ج - بعض الواجبات الكفائية جاءت فيها نصوص توجه الخطاب إلى جماعة مبهمة من المكلفين دون جميع المكلفين، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، فإن الخطاب متجه إلى طائفة فقط دون جميع المؤمنين، ولا فارق معتبرا بين الجهاد والتعليم وغيرهما من الواجبات على الكفاية، فدل ذلك على أن الخطاب في الواجب الكفائي متجه إلى بعض مبهم من المكلفين دون جميعهم قياسا على ذلك.

د - لو قلنا بتكليف الكل للزم منه العبث، ذلك أن بعض المكلفين إذا أتى بالواجب وزادوا عليه لإثبات أن البعض معين في علم الله، لأن الله عالم بكل شيء، فلا يصح أن يعتبر البعض المتعلق به الخطاب هنا مبهما مجهولا، فاعتبر بعضا معلوما له لذلك.

أما أصحاب المذهب الرابع، فقد استدلوا أيضا بما استدل به أصحاب المذهب الثاني، وزادوا عليهم لإثبات أن البعض المخصوص بالخطاب هو من شاهد الفعل الذي تعلق الواجب به دون غيره، أن التكليف لا يصح إلا بما هو مقدور للمكلف، وتكليف الغافل عن الفعل تكليف بما هو غير مقدور، فكان الخطاب متعلقا بمن حضر الفعل أو علم به دون غيره، مثل صلاة الجنازة، فإنها واجبة على من جاور الميت أو علم به دون سائر المكلفين الذين لم يعلموا بذلك.

وقد ناقش الجمهور أدلة القائلين باتجاه الخطاب في الواجب الكفائي إلى بعض المكلفين دون غيرهم بما يأتي:

أ‌- ناقشوا الدليل الأول بأنه لا لزوم للنسخ، لأن سقوط الأمر قبل الأداء قد يكون للنسخ وقد يكون لانتفاء علِّية الوجوب، ولا نسخ هنا لحصول المقصود من إيجابه بإتيان واحد به، فيكون السقوط لزوال العلة الداعية إلى الوجوب لا لنسخ الوجوب، مثل الجهاد، علته دفع العدو، فإذا قام جماعة من الناس بدفعه سقط الوجوب عن الباقين لزوال علِّية الوجوب، فلا ضرورة للزوم النسخ هنا(1).

ب‌- ونوقش الدليل الثاني بأن القياس باطل لمقابلته النصوص التي تقرر أن الواجب الكفائي واجب على الكل مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، وغيره. ثم هو على التسليم بعدم معارضته النصوص قياس مع الفارق، فإن تأثيم المبهم غير التأثيم بترك المبهم، إذ الأول غير معقول أما الثاني فهو معقول، بل هو محل اتفاق الفقهاء.

ج- أما الاستدلال ببعض النصوص التي يتوجه فيها الخطاب ظاهرا للبعض، فإنه يجاب عنه بأن الخطاب فيها لم يتجه في الحقيقة إلى البعض، إنما هو متجه للكل حكما ضرورة عدم تعيين هذا البعض، ولكنه يسقط عن الباقين بعد فعل البعض له جمعا بين هذا الدليل والأدلة السابقة عليه التي استدل بها الجمهور لمذهبهم، هذا إلى جانب أن الخطاب لم يتجه أصلا في هذه الآية الكريمة وأمثالها إلى البعض، إنما المقصود منه تحريض المؤمنين على طلب العلم والجهاد بخروج بعضهم له.

د- أما لزوم العبث فغير وارد أصلا، ذلك أن الأمر مقيد ضمنا بالسقوط عند أداء البعض له، بمعنى أن البعض إذا فعله سقط الوجوب عن الباقين ضرورة سقوط الإثم عنهم، فلم يبق في التكليف به عبث.

لهذه الأدلة والمناقشات نرى أن مذهب الجمهور هو الأرجح الأقرب للواقع، وإن كان الخلاف من أصله نظريا أكثر منه عمليا، ولا ينتج عنه إلا بعض الآثار القليلة.

انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني:

ينتقل الواجب الكفائي إلى واجب عيني في الحكم إذا ما تعين فرد معين أو جماعة معينة لأدائه دون غيرها، كمهنة الطب مثلا، إذا انحصرت في واحد معين لا يعملها غيره، أو مهنة الفتوى إذا عم الجهل بالأحكام كل الناس إلا فئة قليلة لا تكفي لسد حاجة الناس من بيان الحق لهم في مسائلهم وقضاياهم، فإنه في هذه الحال ينقلب الواجب في حق هذه الجماعة التي انحصر إمكان أداء الواجب بها من واجب كفائي إلى واجب عيني، ولا يسع واحدا منها أن يتأخر عن أداء الواجب، فإذا ما تأخر عنه إثم، ولم يغن عنه قيام غيره به، ما دامت الحاجة لا ترتفع بقيام ذلك الغير.

التقسيم الرابع للواجب من حيث تعيُّن المطلوب به وعدمه.

ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب معين – وواجب مخير.

1- الواجب المعين: وهو ما طلبه الشارع بعينه دون تخيير بينه وبين شيء آخر، مثل الصلاة والصوم، فإنهما معينان من قبل الشارع ولا يغني فعل أي شيء غيرهما عنهما، ولا يسقط الواجب إلا بفعلهما ذاتهما.

2- الواجب المخير: ويسمى الواجب المبهم. وهو ما طلبه الشارع مخيّرا بين أمور عديدة يسقط الواجب بفعل واحد منها، مثل الكفارات، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب في الكفارة فعل واحد من ثلاثة أمور، هي: (الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق) بحيث إن المكلف لو فعل واحدا منها اعتبر مؤديا للواجب.

الحكمة في هذا التقسيم:

تقسيم الشارع الحكيم الواجب إلى معين ومخير تقسيم دقيق يقوم على حكمة بالغة ورحمة كبيرة بالأمة، فقد تعلق علم الله تعالى وإرادته بأن بعض المصالح لا تتحقق إلا بأفعال وأقوال معينة بحيث أن غيرها لا يحل محلها في تحقيق هذه المصلحة المرجوة منها، وأن بعضها الآخر يحصل بفعل واحد من أشياء متعددة على وجه التساوي.

ولما كانت الأحكام معللة بمصالح العباد عند جماهير الفقهاء قسم الله تعالى الواجب إلى هذين القسمين، فما كان من المصالح متعلقا بواجب معين لا يتحقق بغيره جاء الأمر به معينا بهذا الواجب، وما كان من المصالح يتحقق بواحد من أمور متعددة على وجه المساواة جاء الأمر به مخيرا بين تلك الواجبات التي تتحقق المصلحة بواحد منها، تخفيفا عن المكلفين، ورفعا للحرج عنهم، وتحقيقا لمصالح العباد على الوجه الأكمل.

محل تعلق الخطاب في الواجب المخير:

اتفق الفقهاء في الواجب المعين على أن الأمر فيه متعلق بعين الواجب المعين على وجه لا يسقط إلا بأدائه ذاته.

أما الواجب المخير فقد اختلف الفقهاء فيه على محل تعلق الخطاب، أهو منصب أو متعلق بواحد من الأمور التي جاء التخيير بها، أم هو منصب على جميع تلك المخيرات، وانقسموا إلى مذاهب متعددة أهمها:

1- مذهب جمهور الفقهاء: وهو أن الأمر في الواجب المخير منصب على فرد شائع من أفراد المأمورات المخير بينهما على وجه يحصل الواجب ويتأدى بفعل واحد منها، فإذا فعلها المكلف كلها أجر على واحد منها فقط، وإذا تركها جميعها أثم إثم ترك واحد منها أيضا.

2- وذهب جمهور المعتزلة: إلى أن الأمر متعلق بجميع المأثورات المخير بينها، بحيث يثاب الإنسان عليها كلها لو فعلها جميعا، وإذا تركها جميعا أثم إثم تارك واحدة منها فقط. لأن الواجب يتأدى بفعل واحد منها تكرما من الله تعالى وفضلا منه، فكان الإثم إثما واحد لذلك.

وقيل إن مذهب المعتزلة هو وجوب الجميع على سبيل البدل، فيكون مذهبهم مثل مذهب الجمهور لا فرق بينه وبينه، يبقي الخلاف صورياً، لكن المرجح أن مذهبهم هو الأول، ولذلك يكون خلافهم لمذهب الجمهور خلافا أصيلا له معنى واسع(1).

3- وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأمر متعلق بفرد من أفراد المأمورات معين عند الله سبحانه وتعالى، مبهم عندنا، يتعين بالفعل والأداء، فإذا أدى الحانث في يمينه الكسوة تعينت الكسوة للوجوب، وإذا أدى الإعتاق تعين الإعتاق عليه، وهكذا…

4- وذهب آخرون إلى أن الواجب فرد معين من أفراد المخيرات، يتأدى الواجب به إذا فعل، كما يتأدى بغيره من أفراد المخيرات إذا فعل على طريق البدلية عنه.

الأدلــة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:

أ) أنه لا مانع عقلاً من اعتباره كذلك، ذلك أنه لو قال إنسان لعبده: (اشتر لي خبزاً أو لحماً، أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وان لم تشتر لي شيئاً عاقبتك، ولست أوجب عليك شراء كليهما، وإنما أطلب منك شراء واحد لا يعينه، بل أي واحد أردته أنت) كان كلامه معقولاً لا غبار عليه.

ب) لا مانع شرعاً من وقوع ذلك، بل إن ذلك وقع فعلا، كخصال الكفارة، فإن الله سبحانه وتعالى قد خير الحانث في يمينه بين الإعتاق والإطعام والكسوة، ولا أدل على الجواز من الوقوع.

ج) لا يجوز بحال اعتبار كل أفراد المخيَّر واجبة بالأمر، لأن ذلك إن كان مستساغاً في بعض الفروع فهو محال في فروع أخرى، مثل الأمامة، فإن نصب الإمام واجب مخير، ويجب على الأمة نصب واحد من أهل الحل والعقد لا على التعيين، ولكن لا يجوز لهم بحال نصب اثنين معا، لما في ذلك من المفاسد، ولو كان الواجب نصبهما على الجميع لجاز، ولكنه حرام بالاتفاق، فدل على أن الواجب إنما هو فرد واحد من أفراد المخير.

د) أجمعت الأمة في خصال الكفارة على أن الواجب واحد منها لا كلها، والإجماع حجة قاطعة لا تجوز مخالفته(1).

ه) لا يمكن أن يفهم من التخيير تعين أحد أفراد المخير دون غيره، لأن ذلك ينافي التخيير الذي صرحت النصوص به، ولا يمكن أن يفهم منه وجوب الكل لمنافاته التخيير كذلك، فوجب اعتبار وجوب البعض دون تعيين(2).

واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي:

أ‌- بأنه لا يمكن تعليقه بفرد معين من أفراد المخير دون غيره، لعدم الدليل على ذلك وإذا امتنع التعيين كان الأمر معلقا بمجهول، والمجهول مستحيل الوقوع عقلا، والتكليف بمستحيل ممتنع ضرورة عدم القدرة على الإتيان به، فكان لا بد من القول بتعلق الأمر بجميع المأمور به المخيَّر.

ولكن الجمهور ناقشوا هذا الدليل بأنهم لا يسلمون أن غير المتعين هنا مجهول، بل إنه معلوم من حيث إنه واجب، وهو محصور في أفراد معينة، كخصال الكفارة، فإنها محصورة في ثلاثة، ثم إنه كان مجهولا من وجه، فإنه ليس واجبا من هذا الوجه، ويتأدى الواجب بفعل واحد من أفراده، فلم يكن مستحيلا لذلك.

ب‌- بأن القول بإيجاب فرد واحد فيه تناقض، لأن فيه اعتبار كل فرد من أفراد المخير واجبا وغير واجب في وقت واحد، ففي الكفارة إذا اعتبرنا الواجب العتق كان الإطعام والكساء غير واجبين، وإذا اعتبرنا الواجب الكساء كان العتق والإطعام غير واجبين، واجتماع النقيضين غير جائز عقلا.

لكن الجمهور ناقشوا ذلك بأنه لا تناقض هنا، لأن الواجب المخيَّر محدود فيه كل المتعينات التي هي أفراد الواجب، وذلك جائز، لأن محل الوجوب غير محل التخيير، كوجوب أحد النقيضين تماما، فإنه جائز، وكذلك هذا(1).

ج- بأن الوجوب في الواجب المخير كالوجوب في الواجب على الكفاية، وهناك اتفق الجمهور على أنه يشمل كل الأفراد، فيكون هنا كذلك قياسا عليه بجامع الإبهام في كل.

لكن الجمهور ردوا ذلك بإبطال القياس، لأسباب هي:

أ‌- أنه قياس في مواجهة النص، فإن النصوص صريحة في إيجاب واحد من أفراد المخير لا جميعه.

ب‌- أنه قياس مع الفارق، وقد بيناه في دليل الواجب الكفائي.

واستدل أصحاب المذهب الثالث لمذهبهم:

بأن الله سبحانه وتعالى هو الموجب، وهو عالم مطلق لا يغفل عن شيء، فيلزم من ذلك علمه بالفرد الذي ارتبط الإيجاب به، فيكون الواجب واحدا معروفا لديه سبحانه، ونظرا لعدم علمنا بالواجب، ولفراغ الذمة بواحد من أفراد المخير، كان الواجب في حقنا هو المؤدى فعلا.

لكن الجمهور أجابوا عن ذلك، بأن الله تعالى يعلم الشيء على الوجه الذي أوجبه، فإذا أوجب واحدا من ثلاثة مثلا وجب أن يعلمه كذلك، وإلا لزام أن لا يكون عالما بما أوجبه(1).

ثم إن في تعيين الأمر المؤدي للوجوب تأخير للإيجاب عن الفعل، وهو محال، ذلك أن الإيجاب لا بد من تقدمه على الفعل ليكون ممكن الحدوث، إذ التكليف بمحال باطل، وفي تأخير الإيجاب على الفعل تعليق بمحال، فيكون باطلا لذلك(2).

واستدل أصحاب المذهب الرابع لمذهبهم:

بأن الواجب ما دام واحدا من أفراد المخير لزم أن يكون هذا الواحد معلوما لله تعالى، لإطلاق علمه، فإذا كان الواجب معلوما لله تعالى كان بالنسبة إليه بمثابة الواجب المعيَّن، ولذلك كانت إصابته تأدية للواجب عينا، وإصابة غيره من أفراد المخيَّر بدل عنه تخفيفا من الله تعالى، لعدم علمنا بعين الواجب.

ولكن الجمهور ردوا هذا الدليل، بأن علم الله تعالى تعلق بالتخيير، فلا يقصر على فرد معين دون غيره، ولمَّا كان الحكم كذلك كانت الأفراد كلها أصلا في أداء الواجب، ولا رجحان لواحد على آخر حتى يعتبر أصلا وغيره بدلا.

بعدما انتهينا من دراسة أقسام الواجب من كل حيثياته، ننتقل إلى دراسة مسألة يلحقها الأصوليون بمبحث الواجب، وهي مقدمة الواجب.

مقدمة الواجــب(3):

اختلف العلماء في التعبير عن هذا الموضوع، فمنهم من عبر عنه بمقدمة الواجب المطلق، ومنهم من عبر عنه بما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وبعضهم عبر عنه بالمقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به.

وهذه التعبيرات كلها –على اختلاف ألفاظها- ترجع إلى معنى واحد، هو: (أن ما لا يتم وجود الواجب المطلق إلا به فهو واجب بوجوبه).

ولتحرير محل اختلاف الفقهاء على حكم مقدمة الواجب ودليله نعرض لأقسامها وتشعباتها كما يلي:

أقسام مقدمة الواجب:

تنقسم مقدمة الواجب من حيثيات مختلفة إلى أقسام عدة، هي:

1 - من حيث نوع الأمر المرتبط بها:

فإنها تنقسم إلى قسمين: مقدمة وجوب ومقدمة وجود.

أ- مقدمة وجوب: وهي المقدمة التي يتعلق بها وجوب الماهية، أي شغل الذمة بها سببا كانت أو شرطا، كدخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب لوجوبها في الذمة، أي شغل الذمة بها. وكحولان الحول بالنسبة لوجوب الزكاة، فإنه شرط لوجوبها على المكلف.

ب - مقدمة الوجود: وهي المقدمة التي يتعلق بها صحة وجود الشيء، أي صحة تفريغ الذمة من الواجب، سواء كانت شرطا أم سببا، وسواء تعلق بها وجوب الشيء إلى جانب وجوده أولا، مثل الوضوء للصلاة، فإنه مقدمة لوجود الصلاة، ولا علاقة له بوجوبها، ومثل العدد للجمعة –عند الشافعية– فإنه مقدمة لوجوب الصلاة ووجودها معا، بمعنى أنه لو لم يوجد لما وجبت الصلاة في الذمة، ولما صحت لو أديت بدونه.

2 – من حيث نوع تعلق الواجب بها:

فإنها تنقسم إلى قسمين، وكل من هذين القسمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ - فهي أما أن تكون سببا لوجوب الواجب أو وجوده، أو تكون شرطا لوجوبه أو وجوده، وكل من السبب والشرط يتفرع إلى عادى وعقلي وشرعي، على الشكل التالــي:

- مقدمة هي سبب لوجود أو وجوب الواجب، بمعنى أن الواجب وجوبا أو صحة متوقف عليها وجودا وعدما، فيلزم من وجودها وجوده وصحته، ومن عدمها عدمهما، لأن ذلك هو السبب على ما سيأتي في الحكم الوضعي، وهي على ثلاثة أنواع:

أولا) مقدمة هي سبب شرعي لوجوب أو وجود الواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم الشرع، مثل دخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب له بحكم الشرع.

ثانيا) مقدمة هي سبب عقلي لوجوب أو وجود الواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم العقل لا الشرع، مثل النظر بالنسبة للعلم، فإنه سبب لا بد منه له، وقد علم ذلك بحكم العقل.

ثالثا) مقدمة هي سبب عادي للواجب: أي إن العلاقة الرابطة فيها بين المسبب وسببه ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل والذبح، فإن العادة هي التي قضت بسببيته للذبح والقتل.

ب- أو تكون شرطا لوجود الواجب أو وجوبه، بمعنى أن الواجب متوقف عليها انعداما لا وجودا، فيلزم من انعدامها انعدامه ولا يلزم من وجودها وجوده، لأن ذلك هو حد الشرط على ما سيأتي، وهي على ثلاثة أنواع أيضا:

أولا) مقدمة هي شرط شرعي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم الشرع، مثل الوضوء للصلاة، فإن الشرع هو الذي قضى باشتراطه لصحة الصلاة ووجودها.

ثانيا) مقدمة هي شرط عقلي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم العقل، مثل ترك ضد الواجب لحصوله، فإن العقل هو الذي اقتضى شرطيته للواجب.

ثالثا) مقدمة هي شرط عادي للواجب، أي إن العلاقة فيها بين الشرط ومشروطه ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل غسل جزء من شعر الرأس لإتمام غسل الوجه، فإن العادة هي التي قضت بشرطيته لإتمام غسل الوجه.

3 – من حيث كون الواجب المتعلق بها مطلقا أو مقيدا:

فإنها تنقسم إلى قسمين، همـا:

أولا) مقدمة الواجب المطلق، وهي المقدمة التي تعد مقدمة لوجود الشيء فقط، ولا علاقة لها بوجوبه، مثل الضوء للصلاة، فإنه مقدمة لوجودها، ولا علاقة له بالوجوب، وسمي الواجب مطلقا هنا لعدم تقيده بمقدمة وجوب.

ثانيا) مقدمة الواجب المقيد، وهي المقدمة التي تعتبر مقدمة لوجوب الشيء ووجوده معا، أي هي المقدمة التي توقف فيها وجوب الشيء على ما توقف عليه وجوده، مثل العدد لصلاة الجمعة- عند الشافعية- فإنه مقدمة للوجوب والوجود كما تقدم، وكذلك دخول الوقت، والخلو عن الحيض والنفاس، فإنها مقدمات لوجوب الصلاة ووجودها جميعا.

ومن ذلك يعلم أن الواجب الواحد قد يعتبر مقيدا ومطلقا في الوقت نفسه بالنسبة للمقدمات المرتبطة به، كالصلاة مثلا، فهي واجب مطلق بالنسبة للطهارة من الحدث الأصغر، لأنه لا علاقة له بوجوبها، وهي واجب مقيد بالنسبة لدخول الوقت، فإنه سبب للوجوب وشرط للصحة (الوجود).

بعد هذا التقسيم لمقدمة الواجب نستطيع أن نضبط ونحرر خلاف الفقهاء في حكمها ودليله على الشكل التالي:

حكم مقدمة الواجب ودليله:

اتفق الفقهاء على أن الواجب المقيد لا يلزم من وجوبه وجوب مقدمته، سواء كانت المقدمة شرطا أم سببا، وبالتالي فإن الدليل الدال على وجوب الواجب المقيد لا يدل على وجوب مقدمته، مثل ملك النصاب بالنسبة للزكاة، فإنه مقدمة وجوب لها، ولذلك لا يعد تحصيله واجبا على المكلف بغية وجوب الزكاة عليه، لأن هذه المقدمات ليست إلى المكلف حتى يؤثر بها.

أما مقدمة الواجب المطلق، فقد اتفق الفقهاء على وجوبها خلافا للواجب المقيد، ما دامت مقدورة المكلف، كالطهارة من الحدث الأصغر بالنسبة للصلاة، فإن كانت غير مقدورة للمكلف كالخلو عن الحيض والنفاس بالنسبة للصوم لم تكن واجبة، لأن التكليف بغير المقدور باطل، ولكنهم اختلفوا في دليل إيجابها، أهو دليل الوجوب نفسه أم دليل جديد خارج عنه، وذلك على أربعة مذاهب:

المذهب الأول مذهب جمهور الأصوليين: وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء دال أيضا بطريق الالتزام على وجوب مقدمته، سببا كانت أو شرطا، عاديا كان أو عقليا أو شرعيا، وبذلك يكون الخطاب دالا على شيئين:

- على الواجب بطريق المطابقة.

- وعلى مقدمته بطريق الالتزام.

وذلك أن دلالة اللفظ على المعنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: هي:

أ‌- دلالة مطابقة: وهي دلالة اللفظ على جميع معناه، كدلالة إنسان على الحيوان الناطق، فإنها دالة على كل المعنى الذي وضعت له.

ب - دلالة تضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء من معناه، كدلالة إنسان على الحيوان مطلقا، فإنها مقصورة على بعض أفراد المعنى المراد منها.

ج- دلالة التزام: وهي دلالة اللفظ لا على معناه المراد منه لغة، ولكن على لازم معناه، مثل دلالة كلمة إنسان على قابليته للعلم وقابليته للنطق وغيرها.

ومعلوم أن دلالة المطابقة دلالة لفظية، أما دلالة التضمن والالتزام فعقليتان، بمعنى أن اللفظ فيهما لا يقيد معناه المراد منه إلا بواسطة العقل، وعلى ذلك تكون دلالة الخطاب المثبت للواجب على مقدمة الواجب دلالة عقلية لا لفظية.

2- المذهب الثاني: أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل على وجوب مقدمته إذا كانت سببا فقط، سواء أكان شرعيا أو عقليا أو عاديا، فإذا كانت المقدمة شرطا لم يكن دليل الواجب دالا على وجوبها.

3- المذهب الثالث: أن الخطاب الدال على وجوب الشيء لا يدل على وجوب مقدمته، سواء أكانت سببا أو شرطا، ولكن وجوبها يحتاج ويستند إلى دليل جديد.

4- المذهب الرابع: مذهب ابن الحاجب وإمام الحرمين: وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل على وجوب مقدمته إذا كانت شرطا شرعيا فحسب، فإذا كانت شرطا عقليا أو عاديا أو كانت سببا لم يدل دليل الواجب على وجوبها(1).

الأدلـــة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأن الخطاب الدال على وجوب الواجب لو لم يكن دالا على وجوب شرطه للزم أحد أمور ثلاثة كلها باطلة، وهي(2):

أ - أن يكون الإيجاب مقصورا على المشروط دون شرطه، وهو بمعنى جواز ترك الشرط مع طلب المشروط، لكن ترك الشرط يفضي إلى ترك المشروط، لأن المشروط لا يحصل بدون شرطه، فكان معناه طلب المشروط لتوجه الخطاب إليه، وعدم طلبه لعدم طلب شرطه. وهو تناقض باطل.

ب - جواز فعل المشروط بدون شرطه، لأن الشرط لم يتعلق به الخطاب، وفعل المشروط دون شرطه باطل، لضرورة جعل الشرط غير شرط، وهو تناقض باطل أيضا.

ج - أن يكون الإنسان مكلفا بالفعل وقت انعدام شرطه، لأن الخطاب ما دام لم يتعلق بالشرط لم يكن للشرط دخل في التكليف بالفعل، والإتيان بالفعل وقت انعدام الشرط محال، ولا قدرة للمكلف عليه ضرورة أن المشروط ينعدم عند انعدام شرطه، فيكون التكليف بالفعل عند انعدام شرطه تكليفا بمحال، وهو باطل شرعا باتفاق الفقهاء.

وإذا ثبتت دلالة الخطاب المتعلق بوجوب الواجب على وجوب شرطه ثبتت دلالته على وجوب سببه من باب أولى، لأن السبب كالشرط من ناحية ارتباط غيره به انعداما، ويزيد السبب عليه قوة من حيث ارتباط غيره به وجودا أيضا، خلافا للشرط، فكان أولى منه في تعلق خطاب الواجب بوجوبه.

وبذلك يسام القول للجمهور على دلالة الخطاب المتعلق بالواجب على مقدمة هذا الواجب سببا كانت المقدمة أو شرطا.

واستدل أصحاب المذهب الثاني بأن السبب أقوى في ارتباطه بالواجب من الشرط، لأن ارتباط السبب به يقوم من وجهتي الوجود والعدم، أما ارتباط الشرط به فهو من وجهة العدم فقط، ولذلك صلح خطاب الواجب دليلا على وجوب السبب دون الشرط.

إلا أن هذا الوجه نوقش بأن الخطاب لا تعرض فيه للسبب ولا للشرط، وإنما تعرض لإيجاب الشيء فقط، والشرط والسبب متساويان بالنسبة للخطاب، إذ يترتب على انعدام أي منهما انعدام الواجب على حد سواء، ولا عبرة للوجه الآخر، فكان ترجيح أحدهما على الآخر هنا بغير مرجح، وهو باطل.

واستدل أصحاب المذهب الثالث بأن المقدمة لو كانت مرادة ومقصودة للأمر للزم التصريح بها، ولكن اللفظ لم يصرح بها ولم يشملها، فلم تكن مرادة ولا مقصودة من الأمر، فلا تكون واجبة لذلك.

وقد رد هذا الدليل بأن التصريح مطلوب في الواجبات الأصلية، ونحن لا ندعي ذلك، ولا نقول بوجوبها تبعا للواجب الأصلي، ولذلك لم يكن عدم التصريح بها دالا على عدم قصدها من الآمر.

واستدل أصحاب المذهب الرابع بأن الشرط إنما عرفت شرطيته من الشارع فقط، فكان عدم إيجابه بالخطاب الموجب للواجب بسبب غفلة المكلف عنه يتسبب بتركه، وتركه يؤدي إلى بطلان المشروط، فلزم من ذلك اعتباره واجبا بدليل الواجب، أما الشرط العقلي والعادي فلا يسبب عدم تعلق الخطاب به غفلة عنه، لأن الرابطة فيه عقلية أو عادية، وهما قائمتان دائما وتذكران بفعله، فلم يكن ثمة من ضرورة لتعلق الخطاب بهما، فلم يكن الخطاب دالا على وجوبهما.

لكن هذا الاستدلال ينقض بالسبب الشرعي، فإن الرابطة فيه بين السبب والمسبب ناتجة عن حكم الشرع أيضا، كالشرط الشرعي، مع أن أصحاب هذا المذهب لم يقولوا به، فكان مذهبهم منقوضا لذلك.

لهذا كله أرى رجحان مذهب الجمهور في اعتبار الخطاب الدال على الواجب بالمطابقة دالا على مقدمته بالالتزام، سواء أكانت سببا أو شرطا، شرعيا أو عقليا أو عاديا، وذلك لما ما تقدم من أداتهن.

المنــدوب:

تعريفـــه:

الندب في اللغة الدعاء إلى الفعل، والأصل أن يقال المندوب إليه، ولكن حذفت الصلة منه لفهم المعنى وكثرة الاستعمال(1).

والمندوب في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع فعله طلبا غير حتم، أو غير لازم، هذا من حيث دليله، وأما من حيث حكمه، فهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو ما يمدح فاعله ولا يذم في الشرع تاركه(2).

والمندوب عند الأصوليين يسمى سنة ويسمى تطوعاً، كما يسمى مستحباً، أحيانا فهذه الألفاظ الثلاثة مرادفه في الاصطلاح للمندوب عند الأصوليين، وتطلق كلها على معرَّف واحد(3).

أما الفقهاء، فإن المندوب عندهم أدنى من السنة المؤكدة، وقد يطلق على السنة غير المؤكدة فحسب، فلا يعتبر مرادفها للسنة عندهم.

أنواعــه:

للمندوب درجات ثلاثة يلي بعضها بعضاً من حيث قوة التأكد في الطلب، وهي(4):

1ـ المندوب المؤكد أو السنة المؤكدة: وهي الأعمال والأقوال التي واظب النبي  على أدائها مع التنبيه على عدم وجوبها لفظاً أو فعلا، وإن كان يتركها أحيانا، من ذلك ركعتا سنة الفجر، وركعتان بعد الظهر، وأربعا قبلها ـعند الحنفية- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فإنه لم يثبت عن النبي  أنه تركها إلا قليلاً.

2ـ المندوب غير المؤكد: وهو ما ثبت عن النبي  أنه فعله أحيانا دون أن يداوم عليه، كصلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر، وأربع قبل صلاة العشاء، وغيرها، فانه لم يثبت عن النبي  مواظبته على ذلك.

3ـ المندوب الزائد: ويقصد به الأفعال العادية والجبلية التي كان النبي  يفعلها بصفته البشرية لا بصفته التشريعية، من ذلك لون ملابسه ، ونوع طعامه، وطريقته في نومه، وطريقته في مشيته … فإنها إذا فعلت من المسلم بنية التأسي كانت عبادة مأجورا عليها وألحقت بالسنة غير المؤكدة في الحكم، وإذا فعلت منه لا على سبيل التأسي لم يكن له فيها أجر، لأنها أفعال عادية ليست مأمورا بها من الشارع مطلقاً، فتكون داخله في حد المباح، وهذا هو حكمه، ولكنها عند فعلها على سبيل التأسي تكون عبادة مأجوراً عليها لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)، ولما يدل عليه هذا الفعل من انقياد تام للنبي ، وبذلك يفترق عن السنة المؤكدة،حيث إن السنة المؤكدة مطلوبة من الشارع بالجملة بخلاف هذه، ولذلك فالأجر متحقق للمكلف بفعل الأولى دون نية التأسي، بخلاف الثانية، إذ لا يكون فيها أجر إلا بهذه النية.

طرق ثبوت المندوب:

يثبت المندوب بطلب فعله من الشارع طلباً غير حتم، أو غير لازم، وعدم الحتم هذا لابد من إقامة دليل عليه، لأن الطلب في أصله موضوع للوجوب، ولا ينحرف عنه إلا بقرينه واضحة، كما علم في الباب الواجب.

والقرائن الصارفة للطلب عن الإيجاب متنوعة، فمنها قرائن لفظية، ومنها قرائن غير لفظية، فالقرائن اللفظية ما كان مصرحاً بها في لفظ الأمر نفسه أوفي غيره، مثل قوله :(من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمه، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فإن قول النبي : (فالغسل أفضل) قرينة لفظية دالة على أن طلب النبي  الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للندب لا للوجوب.

ومن القرائن غير اللفظية قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور:33)، فإنه للندب، بدلالة القواعد الشرعية المتفق عليها لدى الفقهاء، القاضية بإطلاق يد المالك في ملكه، ومنها أيضا تنبيه النبي  لفظاً على عدم الوجوب، مع المواظبة على الفعل، كقوله : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، ومنها تركه  فعله في أكثر الأحيان، وغيره.

هل المندوب مأمور به؟

والكلام في طرق ثبوت الندب يضطرنا إلى الكلام على عد المندوب مأموراً به أولا، فقد اختلف في ذلك الأصوليون على مذهبين، هما:

1ـ مذهب جمهور الحنفية: وهو أن المندوب مأمور به مجازاً لا حقيقة.

2ـ مذهب جمهور الشافعية والقاضي الباقلاني ومعهم المالكية والحنبلية: وهو أن المندوب مأمور به حقيقة(1)، أي إن الأمر موضوع للوجوب والندب قصداً على وجه الاشتراك.

الأدلــــــة:

استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:

أ) الأمر حقيقة في قول: (افعل)، وافعل حقيقة في الإيجاب دون غيره، وعلى ذلك يكون الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يكون حقيقة في غيره وهو الندب.

ب) لو كان المندوب مأموراً به لكان تركه معصية، لأن فيه مخالفة الأمر، مع أن الاتفاق على عدم تأثيم تارك المندوب، فلا يكون مأموراً به لذلك.

ج) قول النبي : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)(2)، والسواك عند الوضوء مندوب بالاتفاق، وهو غير مأمور به بنص الحديث، فكان المندوب غير مأمور به لذلك.

واستدل الشافعية لمذهبهم:

أ) المندوب طاعة وعبادة من العبادات التي يثاب الإنسان على فعلها بالإجماع، والطاعة إنما هي الامتثال للأمر، فكان المندوب مأموراً به لذلك.

ب) أن أهل اللغة قسموا الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، وهو إقرار منهم بأن المندوب قسم من المأمور به، فيكون كذلك، لأن علم اللغة أحد مصادر علم الأصول كما تقدم.

مناقشة دليل الحنفية:

رد الشافعية على دليل الحنفية الأخير بأن نفي الرسول  الأمر في الحديث خاص بأمر الإيجاب دون غيره، ونحن معكم في نفي هذا الأمر، والمدعى غير ذلك، فلم يكن في الحديث دليل لكم.

مناقشة دليل الشافعية:

رد الحنفية على الدليل الأول، بأننا لا نسلم أن الطاعة إنما هي المأمور به فقط، بل هي فعل المأمور به والمندوب إليه، ذلك أنه لم يقم دليل على حصرها بذلك.

وردوا على الدليل الثاني، بأن علماء اللغة أدخلوا الإباحة في المأمور به أيضا، مع أنها ليست منه باتفاق جمهور الأصوليين، ولم يخالف في ذلك إلا الكعبي، فدل ذلك على أن إدخالهم المندوب في المأمور به اصطلاح لغوي صرف ليس فيه حجة علينا.

وردوا على جواب الشافعية عن الحديث الشريف بأن نفي الأمر جاء مطلقاً، فشمل كل أمر، ولا يجوز تقييده بأمر الإيجاب، لعدم ورود المقيد.

الترجيــح:

من استعراض ما تقدم من أدلة الطرفين ومناقشتها يتبين لنا أن مذهب الحنفية في اعتبار المندوب مأمورا به مجازاً لا حقيقة أرجح من مذهب الشافعية، فيكون الأمر حقيقة في الإيجاب فقط ولا يصرف عنه إلا لقرينه كما تقدم، فإذا توفرت القرينة الصارفة عن الإيجاب إلى الندب انصرف إليه، لأنه مجاز فيه، وعلى كل فالخلاف بين الأصوليين على النحو المتقدم يكاد يكون لفظياً فقط، ولا يترتب عليه كبير أهمية في تفريع الأحكام(1).

هل الندب تكليف؟

وهذه مسألة ثانية اختلف الأصوليون فيها، وهي اعتبار المندوب من أنواع التكليف أولا، إلى مذهبين:

أ) مذهب جماهير الأصوليين: وهو عدم اعتبار المندوب من أنواع التكليف.

ب) مذهب أبي اسحق الإسفرائيني: وهو اعتبار كل من المندوب والمباح من أنواع التكليف،

والحق في هذه المسألة لم يتجاوز رأي الجماهير في نظري، ذلك أن التكليف إنما هو طلب ما فيه كلفة وهي المشقة، والمشقة ليس المراد منها هنا إلا الإثم المترتب عليه عذاب الله تعالى، وليس في ترك المندوب عذاب ولا إثم بالاتفاق، ولذلك لم يكن من أنواع التكليف، إلا أن يقال إن الأستاذ أبا اسحق قصد الاعتقاد بالمندوب لا العمل به، والاعتقاد به تكليف بالاتفاق لتأثيم منكره، لكن في هذا تكلفا، ذلك أن المسألة المختلف فيها مسألة العمل بالمندوب فقط، أما الاعتقاد به فهو واجب لا مندوب، وهو غير المراد هنا(2).

حكمــــه:

اتفق الفقهاء والأصوليين على أن حكم المندوب الإثابة على فعله وعدم استحقاق العقاب من الله تعالى على تركه، بل إن الفارق بينه وبين الواجب هو ذلك، لكن الحنفية ذهبوا إلى أن تاركه يستحق العتاب من النبي  إذا كان مندوباً مؤكداً، فإذا لم يكن مؤكداً، أو كان زائداً، لم يستحق على تركه شيئا، هذا إذا لم يكن في تركه نوع استخفاف به، وإلا كان التارك آثما، لاستخفافه به لا لتركه له.

خاتمـــــة:

بعد الانتهاء من دراسة المندوب أرى أن من المستحسن ذكر ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات من أمرين هامين يتعلقان بمعنى المندوب والحكمة من تشريعه، وهما:

أ) أن المندوب يعتبر حارسا أمينا للواجب، وحمى له يصد عنه احتمالات الإهمال والتساهل، فقد نص الشاطبي على ذلك، فقال: (المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادما للواجب، لأنه إما مقدمة له، أو تذكير به، سواء كان من جنس الواجب أولا، فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها، والذي من غير جنسه، كالطهارة من الخبث في الجسد والثوب والمصلى(1)، والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني في الصيام، وما أشبه ذلك، فإذا كان ذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل)(2).

ب) عدم اللزوم أو الإلزام في الندب إنما هو باعتبار الأجزاء فقط، أما باعتبار الكل فلازم، مثل الأذان، فهو سنة في حق الصلاة، لا يستحق تاركه عليه العقاب، فإذا تركته الأمة كلها أثمت وحوربت عليه، لأنه في حق الكل لازم، خلافاً له في حق الأفراد (الأجزاء)، وقد نص الشاطبي على ذلك، فقال: (إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجباً بالكل، كالأذان في المساجد والجوامع و غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، وسنة الفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال عليه إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح ولا تقبل شهادته، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول  من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم، كما كان  لا يغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار، والنكاح لا يخفي ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك، فالترك له جملة مؤثر في إضعاف الدين إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور في الترك)(1).

حكم ترك النفل بعد الشروع به:

قدمنا في حكم النفل أنه يثاب فاعله ولا يذم ولا يعاقب في الشرع تاركه، ولكن هذا قبل الشروع به، أما بعد الشروع به، فهل يبقى حكمه كذلك؟ بمعنى أن لمن شرع فيه أن يتركه دون عقاب أو بدل؟

اختلف في ذلك الحنفية الشافعية على مذهبين:

أ) فذهب الحنفية إلى أن حكم ترك النفل لا عقاب عليه قبل الشروع فيه، فإذا شرع المكلف فيه تغير حكمه وأصبح لازما كالواجب، فلو نقضه بعد ذلك لزمه القضاء، لأنه بالشروع يتحول إلى الوجوب، وحكم ترك الواجب القضاء.

ب) وذهب الشافعية إلى أن المندوب لا يتغير حكمه بالشروع فيه، بل يبقى مندوباً بعد الشروع فيه أيضا، لا يلزم الشارع فيه بإتمامه، بل يجوز له نقضه دون قضاء.

الأدلــــة(2)

استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها:

أ‌) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33)، فإنه نهي والنهي للتحريم، فإذا ما تلبس بالمندوب فقد تلبس بالعمل، فوجب عليه إتمامه، فلم يكن له تركه للآية الكريمة السابقة.

ب) ما أداه الإنسان من المندوب صار لله تعالى فوجب صيانته، أي حفظه من الفساد والبطلان، ولا سبيل إلى هذه الصيانة إلا بلزوم الباقي، لأن العبادة المتلبس بها لا تصح بدون ذلك، فكان الإتمام لازما، مثله في ذلك مثل النذر، فإن مجرد اللفظ فيه ينقل العمل من مندوب أو مباح إلى واجب، فأولى أن ينقل الشروع ذلك إلى الواجب.

واستدل الشافعية لمذهبهم بالرد على دليل الحنفية الثاني:

فقالوا: نوافق على أن ما أداه الإنسان من المندوب صار لله تعالى، وإن ذلك لا يتم إلا بلزوم الباقي، ولكننا نخالفهم في الباقي، ونقول: إن إبطال ما صار لله تعالى جائز، لأن للإنسان أن لا يفعله أولا، فيكون له أن يبطله بعدد فعله، فلم يكن الإتمام لازما لذلك.

كما ردوا على دليل الحنفية الأول بأن النهي هنا لم يتعين للتحريم، كما أنه لم يتعين للأعمال مندوبة، فوجب حمله على الواجبات توفيقاً بين الأدلة، ولذلك لم يبق فيه حجة للحنفية.

الترجيـــح:

والراجح عندي في هذا مذهب الحنفية لصحة القياس على النذر، فإن الشروع إن لم يكن أقوى من النية فلا أقل من أن يكون مثلها في الحكم، ولكن ينبغي الانتباه هنا إلى أن الشروع في النفل يجب أن يكون قصداً، فلو شرع في النقل على وجه لا يقصده، كأن شرع في صلاة الظهر ثم تذكر فيها أنه صلاها سابقا، فإن صلاته هذه تكون نفلا غير مقصود، وهذا لا يجب إتمامه بالاتفاق، ويجوز نقضه من غير قضاء، لعدم وجود قصد التنفل فيه.

الحرام

تعريفــــه:

الحرام في اللغة يطلق على الشيء الممتنع فعله مطلقا، لدليل شرعي أو غيره، كما يطلق على ما لا يحل انتهاكه شرعاً(1).

والحرام في اصطلاح الأصوليين: ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم واللزوم، أو هو ما يثيب الشارع فاعله على تركه ويعاقبه على فعله(2، فهو لذلك نقيض الواجب تماماً.

أنواعـــه:

يقسم الحرام إلى أنواع متعددة من حيثيات متفاوتة، أهمها:

أ) من حيث الدليل المثبت له: فقد ذهب الحنفية إلى تقسيمه إلى قسمين:

1ـ قسم ثابت بدليل قطعي الثبوت والدلالة، ويسمى الحرام عندهم.

2ـ وقسم ثابت بدليل ظني الثبوت أو الدلالة، ويسمى المكروه تحريماً.

وذلك جريا على قولهم في الواجب، حيث قسموه إلى فرض وواجب، من حيث الدليل المثبت له، فكذلك هنا، فيكون الحرام مقابلا للفرض، والمكروه تحريما مقابلاً للواجب عندهم.

أما جمهور الفقهاء، فقد عدوا الحرام من هذه الحيثية قسما واحداً، ولم ينظروا إلى الدليل المثبت له، قطعياً كان أو ظنياً.

وقد علقنا على هذا التقسيم في أول مبحث الحكم بما فيه الكفاية.

ب‌) من حيث تعلقه بالماهية(2): اختلف الأصوليون في تقسيم الحرام من حيث تعلقه بالماهية.

فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه على قسمين:

1ـ حرام لذاته أو لعينه: وهو ما تعلقت الحرمة فيه بذات المحل، كالميتة في حق الأكل، والخمرة في حق الشرب، والمجوسية في حق التزوج بها، فإن التحريم في الخمرة ثبت لخمريتها، وفي الميتة لأنها ميتة، وفي المجوسية لتمجسها، لا لشيء آخر.

2ـ حرام لغيره: وهو ما تعلقت الحرمة فيه لا بذات المحل بل بصفة عارضة من صفاته، كالربا، والجمع بين الأختين، والبيع عند صلاة الجمعة، وغيرها، فإن التحريم ليس متعلقاً بذات البيع في الربا، ولا بذات الأختين في الجمع، ولا بذات البيع عند صلاة الجمعة، بل هو متعلق بشرط الزيادة في الربا، وبقطع الرحم في الجمع بين الأختين، وبترك السعي للجمعة في البيع.

أما الحنبلية فقد ذهبوا إلى أن الحرام من هذه الحيثية شيء واحد فقط، وسواء عندهم تعلق الحكم بذات المحل أو بصفة عارضة من صفاته.

ثم إن الحنفية فرقوا في الحرام لغيره، وقسموه إلى قسمين هما:

1ـ حرام لغيره تعلقت الحرمة فيه بصفة عارضة جوهرية من صفاته، كالربا، والجمع بين الأختين.

2ـ وحرام لغيره تعلقت الحرمة فيه بصفة عارضة من صفاته، ولكنها غير جوهرية، كالبيع عند صلاة الجمعة.

وذلك خلافا للجمهور الذين جعلوا ذلك قسما واحداً.

أثر هذا التقسيم:

ولتقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، أثر كبير في صحة العقود وكل التصرفات التي تترتب آثارها بحكم الشارع، وتعلق التحريم بها، وذلك من ناحيتين:

أ) من ناحية حكم العقد أو التصرف الذي تعلق التحريم به:

فقد ذهب العلماء الذين فرقوا بين الحرام لغيره والحرام لذاته إلى أن الحرام لذاته يفيد بطلان العقد الذي تعلق التحريم به، لأن هذا التحريم يدل على عدم صلاحية المحل للحكم أصلا، مثل الزواج بالمجوسية، فانه باطل، حيث حرم الزواج بها لذاتها، ومعنى بطلان الحكم انعدام العقد بتاتاً، وعدم ترتيب أي حكم عليه من قبل الشارع.

أما الحرام لغيره، فإن كان التحريم فيه متعلقاً بصفة جوهرية، فالأثر هو فساد العقد لا بطلانه، والفساد عند الحنفية مرتبة بين البطلان والكراهة، لأن العقد الفاسد منعقد بالجملة بخلاف الباطل، فهو غير منعقد أصلا(1).

وإذا كان الحرام لغيره متعلقا بصفة عارضة جوهرية كان أثره الكراهة فقط دون البطلان أو الفساد.

وهذا كله عند الحنفية، أما الجمهور، فإنهم يسوون بين الفساد والبطلان، فيجعلون التصرف الحرام لذاته والحرام لغيره الذي انصب التحريم فيه على صفة غير جوهرية، باطلا وهو الفاسد عندهم، لاشتراكهما في المعنى، أما إذا انصب التحريم فيه على صفة غير جوهرية، فأثره الكراهة فقط كما عند الحنفية تماما.

وأما الحنبلية الذين لا يفرقون بين الحرام لذاته والحرام لغيره مطلقاً، فيجعلون أثره التحريم والبطلان مطلقاً في كل أقسامه(1)

ب) من ناحية جواز استباحة المحرم في بعض الحالات، فقد ذهب العلماء إلى أن الحرام لذاته لا يباح إلا للضروريات فقط، بخلاف الحرام لغيره، فإنه يباح للضروريات والحاجيات معاً(2)، كالخمرة فإنها حرام لذاتها، ولذلك لا تباح إلا في حالة خوف الهلاك، لأنها ضرورة، أما كشف العورة، فإنها حرام لغيرها، وهو ما فيها من الفتنة وتسهيل الزنا، ولذلك تباح للضرورة ولما هو أدنى منها من الحاجيات، حتى إنها تباح في سبيل الاستشفاء للطبيب والقابلة وغيرهما، وهو من الحاجيات إذا لم يكن الغرض يتحقق منه هلاك، فإن تحقق منه الهلاك كان ضرورياً(3).

ج) من حيث تعين المراد به أو عدم تعينه به:

قدمنا في مبحث الواجب أنه ينقسم إلى معين ومخيَّر، وكذلك الحرام أيضاً، فإن جمهور الأصوليون -خلافاً للمعتزلة- يفرضون هذا الاحتمال فيه، فيقولون: يمكن عقلا أن يكون الحرام منصبا على كل شيء محدد وهو الأصل، كما يمكن أن ينصب على أحد أشياء متعددة على سبيل البدل، كأن يقول الشارع: (حرمت واحدا من هذين الشيئين)، فيكون معناه حرمة الجمع بينهما في الفعل، لا حرمة إفراد واحد منهما بالفعل، فلو فعل واحدا منهما لا على التعيين حرم عليه فعل الآخر مطلقاً في أي وقت كان.

لكن بعض الفقهاء أشاروا إلى أن هذا مجرد افتراض عقلي لم يثبت وجوده شرعا، وأنه لا يصح التمثيل له بتحريم النبي  الجمع بين العمة والخالة، وكل من بنت أخيها أو بنت أختها، لأن الجمع المحرم إنما هو الجمع في وقت واحد لا مطلق الجمع، فإذا اختلف الوقت بأن تزوج العمة أو الخالة ثم طلقها وتزوج بنت الأخ أو الأخت بعد ذلك صح زواجه الثاني كما صح الزواج الأول في حينه، والمدعى هو الجمع مطلقا.

حكم الحــرام:

حكم الحرام هو الإثابة على ترك المحرم والعقوبة على فعله، على عكس الواجب تماما، وذلك الحكم ملحوظ في تعريف الحرام السابق، وهو قولنا: (ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله).

وبهذا نكون قد انتهينا من بحث الحرام كما كنا قد انتهينا قبله من بحثي الواجب والمندوب.

وقبل أن ننتقل إلى بحث المكروه نتعرض لنقاط عدة ومسائل تتعلق بمبحثي الواجب والحرام معا، أهمها:

- مسألة إمكان تعلق الوجوب والحرمة بالشيء الواحد، هذه المسألة بحثها الأصوليون واختلفوا فيها على مذاهب، ولكننا قبل بيان هذه المذاهب سوف نوضح معنى المسألة وموطن الاختلاف فيها.

فقد تبين من دراسة كل من تعريفي الواجب والحرام أنهما متضادان، وبدهي أن الضدين لا يجتمعان في الشيء الواحد، ولكننا مع ذلك نرى الأصوليين يبحثون هذه المسألة ويختلفون فيها على مذاهب كما سوف نرى، ومثار اختلافهم ليس إمكان اجتماع الضدين في الواحد أو عدمه، فانه مسلم بامتناعه من الجميع، ولكن مثار اختلافهم هو معنى الواحد ووجوهه، فإن الواحد يكون واحداً بالنوع أو الجنس، وقد يكون واحداً بالعدد، ثم إن كلا منهما قد تتعدد صفاته أو إضافاته أو لا تتعدد.

فأما الواحد بالنوع أو الجنس، وهو ما يضم تحته أشخاصاً أو أفراداً متعددة، فقد ذهب جمهور الأصوليين إلى إمكان تعلق الأمر والنهي به، أو الوجوب والحرمة معا، وذلك من حيث تعدد أفراده، فيتعلق الوجوب بواحد من أفراده كما يتعلق التحريم بواحد آخر، مثل السجود، فإنه يكون لله كما يكون لغيره، فما كان لله يكون واجباً، وما كان لغيره يكون حراماً، فيعتبر هنا تعدد الأفراد للنوع الواحد بمثابة تعدد الأنواع، فيكون متعلق الوجوب هو غير متعلق التحريم، فيجوز.

وقد خالف في ذلك بعض المعتزلة، وقالوا بعدم تعلق الوجوب والحرمة في الواحد بالنوع مطلقاً، وقالوا إن السجود واجب ولا يمكن أن يكون حراماً للتناقض، وأجابوا عن السجود لغير الله تعالى بأنه حرام لا لنفس السجود بل لما فيه من قصد تعظيم غير الله تعالى.

والصحيح رأي الجمهور، لأن الواحد بالنوع كما تقدم تختلف أفراده فيكون ذلك بمثابة تغير الواحد نفسه، فلم يوجد التناقض فيصح، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله جل من قائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37)، ثم إن الإجماع منعقد على أن الساجد للشمس

عاص بنفس السجود والقصد جميعاً(1).

وأما الواحد بالعدد، أو الواحد بالتعيين، وهو مالا يكون تحته أفراد متعددة، كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهو على قسمين:

أ) قسم له أكثر من جهة، كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهي عبادة من جهة كونها صلاة، وغصب من جهة كونها مكثاً في أرض مغصوبة.

ب) وقسم ليس له إلا جهة واحدة، كفرضية صوم رمضان على من استجمع شرائط التكليف وخلي عن أي مانع أو رخصة.

فأما القسم الثاني فقد اتفق الأصوليون على عدم جواز تعلق الإيجاب والتحريم فيه معاً للتناقض،

وأما القسم الأول فقد اختلف الأصوليون فيه على ثلاثة مذاهب:

- فقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك جائز، لأن تعدد الجهات كتعدد الأفراد تماماً، فيتعلق الإيجاب بجهة، ويتعلق التحريم بجهة أخرى، فينتفي التناقض، وعلى ذلك تكون الصلاة في الأرض المغصوبة مطلوبة محرمة في آن واحد، فهي مطلوبة صحيحة من حيث كونها مستكملة للأركان والشروط، ومحرمة من حيث كونها مكثاً في أرض مغصوبة، إذ لا ارتباط بين هاتين الجهتين، فإن الغصب والمكث ممكن بدون الصلاة، والصلاة ممكنة بدون الغصب، فيصح.

- وقد ذهب الحنبلية والمتكلمون والجبائي والروافض إلى عدم جواز ذلك بتاتا، ولا عبرة عندهم بتعدد الجبهة ما دام واحدا معينا بالشخص، ولذلك قالوا ببطلان الصلاة في الأرض المغصوبة.

- وذهب القاضي أبو بكر إلى مذهب وسط بين الإثنين، فقال: إن الواجب يتأدى عند فعل تلك الصلاة لا بها، لتعلق التحريم فيها، لكنه كما يبدوا لكل دارس قول متناقض وغير مستقيم، وهو محاولة للتوفيق بين الرأيين غير ناجحة، لأن الصلاة إما أن تعد صحيحة فيتأدى بها الواجب، وإما أن تعد باطلة فلا يتأدى بها الواجب، ولا وسط بين القولين.

الأدلـــة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة كثيرة، منها:

1- بأن العقل يقطع بطاعة من أمر بخياطة الثوب ونهي عن السكن في مكان معين فخاط الثوب في المكان المنهي عنه، ذلك أنه مطيع في الخياطة عاص في السكن، وكلتا الجهتين منفصلة عن الأخرى متصورة بدونها، فإن الخياطة ممكنة خارج الدار، والسكنى في الدار ممكنة بدون الخياطة.

2- بأن الصلاة في الأرض المغصوبة لو لم تكن صحيحة لكان سبب ذلك تعلق الأمر والنهي في شيء واحد، إذ لا طريق إلى عدم تصحيحها غيره، مع أن المتعلَّق مختلف، إذ متعلق الأمر الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وهما مختلفان، فلم تكن باطلة لذلك.

3- الاتفاق قائم على صحة الصوم في كثير من الأيام المكروهة، والصلاة في كثير من الأوقات المكروهة، مع أن النهي تعلق بها من حيث الوقت، فكان ذلك دليلا على جواز تعلق الأمر والنهي في الشيء الواحد إذا تعددت جهته.

4- بإجماع المسلمين على عدم تكليف الظلمة والمغتصبين بإعادة الصلاة، مع أن الظلم عم في كثير من العصور الإسلامية، فيعد ذلك دليلا على صحة هذه الصلاة، وإلا لأمرهم العلماء بإعادتها، ولبلغنا ذلك عنهم لكثرة الدواعي، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فكان إجماعا على صحة هذه الصلاة.

واستدل الحنبلية والمتكلمون لمذهبهم بأدلة متعددة ناقشوا بها الجمهور على النحو التالي:

1- بأننا لا نسلم بأن من أُمر بالخياطة ونُهى عن للسكنى فخاط في المسكن المنهي عنه يسمى مطيعا، بل هو عاص للأمر، لأن المصلحة التي بني عليها الآمر أمره ونهيه اقتضت الخياطة في غير المكان الممنوع، فلما حصلت الخياطة في المكان المنهي عنه فاتت المصلحة، فلم يصح وصف فعله بالطاعة أصلا، بل هو عصيان، إذ هو في معنى قوله: خط الثوب في غير المكان الفلاني، فلما لم يحصل كان عمله عصيانا صرفا.

2- بأننا لا نسلم باختلاف متعلق الأمر والنهي باختلاف الجهة للفعل، فإن الفعل واحد والأمر والنهي متعلقان به، فلم يفده تعدد الجبهة شيئا، فتكون الصلاة في المثال السابق ذاتها مطلوبة منهيا عنها في آن واحد، وهو محال.

3- وأما صحة الصوم والصلاة في الأيام المكروهة التي ورد فيها نهي، فإننا لا نسلم به ونقول ببطلانه، وعلى ذلك جمهور من الفقهاء، بل الجماهير، حيث إنهم لم يختلفوا إلا في بعض التفصيلات مما لا يتأثر به المبدأ.

4- وأما ادعاء الإجماع فهو غير مسلم لأمور عدة، أهمها:

- الإمام أحمد خالف في هذا الأمر، ولو كان الإجماع منعقدا على ذلك لعلمه والتزم به.

- على التسليم به هو إجماع سكوتي، وهو غير مسلم بحجيته، وإن سلم فهو حجة ظنية غير قاطعة(1).

الترجيــح:

من استعراض حجج الفريقين ومناقشتها على الوجه المتقدم يبدوا لنا رجحان رأي الجمهور في صحة تعلق الإيجاب والقبول في الواحد بالجنس أو النوع، وفي الواحد بالشخص أيضا إذا تعددت جهاته، أما الواحد بالشخص المتحد الجبهة فلا يصح تعلق الإيجاب والقبول به معا للتناقض، وذلك للأدلة السابقة، وللضرورة التي تقضي بذلك، وإلا وقعنا في الحرج والمشقة لإفساد كثير من العقود التي تقع بعض المخالفات فيها لأمر الشارع، وفي ذلك مشقة بالغة بالأمة وحرج كبير، لعموم الجهل في بعض الأحكام الشرعية، وعدم الانتباه إلى المنهيات الشرعية، والحرج مرفوع عن الأمة الإسلامية.

مسألة حكم الأمر والنهي في ضدهما: هذه من المسائل الشائكة التي اختلف فيها الأصوليون على أقوال متعددة، ولا بد قبل الخوض في توضيح هذه الأقوال وبيان أدلتها من توضيح محل الاختلاف، فإن هناك جوانب كثيرة من هذه المسألة هي محل اتفاق فلا داعي إلى بحثها، ثم لا بد من بيان معنى الضد والفرق بينه وبين النقيض.

محل النزاع في المسألة ومعنى الضدين:

الضدان هما الأمران اللذان لا يجتمعان معا، وقد يرتفعان معا، كالسواد والبياض، فإن العقل لا يجيز اجتماعهما معا في الشيء الواحد، وإن كان يجيز ارتفاعهما معا من الشيء الواحد، كحلول الزرقة أو الصفرة أو غيرها في هذا المثال، بخلاف ما لو أحال العقل ارتفاعهما واجتماعهما معا، كالوجود والعدم، والحركة والسكون، فإنهما يسميان بالنقيضين لا بالضدين(1).

ثم إن الأمر والنهي إنما يطلقان على اللفظ والمعنى، فأما لفظ الأمر وهو (افعل) ولفظ النهي وهو (لا تفعل) المجردين فليسا مرادين في هذا الاختلاف، إذ الاتفاق قائم على أن لا علاقة لواحد منهما في نفي ضد الثاني من حيث اللفظ.

وكذلك مفهوم الأمر والنهي، فإنه غير مراد أيضا في هذا الاختلاف، لأنه يختلف باعتبار الإضافة، فإن الأمر مضاف إلى الفعل والنهي مضاف إلى ضده.

أما معنى الأمر والنهي وهو المعنى القائم في النفس حين إصدار الأمر أو النهي، فهو محل النزاع، وقد انقسم الأصوليون فيه إلى مذاهب عدة، ومثاله من قال لغيره: (اقعد) أيكون بمعنى قوله (لا تقم) تماما؟ على أن الأصوليين اتفقوا في كثير من نقاط هذا القسم أيضا.

ذلك أن الأمر قد يأتي نهي صريح بضده، فعندها يكون الضد محرما ومنهيا عنه بالاتفاق لهذا الدليل الخاص به لا لأنه ضد الأمر، مثال ذلك قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض) فإن ضده قربانهن، وقد جاء النهي عنه بقوله تعالى: (ولا تقربوهن) فكان تحريم القربان للدليل الخاص به وليس لأنه ضد الاعتزال، فهذا محل اتفاق لدى الفقهاء والأصوليين.

ثم إنه قد يكون للمأمور به ضد واحد فقط ليس له غيره، كالأمر بالإيمان، فإن له ضدا واحدا وهو الكفر، فيكون منهيا عنه باتفاق الفقهاء، ولا يكون هذا من محل النزاع أيضا.

فإذا كان للمأمور به أضداد متعددة، فهو محل النزاع، وقد انقسم فيه الأصوليون إلى مذاهب عدة أهمـها وأشهرهــا:

1- مذهب الإمامين الأشعري والباقلاني وبعض المعتزلة: وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي عن شيء فهو أمر بضده أيضا، سواء أكان هذا الأمر أمر إيجاب أو أمر ندب، أو كان النهي عنه نهي تحريم أو نهي كراهة، فإذا كان أمر إيجاب كان النهي عن ضده للتحريم، وإذا كان أمر ندب كان النهي عن ضده للكراهة، وكذلك النهي؛ إن كان للتحريم كان الأمر بضده للإيجاب، وإذا كان للكراهة كان الأمر بضده للندب، ويستوي في هذه الحال أن يكون الضد واحدا أو متعددا، ويكون في هذه الحال نهيا عن الأضداد كلها، أو أمرا بها كلها، وهذا المذهب هو الراجح لدى جمهور الأصوليين.

2- مذهب الغزالي وإمام الحرمين والمعتزلة، والمختار عند ابن الحاجب، وهو أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وكذلك النهي عن شيء ليس أمرا بضده، بل إن الضد مسكوت عنه فلا يشمله هذا الدليل، لا باللفظ ولا بالتضمن ولا بالالتزام.

هذا مع الإشارة إلى أن الإمام الغزالي يقصر هذا البحث على ما هو من أمر العباد ونهيهم فقط، أما أمر الله تعالى ونهيه فلا يتصور فيه الضد مطلقا عنده، بل لا يصح فرضه بحال، خلافا لجماهير الفقهاء الذين يتصورون المسألة في أمر الله تعالى وأمر غيره على حد سواء، وكذلك في نهيهم أيضا.

3- مذهب جماعة من الأصوليين، وهو التفريق بين أمر الإيجاب وأمر الندب، فأمر الإيجاب منهي عن ضد المأمور به، أما أمر الندب فليس منهيا عن ضده، وكذلك النهي إذا كان للتحريم فإنه يكون أمرا بضده، وإذا كان للكراهة لم يكن أمرا بضده.

4- مذهب بعض الحنفية، وهو أن الأمر إذا كان للإيجاب وقد فوت ضده المأمور به كان ضده منهيا عنه نهي تحريم، فإذا لم يفوت ضده المأمور به كان هذا الضد منهيا عنه نهي كراهة فقط، وكذلك الحال في النهي، إن كان ضده يفوِّت المنهي عنه كان مأمورا به للإيجاب، وإلا كان للندب فقط.

فمثال الأول، قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فإنه أمر للتربص وجوبا، ولا يحصل التربص إلا بالامتناع عن الزواج، فكان التزوج حراما لذلك، وكذلك قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)، فإنه نهى لا يتم إلا بإظهار ما في أرحامهن، فكان الإظهار واجبا لذلك.

ومثال الثاني الذي لا يفوت ضد المأمور به أو المنهي عنه الغرض المقصود من الأمر أو النهي قوله  في حديث أبي هريرة للمسيء صلاته: (ثم ارفع حتى تعتدل قائما) فإن هذا الأمر لا يدل على تحريم القعود، لأن القعود لا يفوت القيام، لإمكان الجمع بينهما متعاقبين، فكان القعود في وقت القيام مكروها فقط لذلك، ولو فرض القيام لازما في وقت محدد لا يتجاوزه لكان القعود في مكانه محرما لا مكروها فقط، لدخوله في القسم الأول، وكذلك نهي المحرم عن لبس المخيط وقت الإحرام، فإن انعدام ضده وهو لبس الإزار والرداء ليس مفوتا للمنهي عنه، لأن النهي يتحقق بلبس الإزار والرداء كما يتحقق بالخلع مطلقا، ولذلك كان لبس الإزار والرداء سنة لا واجبا(1).

وهذا المذهب هو الراجح لدى صاحب التوضيح من الحنفية.

5- مذهب بعض الأصوليين، وهو أن الأمر يستلزم النهي عن ضده، دون العكس، فإن النهي لا يستلزم الأمر بضده.

الأدلة ومناقشتهـــا:

1- استدل صاحب المذهب الأول بأن الأمر بالشيء لا يتحقق إلا بالكف عن الضد، فكان الحكم بالنهي عنه ضروريا لتحقيق معنى الأمر، وكذلك النهي عن الشيء لا يتحقق إلا بفعل ضده، فكان مأمورا به لذلك.

وعلى قول هذا المذهب فإنه إذا كان المأمور به له ضد واحد كان هذا الضد منهيا عنه على اليقين، لأن المأمور به لا يوجد إلا بذلك، وكذلك إذا كان له أضداد متعددة، فإنها جميعها منهي عنها لضرورة تحقق المأمور به، لأنه لا يتحقق إلا بذلك.

أما المنهي عنه فإن كان له ضد واحد، كان هذا الضد مأمورا به على اليقين، أما إذا كان له أضداد متعددة، فإن الأمر بالضد يكون أمرا مخيرا بينها، لأن النهي يتحقق بواحد منها فقط لا على التعيين(2).

أ‌- 2- استدل أصحاب المذهب الثاني بأن جعل الأمر بالشيء نهيا عن ضده حكم على الأمر ضمنا بتصور الضد وقت الأمر، وإلا لم يجز اعتباره نهيا عن الضد، وهذا باطل، إذ يتصور كثيرا أن يأمر إنسان بأمر وهو ذاهل أو جاهل بأضداده، وكذلك قد ينهى عن شيء وهو ذاهل عن أضداده، ولا يجوز بحال اعتباره ناهيا أو آمرا بالضد وهو ذاهل عنه(1). 3- واستدل أصحاب المذهب الثالث بما يأتي:

أ - إن الأمر إذا كان للوجوب استلزم الذم على الترك، لأن ذلك هو تعريف الواجب، فيكون ضد المأمور به محرما لهذا الذم، أما إذا كان الأمر للندب فإنه لا يستلزم الذم على الترك، لأن هذا هو حد المندوب، فلا يكون ضده ممنوعا على التحريم ولا على الكراهة لذلك(2).

ب - إن أوامر الندب كثيرة في الشرع، وهي تستغرق كل الأوقات تقريبا، فلو استلزمت كراهة أضدادها لسد بذلك باب المباح، وهو ممنوع لوجود المباح بالنصوص الكثيرة، بخلاف أوامر الإيجاب، فمحدودة معدودة لا تستغرق إلا جزءا من الوقت فقط، ولذلك لا تغلق باب الإباحة بحال، فافترقا في حكم الضد لذلك.

4- واستدل أصحاب الرأي الرابع وهم بعض الحنفية لمذهبهم، بأن الضد غير مقصود بالأمر أو النهي ظاهرا، ولذلك فإنه لا يعتبر مدلولا عليه بهذا الأمر أو النهي إلا من حيث تفويته للمقصود منها، فإذا فوته جعلناه كالمقصود بالأمر والنهي في الحكم، فأثبتنا له الوجوب والحرمة، وإذا لم يفوته جعلناه مندوبا أو مكروها فقط، ملاحظة لظاهر الأمر والنهي، أي إننا ننزل به عن التحريم إلى الكراهة، وعن الوجوب إلى الندب، لما طرأ على قصده وعده مشمولا بالأمر أو النهي من شبهة، لأن الوجوب والحرمة لا يثبتان مع الشبهة(3).

5- أما أصحاب الرأي الخامس فقد استدلوا لمذهبهم بدليلين:

أ‌- أن النهي طلب نفس الفعل لا طلب الكف عنه الذي هو ضد الأمر، فلا يكون أمرا بالضد.

ب‌- أنه لو استلزم النهي عن الشيء الأمر بضده لأدى طرده إلى أن يكون النهي عنه مأمورا به، كما في النهي عن الزنا(4).

الترجيح والاختيــار:

بعد استعراض ما تقدم من الآراء والأدلة أرى أن الأرجح من هذه الأقوال هو القول الرابع، وهو مذهب بعض الحنفية، من أن الأمر أو النهي إذا تعدد ضدهما وتوقف عليه وجودا أو عدما تحقق المأمور به أو المنهي عنه فإنه يعتبر الأمر بالشيء نهيا عن ضده، و النهي عن الشيء أمرا بضده، إلا إنني أخالفهم في أن الضد إذا لم يفوت المقصود من الأمر والنهي يكون مكروها أو سنة، فأقول، الأمر هنا لا عمل له في ضده، وكذلك النهي، لأننا قلنا بالأول استلزاما ولا استلزام هنا.

- هذا وإنني أرى أن مما يدعم هذا الرأي الذي ذهبت إليه قول الأصوليين: (إن ما توقف عليه حصول الواجب فهو واجب) ذلك أن الواجب المدلول عليه بالأمر هنا متوقف على عدم الضد، فكان هنا واجبا لذلك، وأما رد الغزالي رحمه الله تعالى على ذلك، بأنه لم يقم الدليل على أن ما توقف عليه حصول الواجب فهو واجب بنفس دليل الواجب الأول، بل لا بد له من دليل جديد، فإني أقول فيه: إن الأصل حصوله بالدليل الأول نفسه بطريق الالتزام، وقد أشرنا في مبحث مقدمة الواجب أنه هو الأرجح، وأنه مذهب جمهور

- الفقهاء(1).

المكـــــروه

تعريفه وأقسامــه:

المكروه في اللغة ضد المحبوب وهو من باب تعب(2).

وهو في اصطلاح الأصوليين: (ما طلب الشارع الكف عنه طلبا غير جازم) أو هو (ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله).

هذا عند جمهور الأصوليين، حيث هو قسم واحد عندهم يقابل المندوب.

وذهب الحنفية إلى أن المكروه قسمان: مكروه تنزيها، ومكروه تحريما، فالمكروه تنزيها هو ما سبق تعريفه لدى الجمهور، أما المكروه تحريما فهو: (ما طلب الشارع الكف عنه بجزم بدليل ظني فيه شبهة)، فيكون بذلك مقابلا للواجب عندهم، لأنهم يقسمون الواجب – كما سبق – إلى قسمين:

1- ما ثبت الأمر به عن الشارع بجزم وكان دليله قطعيا ويسمى فرضا.

2- ما ثبت الأمر به عن الشارع بجزم وكان دليله ظنيا ويسمى واجبا.

فكذلك هنا قسموا المنهي عنه بجزم إلى هذين القسمين، بحسب قطعية أو ظنية الدليل المثبت له، فسموا ما ثبت منه بدليل قطعي حراما، وما ثبت بدليل ظني مكروها كراهة تحريم، أما ما ثبت النهي عنه بغير جزم فهو المكروه تنزيها، وهو مقابل للمندوب عندهم جريا مع رأي الجمهور(1).

حكمــــه:

حكم المكروه (أنه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله) بعكس المندوب تماما، وهذا عند الجمهور، أما الحنفية الذين يقسمون المكروه إلى القسمين السابقين فقالوا: المكروه تنزيها حكمه الإثابة على تركه وعدم المعاقبة على فعله، ويعبرون عن هذا المعنى بقولهم: (إلى الحل أقرب) ويقصدون بذلك أنه يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار، كحرمان الشفاعة، بدليل قوله : (من ترك سنتي لم ينل شفاعتي) هذا إذا كان تركا لسنة مؤكدة، إذ السنة غير المؤكدة لا عتاب ولا حرمان من الشفاعة في تركها عندهم.

أما المكروه تحريما، فحكمه الإثابة على تركه والمعاقبة على فعله بما هو دون عقاب الحرام، وهو ما يعبر عنه الحنفية بقولهم: (إلى الحرام أقرب)، وهو مذهب الشيخين، وذهب محمد بن الحسن إلى أن المكروه تحريما هو الحرام نفسه، ولا فارق بينهما إلا من حيث الدليل المثبت لهما فقط، إذ الأول ثبت بدليل ظني والثاني ثبت بدليل قطعي، وهذا لا يقتضي التفريق بينهما في الحكم(2).

هل المكروه منهـي عنـه؟ :

اختلف الفقهاء في التكييف الأصولي للمكروه، أيعتبر منهيا عنه أو لا، وذلك بناء على اختلافهم في المندوب، أيعتبر مأمورا به أو لا.

وقد بينا في مبحث المندوب مذاهب الفقهاء فيه، فلا داعي هنا لإعادتها، هذا بالنسبة للمكروه عند الجمهور، وهو ما ينطبق على المكروه تنزيها عند الحنفية، أما المكروه تحريما عند الحنفية فهو منهي عنه، لأنه شعبة من الحرام(4).

أدلة ثبوت الكراهــة:

تثبت الكراهة بكل ما يقابل ثبوت المندوب، فتثبت بالنهي المقترن بما يصرف النهي عن الحرمة، إذ هو أصل فيها، كما تثبت بغيره من الصيغ الدالة على النهي غير الجازم، كأن يكون النهي متعلقا بصفة غير جوهرية من صفات المنهي عنه، مثل النهي عن البيع وقت صلاة الجمعة، فإنه مكروه لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله تعالى وذروا البيع)، فإن النهي هنا متعلق بترك تلبية النداء، وهي صفة طارئة غير جوهرية من صفات البيع، ولذلك فهي تدل على الكراهة فقط دون الحرمة، وغير ذلك من الصيغ التي فصلناها في باب المندوب.

المبــــاح

تعريفـــه:

باح يبوح في اللغة من باب قال بمعنى ظهر، وهو ثلاثي يتعدى بالهمزة، فيقال: أباح له المال أي أذن له بأخذه، كما يتعدى بحرف الجر، فيقال: باح به أي أظهره لغيره(2).

والمباح في اصطلاح الأصوليين: (ما خيَّر الشارع فيه المكلف بين الفعل والترك)، أو هو (ما لا يعاقب تاركه ولا يثاب فاعله)(3)، ويقال له الحلال أو الجائز أحيانا، وهذا التمييز إنما ثبت عن الشارع لتساوي جانبي النفع والضرر في الشيء، ذلك أن الله تعالى لم يأمرنا إلا بما فيه نفع غالب، كالصلاة والصوم والوفاء بالعقود وسائر الواجبات الأخرى، ولم ينهنا عن شيء إلا فيه ضرر غالب، كالنهي عن الخمر والميسر ولحم الخنزير والكذب وسوء الأمانة وسائر المنهيات الأخرى، فأما ما يتساوى فيه النفع والضرر، كأنواع المأكولات وأنواع اللعب غير المؤذي للخُلُق والبدن وغيرها فإنه مباح، ذلك أن القسمة العقلية في الشيء تقتضيه أن يكون أحد هذه الأشياء الثلاثة: أن يكون نفعه غالبا، فيكون واجبا أو مندوبا، أو ضرره غالبا فيكون حراما أو مكروها، أو يتساوى نفعه وضرره فيكون مباحا.

طرق ثبوت الإباحــة:

تثبت الإباحة بطرق ثلاثة، هي:

1- بنفي الإثم عن الشيء، مثل قوله تعالى: (ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه) وقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)، وكذلك ما في معنى نفي الإثم من نفي الجُناح أو غيره، كقوله تعالى: (ولا جناح عليها فيما افتدت به) وقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا …).

2- بالنص على الحل دون الأمر بالفعل، مثل قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم …) وقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم).

3- بترك النص على الحكم مطلقا إن أمرا أو نهيا، مثل المشي في الشارع العام، ولبس أنواع اللباس المتعددة التي لم يرد فيها نهي عن الشارع(1).

وينبغي هنا الانتباه إلى أن الإباحة إنما هي مقصورة على الجزء فقط دون الكل، إذ الكل لا يخلو من الأحكام الأربعة، وهي: الوجوب والندب والكراهة والتحريم فقط، وبذلك يكون المباح خادما لأولئك الأقسام الأربعة ومكملا لها.

فهو إما خادم للأمر المطلوب الفعل، واجبا كان أو مندوبا، أو خادم لما هو المطلوب الترك حراما كان أو مكروها.

فمثال الأول المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل التمتع بالمأكولات الحلال والملبوسات الحلال وغيرها، فإنه مباح من حيث أجزاء الطعام واللباس، أما من حيث كله، فهو واجب أو مندوب بحسب الضرورة إليه، حفاظا على النفس ودفع الحرج والضرر عنها.

ومثال الثاني المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل التمتع باللذائذ وأنواع اللعب الحلال، والسماع لتغريد الحمام وقرض الشعر وغيرها، فإنها مباحة في أجزائها، أي في بعض الأوقات فقط، أما قضاء الوقت كله بها فحرام أو مكروه، إذ فيه تفويت للواجبات والمأمورات.

وقد توسع الشاطبي رحمه الله تعالى في بحث ذلك، وأفاض فيه إفاضة واسعة في موافقاته، وآخر ما قاله في ذلك: (وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، أو بالكل، فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين، فالجواب أن لا، لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرت إليه في نفسه، فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة. فهو المسمى بالمطلوب بالكل)(1).

هل الإباحة من المأمور به؟

اختلف الفقهاء في التكييف الفقهي للإباحة، أهي من المأمور به أو لا، فذهب إلى الأول الكعبي من المعتزلة، وقال: إن المباح واجب ومأمور به وليس مخيرا فيه، فيكون في فعله الثواب وفي تركه العقاب، وذهب إلى الثاني جماهير الأصوليين والفقهاء، وقالوا: المباح نوع خاص مستقل من أنواع الحكم.

الأدلــــة(2):

أ- استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:

1- الأمر طلب، والطلب يستلزم ترجح جانب الفعل على جانب الترك، والمباح لا ترجح فيه، والمفروض فيه المساواة بين جانبي الفعل والترك، فلا يكون مأمورا به لذلك.

2- الإجماع منعقد قبل الكعبي على أن الحكم ينقسم إلى خمسة أقسام، منها المباح، إذ أنه لم يعلم مخالف لذلك قبله، والإجماع حجة قاطعة كما تقدم.

ب- واستدل الكعبي لمذهبه بأدلة منها:

1- بأن الاشتغال بالمباح إنما هو انصراف وترك لحرام، وكل ترك لحرام يعد واجبا للتقابل بين الواجب والمحرم، والاشتغال بالطعام مثلا إنما هو انصراف عن السرقة والزنا وغير ذلك من أنواع المحرمات الأخرى، بل إن الامتناع عن الحركة نفسه يعتبر طريقا لترك السرقة، والامتناع مباح في أصله، ولكنه لما صار طريقا لترك المحرم المأمور به من الشارع أصبح واجبا، لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

وكذلك أنواع المباحات الأخرى، فإنها طريق للوصول إلى الواجبات، فكانت واجبات لذلك، ولا يمنع أن تكون واجبات على التخير، فإن الأكل كما يكون طريقا للامتناع عن السرقة يكون طريقا للامتناع عن الزنا وغيرها.

2- بأن الإباحة تكليف، والتكليف من علامات الواجب، لأنه لا كلفة إلا به.

المناقشــة:

ناقش الجمهور أدلة الكعبي كما ناقش الكعبي أدلة الجمهور على الوجه التالي:

أ- ناقش الجمهور دليل الكعبي الأول بردود عدة منها:

1- الإجماع انعقد على اعتبار المباح نوعا خامسا للحكم على النحو المتقدم، والإجماع حجة قاطعة لا تجوز مخالفتها، لكن الكعبي أجاب عن ذلك بأن الإجماع هنا سكوتي، وهو ظني عند الجمهور، أما دليله هو في أن كل مباح هو سبيل لتحقيق واجب فهو قطعي، فيكون مقدما عليه، ثم إن إمكان الجمع بين ما ذهب إليه وبين الإجماع ممكن، وذلك بحمل الإجماع على النظر لذات الفعل من غير نظر إلى ما يستلزمه من ترك الحرام. فلا يكون بينهما مصادمة لذلك، إذ لا يمتنع على الشيء أن يكون مباحا لذاته وواجبا لما يستلزمه بالاتفاق، لما تقدم من جواز اعتبار الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في وقت واحد إذا تعدد الجهة.

2- وناقشوه بقولهم: إنا لا نسلم بأن الواجب لا يتم إلا به، ذلك أنه غير معين، فإن ترك الزنا كما يتم بالأكل يتم بالشرب والنوم وغيرها، فلم يتعين واحد لتحققه، وكذلك سائر الواجبات الأخرى.

لكن هذا الجواب -كما يصفه العلامة العضد- ضعيف، لأن فيه تسليما بأن الواجب أحد تلك المباحات، لأن ما يعمل يعد واجبا قطعا، وغاية ما في الأمر أنه يصبح واجبا مخيرا لا معينا، وهذا لا يضره في شيء، لأنه يدعي أصل الوجوب، وهو مسلم على هذا الرد.

3- بأنه يلزم من قوله بإيجاب المباح حرمة الصلاة إذا ترك بها واجب آخر، لأنها تكون سببا لترك الواجب، وهو محرم، ومعلوم أن سبب الحرام حرام.

لكن هذا الجواب ضعيف أيضا، لاتفاق الجمهور على جواز تعلق الوجوب والحرمة في الشيء الواحد كما تقدم، فلا يمنع أن تكون الصلاة واجبة وحراما في وقت واحد باعتبار تعدد الجهة والإضافة.

والجواب الحق عندي: الذي تصح إقامته ضد الكعبي، هو عدم التسليم بأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا برابطة عقلية أو عادية، وقد تقدم مزيد بيان لذلك في مبحث مقدمة الواجب.

كما ناقش الجمهور دليل الكعبي الثاني، بأن التكليف هو طلب ما فيه كلفة، والمباح تخيير، ولا كلفة مع التخيير، إلا أن يحمل التكليف على اعتقاد الإباحة، إذ هي مأمور بها، والمأمور به تكليف بالاتفاق، لكن الخلاف ليس في اعتقاد الإباحة، بل بفعل المباح، فكان استدلالا له على أنه تكليف في غير موضع الخلاف، فلا يعتد به لذلك(1).

الترجيـــح:

من استعراض ما تقدم من الأدلة والمناقشة يترجح لنا قول الجمهور في اعتبار المباح صنفا خامسا من أصناف الحكم، وأنه غير الواجب، لما قدموه من الاحتجاج بالإجماع، وبعدم التسليم باعتباره من أنواع التكليف، وبعدم التسليم باعتبار ما أدى إلى الواجب واجب إذا كانت الرابطة عقلية أو عادية. والله تعالى أعلم.

هل المباح حكم شرعــي؟

مع التسليم باعتبار المباح حكما اختلف الأصوليون في اعتباره حكما شرعيا أو عقليا، فذهب جمهور الأصوليون إلى اعتباره حكما شرعيا لا يثبت إلا بدليل شرعي، وذهب بعض المعتزلة إلى اعتباره حكما عقليا يثبته العقل ولو لم يرد به الشرع، وخلاف المعتزلة هذا ليس مقصورا على بحث المباح فقط، بل هو من أنواع الحكم جميعها، وهو من بحوث الحاكم، ولذلك فإننا سوف نحيل عليه في تفصيلها(2).

حكم الإباحـــة:

حكم الإباحة كما هو واضح من تعريفها عدم الإثابة على الفعل وعدم المعاقبة على الترك، وهذا لا يمنع من أن يتغير حكم المباح بتغير الظروف والقرائن التي تحف به، فينقلب إلى واجب أو مندوب أو حرام أو مكروه، كالأكل، يعتبر مباحا في الحالات العادية، ويعتبر واجبا أو مندوبا عند الحاجة الماسة إليه، كما يعتبر حراما إذا كان غير مملوك للآكل، أو مكروها إذا كان غير محتاج إليه.

وهذا كله بناء على مذهب الجمهور، أما الكعبي من المعتزلة، فحكم المباح عنده حكم الواجب، من الإثابة على الفعل والمعاقبة على الترك، وقد تقدم رد قوله وتضعيفه.

مرتبة العفـــو(1):

هنالك نوع سادس من الأحكام له شبه بالمباح من ناحية وله شبهة بالحرام من ناحية أخرى، ولذلك فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى تسميته بمرتبة العفو، أخذا من عفو الله تعالى عن فاعله، وعدم معاقبته عليه رغم أنه حرام في أصله، ومن هذا النوع جميع المحرمات التي رافقتها ظروف شرعية خاصة اقتضت رفع الإثم عن فاعلها، مثل ارتكاب الكفار المحرمات قبل إسلامهم، كتزوجهم بأزواج آبائهم، وبأكثر من أربعة، وكشربهم الخمر، ولعبهم الميسر، إلى غير ذلك، حيث جعل الإسلام جابَّا لها ومسقطا للإثم عن فاعلها، ومن ذلك جميع المحرمات قبل أن يرد عن الشارع تحريمها، كشرب الخمرة قبل تحريمها، والتزوج بأكثر من أربع قبل تحريمه، فإنه لا يلحق الفاعل منه إثم أبدا، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولئلا يؤدي ذلك إلى التكليف بما لا يطاق، لأن التكليف بما هو غير معلوم تكليف بما لا يطاق، والتكليف هذا ممنوع شرعا رحمة من الله تعالى.

وقد سمى الفقهاء هذا النوع بالعفو وجعلوه مرتبة ثالثة بين المباح والحرام ولم يعتبروه من المباح رغم مشاركته له في الحكم، لأنه يختلف عنه في أن المباح يتساوى نفعه وضرره. أما هذا فضرره واضح لا يخفى، وهو راجح على نفعه، مثل الخمرة، فإن الله تعالى أشار بادئ الأمر إلى رجحان ضررها على نفعها دون أن يحرمها، فقال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما)، ومع ذلك فإن حكمها في ذلك الوقت وقبل التحريم القاطع هو عدم المعاقبة على شربها، ولذلك افترقت عن المباح ولم تعتبر نوعا منه.

الترجيـــح:

ولكنني أرى أن بالإمكان اعتبار هذه المرتبة من أنواع المباح، وأن جانب الضرر فيها متكافئ مع جانب النفع، بسبب الظروف الخاصة التي أحاطت بها، ورفعت الإثم عن فاعلها، فالخمرة نفسها قبل تحريمها يمكن اعتبار ضررها مساو لنفعها وليس راجحا عليه، وذلك بالنظر لما سوف يسببه تحريمها من مشقة بالغة على نفوس الصحابة المتعشقين لها، وأما قوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما) فإنما هو منصب على ذاتيتها دون الظروف الخاصة المحيطة بها، وهذا لا يمنعنا أبدا من ملاحظة تلك الظروف باعتبارها تشكل مع الخمرة كلا لا يتجزأ، بل إن تأخير تحريمها كان دليلا على المصلحة في إبقائها، وهي التخفيف على نفوس المؤمنين.

الحكم الوضعـــي

سبق لنا تعريف الحكم في أول هذا البحث لغة واصطلاحا، كما سبق تقسيم الحكم إلى قسمين: وضعي، وتكليفي. وقد انتهينا من دراسة القسم الأول وهو (الحكم التكليفي) بجميع أقسامه، وسننتقل إلى دراسة القسم الثاني وهو (الحكم الوضعي):

تعريف الحكم الوضعي:

الوضع في اللغة الإسقاط والترك، يقال وضع فلان دَينه عن فلان أي أسقطه، ووضع فلان الشيء بين يدي فلان تركه(1)، وعلى ذلك يكون الحكم الوضعي لغة هو الحكم بترك الشيء أو إسقاطه.

وفي الاصطلاح: (أثر الخطاب بتعلق شيء بالحكم التكليفي وحصول صفة به باعتباره)(2) وتعريفنا له بأثر الخطاب هو ما سار عليه الفقهاء، لأنهم جعلوا الحكم أثر الخطاب لا الخطاب، فإن الخطاب عندهم دليل الحكم لا الحكم ذاته، على خلاف الأصوليين الذي جعلوا الحكم هو الخطاب نفسه، وقد تقدم مزيد بيان لذلك في أول مبحث الحكم، وإذا أردنا توضيح معنى هذا التعريف أكثر قلنا هو: (ما ربط الله تعالى به الأحكام التكليفية على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية ...)(4) والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كلف المسلمين بأحكام تعبدية أو تشريعية كثيرة، وربط تكليفهم بها بأحكام أخرى، أو ظروف وأحوال معينة، لتكون علامات لهم معرفة على توجه الخطاب عليهم، كربط الله تعالى وجوب الصلاة بدخول الوقت، وربط وجوب الزكاة بملك النصاب، وربط صحة التملك الناتج عن البيع بسلامة البيع واستكماله لشروط صحته، فإن كلا من وجوب الصلاة ووجوب الزكاة وقيام الملك في الأمثلة المتقدمة أحكام تكليفية، وكلا من دخول الوقت، وملك النصاب، وسلامة البيع، أحكام وضعية لا توجد الأحكام التكليفية حتى توجد، فتكون هذه الأحكام الأخيرة علامات موضوعة على توجه الخطاب للمكلف بالأحكام التكليفية.

أنواع الحكم الوضعي:

يقسم جمهور الأصوليين الحكم الوضعي إلى ثلاثة أقسام، وذلك من حيث طبيعة ارتباط الحكم التكليفي به وتوقفه عليه، وهي: السبب، والشرط، والمانع.

ويزيد بعض الأصوليين الآخرين كالشاطبي والأمدي قسمين اثنين آخرين على هذه الأقسام الثلاثة، فتصبح خمسة وهما: كون الحكم التكليفي صحيحا أو باطلا أو فاسدا، وكونه عزيمة أو رخصة، وذلك خلافا لكثير من الأصوليين الذين يدخلون هذين القسمين في الحكم التكليفي لا الوضعي.

وعلى كل، فإن الخلاف هو مجرد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، هذا وقد ذهب بعض الأصوليين الآخرين أيضا إلى عد الحكم الوضعي خمسة أقسام، عدا القسمين الأخيرين الذين جرى فيهما الاختلاف، فيزيد على الأقسام الثلاثة الأولى الماضية قسمين هما: العلة، والعلامة(1)، مع أن أكثر الأصوليين على أن العلة نوع من أنواع السبب، والعلامة قريبة من الشرط، ولذلك فلا داعي لإفرادهما بنص خاص، وهو ما سوف نسير عليه هنا، ونقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام حسبما فعل الشاطبي (رحمه الله تعالى) تيسيرا للبحث والدراسة …

1 - السبـــب:

تعريفــه:

السبب في اللغة يطلق على الباب، ومنه قوله تعالى: (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) أي أبوابها، ويطلق على الحبل، ومنه قوله تعالى: (فليمدد بسبب ثم ليقطع) أي بحبل، ويطلق على الطريق، ومنه قوله تعالى: (فأتبع سببا)، ثم استعير لغة إلى كل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور، فقيل هذا سبب هذا وهذا سبب هذا(2).

والسبب في اصطلاح الأصوليين هو: (الوصف الظاهر المنضبط الذي جعل مناطا لوجود الحكم)(3) أو (جعل معرفا لوجود حكم شرعي)(4) أو (أمارة على وجود الحكم)(5). أو هو (ما ارتبط غيره به انعداما ووجودا وكان خارجا عن ماهيته).

وعلى ذلك تكون الرابطة بين السبب ومسببه قوية قائمة بينهما في حالة السلب والإيجاب معا، فإذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا انعدم السبب انعدم المسبب، إذا ما استوفت الماهية كل شروطها وانعدمت كل موانعها، كدخول الوقت، فإنه سبب لوجوب الصلاة، يدور معه وجوبها وجودا وعدما، وكذلك القتل العمد العدوان سبب للقصاص، والعقد الصحيح سبب لترتب حكمه عليه.. وهكذا، فإذا نقص شرط أو وجد مانع لم ينتج السبب حكمه، لا لضعف السبب عن إنتاج مسببه، بل لقيام المانع وزوال الشرط، لأن إنتاج السبب لمسببه متوقف على ذلك.

أنواع السـبب:

ينقسم السبب من حيثيات مختلفة إلى الأقسام التاليــة:

1- من حيث موضوعه فإنه ينقسم إلى قسمين:

أولا: سبب وقتي، وهو ما يكون فيه وقتا للواجب، كزوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، وغروب الشمس سبب لوجوب صلاة المغرب، ورؤية هلال رمضان سبب لوجوب الصوم.. وهكذا.

ثانيا: سبب معنوي، وهو ما يكون أمرا معنويا يتعلق الحكم بوجوده، كالإسكار جعل سببا لتحريم الخمر، والرضا جعل سببا لتصحيح البيع .. وهكذا(1).

2- من حيث كونه مقدورا للمكلف أو غير مقدور له فإنه ينقسم إلى قسمين:

أولا: ما يكون غير مقدور للمكلف، كجعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن إدخال الوقت ليس في مستطاع المكلف، وكذلك جعل النصاب سببا لوجوب الزكاة، فإن تحصيل النصاب ليس في مقدور المكلف.

ثانيا: ما يكون مقدورا للمكلف، كجعل النكاح سببا للتوارث، والبيع سببا للتملك، والقتل سببا للقصاص، فإن هذه الأسباب، وهي النكاح والبيع والقتل، أمور هي في مقدور المكلف، إن شاء فعلها وإن شاء امتنع عنها، وبصورة عامة نستطيع أن نقول: إن الأسباب المقدورة للمكلف هي جميع أفعال المكلف التي أناط الشارع بها أحكاما شرعية(2).

وهذا النوع من الأسباب المقدورة للمكلف ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:

1- أسباب مأمور بها، كجعل النكاح سببا للتوارث، فإن النكاح مأمور به في الأحوال العادية.

2- أسباب منهي عنها، كجعل السرقة سببا للحد، فإن السرقة منهي عنها.

3- أسباب مأذون فيها، فلا هي واجبة ولا هي محرمة، بل مباحة، كجعل الذبح سببا لحل الحيوان المذبوح، فإن الذبح مباح(3).

3- من حيث كونه مؤثرا في الحكم أو غير مؤثر فيه، فإنه ينقسم إلى قسمين هما:

أولا: أن يكون مؤثرا في الحكم، بمعنى أن تكون بين السبب والمسبب رابطة واضحة يمكن للعقل معها إدراك وجه هذا الارتباط، كجعل الإسكار سببا في تحريم الخمر، وجعل السفر سببا لقصر الصلاة والفطر في رمضان، وغير ذلك.

فإن الارتباط في هذا النوع واضح بين الإسكار والتحريم وبين السفر والفطر والقصر، بخلاف جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن العقل لا يستطيع وحده إدراك الرابطة بينهما.

وهذا النوع من السبب هو ما أطلق جمهور الأصوليين عليه اسم العلة، حيث يعرفونها بأنها الوصف المؤثر في تشريع الحكم.

ثانيا: أن لا يكون مؤثرا في الحكم، بمعنى أن العقل لا يستطيع لوحده إدراك معنى الحكمة من ترتب المسبب عليه، كجعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، وغير ذلك، وهو ما يطلق عليه الأصوليون السبب مطلقا.

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الأصوليين يسوي بين العلة والسبب، وعلى كل فإن هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه(1).

وعلى كل فينبغي صرف معنى التأثير هنا إلى التأثير المجازي لا الحقيقي، فإن الأحكام تثبت بوضع الشارع وليس بالأسباب أو العلل، وما الأسباب والعلل إلا علامات معرفة فقط بوضع الشارع لهما كذلك.

وهذا المعنى هو ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى حيث قال في تعريف السبب: (ما يقع الحكم عنده إلا به)(2).

4- من حيث نوع الرابطة التي تربط بين السبب ومسببه، فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أولا: سبب شرعي: وهو السبب الذي أقام الرابطة بينه وبين مسببه الشارع وحده دون أن يكون للعقل دخل في ذلك، كجعل الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن العقل بمفرده لا يستطيع ترتيب ذلك، ولكن الشارع هو الذي ربط بين الوقت وبين وجوب الصلاة برابطة السببية، وهذا النوع هو المراد ببحثنا هنا، دون النوعين الآخرين.

ثانيا: سبب عقلي: وهو السبب الذي ربط بينه وبين مسببه رابطة عقلية أقامها العقل، كسببية النقيض في انعدام نقيضه، فإن العقل هو الذي أدرك هذه السببية، ورتب انعدام النقيض على وجود نقيضه، فجعل وجود أحد النقيضين سببا في انعدام النقيض الآخر(1).

ثالثا: سبب عادي: وهو السبب الذي رتب عليه مسببه بواسطة العادة، كجعل الذبح سببا للموت، فإن العادة هي التي قضت به، ولذلك لا حاجة معه إلى الرابطة العقلية.

ملحوظات حول معنى السبب وحكمه:

بعد تعريف السبب وبيان أقسامه، ننتهي إلى التعرض لبعض الملحوظات والنقاط والمسائل المتعلقة بمعنى السبب الشرعي أو حكمه، مما ذكره الفقهاء والأصوليون في هذا الباب، وأهم هذه المسائل:

1- إن مشروعية السبب لا تستلزم مشروعية المسبب، وإن صح التلازم بينهما عادة، فإذا تعلق بالسبب حكم شرعي، كالوجوب والإباحة والتحريم وغير ذلك، فلا يلزم أن يتعلق هذا الحكم بالمسبب المرتبط به، كالأمر بالنكاح، فإنه لا يعتبر أمرا بحل البضع، وكذلك النهي عن القتل، ليس نهيا عن إزهاق الروح، لأن ترتيب المسبب على السبب من فعل الله سبحانه وتعالى، وليس إلى المكلف، ولذلك لم يجز وصفه بهذه الأوصاف، بخلاف السبب، فإنه قد يكون من فعل المكلف، فجاز اتصافه بهذه الأحكام، وقد دلت على ذلك الآيات والأدلة الكثيرة.

من ذلك قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذريات:22)، فإنها تعني أن الله تعالى وحده هو واهب الرزق، ولا دخل للإنسان فيه، ومع ذلك جاءت الآية الكريمة الأخرى تأمر بطلب الرزق الذي هو سببه، وتجعله واجبا، وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة(2).

2- إيقاع السبب من المكلف بمثابة إيقاع المسبب فيه، سواء أقصد المكلف إلى المسبب عند فعل السبب أو لم يقصد ذلك، فالفاعل للسبب ملتزم بكل ما نتج عنه من مسببات، مصالح كانت أو مفاسد، لأن الذي للمرء هو السبب فقط(3)، وعليه مدار الثواب والعقاب بالنسبة إليه، فيعتبر فيه القصد وعدمه، أما المسبب، فهو نتيجة لفعل السبب بحكم الشارع، وإلا لم يكن السبب سببا، ولذلك لم يكن للقصد فيه عبرة، فمن حفر حفرة في طريق عام قصدا بدون إذن من له الإذن في ذلك، فسقط فيها إنسان فمات، فإن على الحافر الدية، سواء أقصد بحفرها القتل أو لا، ما دام قاصدا للحفر الذي هو سبب القتل هنا.

3- وضع الشارع للأسباب يستلزم قصده إلى المسببات، وذلك لوجوه عدة أهمها:

أ‌- أن العقل يقطع بأن السبب لا يمكن أن يكون مرادا لذاته، بل هو مراد لما ينتج عنه من مسببات، وإلا لم يكن سببا، والمفروض أنه سبب.

ب‌- الأحكام الشرعية إنما شرعت لتوفير المصالح ودرء المفاسد، وإلا فاتت الحكمة، والمصالح والمفاسد مكانها المسببات لا الأسباب قطعا، لأنها غير مقصودة لذاتها، فكان القصد إلى المسببات ضروريا، توفيرا للمصالح ودرءا للمفاسد(1).

4- ما دام قصد المكلف إلى المسبب لا عبرة به، وأن المدار على قصد السبب وعدمه، فإنه لا بد من القول بأن المكلف مخير بين قصد المسبب وعدم قصده على حد سواء، فللمكلف أن يقصد السعي إلى الرزق دون قصد الرزق نفسه، لأن تحصيل الرزق بسبب السعي إليه أمره إلى الله جل شأنه، وليس للمكلف فيه قدرة أو شأن، لأن دوره قاصر على تحصيل السبب فقط، وله أن يقصد إلى الرزق مع قصده إلى سببه، لأنه منوط بسببه ضرورة جعله سببا له(2).

5- ما دام ربط المسببات بالأسباب من الله جل شأنه وليس للإنسان إلا فعل السبب أو الإحجام عنه فقط، فإنه لا بد من القول بأن المكلف إذا فعل السبب مستكملا شروطه خاليا عن موانعه وقصد ألا يقع المسبب فإنه يكون قد قصد محالا، وأن قصده لا عبرة به أبدا، فمن اشترى شيئا من آخر قاصدا عدم تملكه كان قصده ردا عليه، والملك ثابت له بالشراء بحكم الشارع، وإذا تزوج امرأة ناويا عدم استباحة المتعة بها، كانت المتعة حلالا له ولا عبرة بقصده أيضا، وهكذا…

فإن قيل: أليس الإنسان مخيرا في هذه الحالات المباحة ولا إلزام عليه فيها، فلماذا يلزم بنقيض قصده؟ ذلك أن له أن لا يشتري، وله أن لا يتزوج، فلماذا لا يكون له أن لا يمتلك وأن لا يستعمل المتعة؟.

أجيب: بأن الخيار مقتصر على فعل الأسباب فقط، أما المسببات فهي نتيجة حتمية لفعل السبب بوضع الشارع لها كذلك، فمن أراد أن لا يمتلك فإن عليه أن لا يشتري، فإذا اشترى امتلك حتما(1).

6- الأسباب المشروعة أسباب للمصالح، والأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد، فالأمر بالمعروف مأمور به وهو سبب لتطهير المجتمع من الارتياب والانحراف، فهو مصلحة، والغصب منهي عنه، وهو سبب لإهدار الأموال والاعتداء على حريات الملك فهو مفسدة.

وما دام الأمر كذلك فلا عبرة لما يحدث من مفاسد في طريق تحقيق السبب المشروع، كما لا عبرة بالمصالح الحاصلة في طريق السبب الممنوع، ذلك أنها مفاسد ومصالح مغلوبة ولا بد، فلا يناط بها حكم شرعي.

وعلى ذلك فالقتل والضرب الذي يحتاج إليه في سبيل الأمر بالمعروف هدر، وليس بمفسدة مقصودة، فلا يناط به نهي، ولا يعتبر مقصودا للشارع، وكذلك اقتناء المال الذي ينتج

عن الغصب، فإنه لا عبرة به أيضا، ولا يناط به أمر، ولا يعد مقصودا للشارع(2).

7- السبب المشروع لا بد أن تكون وراءه حكمة يقتضيها كالصلاة والصوم وسائر العبادات الأخرى، فإن حكمتها إظهار الخضوع والتذلل إلى الله جل شأنه، وكذلك البيع، الحكمة منه توفير الحاجيات اللازمة للإنسان، وهكذا…

لكن هذه الحكمة المتوخاة من السبب قد تكون مقطوعا بها، وقد تكون مظنونة، وقد تكون دون ذلك، بأن تكون مشكوكا فيها أو موهومة(3)، فإن كانت الحكمة مقطوعا بها أو مظنونة بقي السبب على المشروعية، لا خلاف في ذلك بين الفقهاء، ولا أثر للنقيض المغلوب.

فإن كانت المصلحة مشكوكا فيها أو متوهمة، فإن الأمر يكون على ضربين:

آ - أن يكون فوات المصلحة الغالبة بسبب عدم قابلية المحل لها، كبيع الميتة، فإن البيع سبب التملك، والميتة لا ينعقد عليها ملك لعدم القدرة على الاستفادة منها، وكذلك الزواج بالمشركة، لحرمة التمتع بها شرعا، وكذلك الطلاق على الأجنبية(1)، لعدم دخولها في عقده وفقدان السلطة عليها.،وهكذا .. وحكم هذا النوع ارتفاع المشروعية عن الماهية أصلا، ولا عمل للسبب في المسبب آنئذ، فلا يصح البيع حكمه، وكذلك الزواج لا ينتج وهكذا، ويسمى العقد عقدا باطلا.

ب - أن يكون فوات المصلحة الغالبة لأمر خارجي مع قابلية المحل لهذه المصلحة، كبيع جذع في سقف، فإن الجذع محل صالح للبيع، إلا أن المصلحة منه فائتة لعدم القدرة على تسليمه، وهو أمر خارج عنه، وكذلك الزواج بالأخت عند أبي حنيفة، فإنها محل صالح للزواج لكونها أنثى غير مشركة، ولكن المصلحة فاتت للقرابة، وهي أمر خارجي وهكذا.. وحكم هذا النوع مختلف فيه بين الفقهاء على المذهبين، تزعم الأول الحنفية، وتزعم الثاني الحنبلية، وأما المالكية والشافعية فقد ذهبوا مذهبا وسطا بين المذهبين.

فذهب الحنفية إلى أن الأمر الخارجي لا ينفي المشروعية عن المحل، بل يبقى المحل قابلا للمشروعية والسبب منتجا لحكمه، وإن كانت الأحكام تتغير وفقا لفوات المصلحة الغالبة،

وعلى ذلك يسمون بيع الجذع والزواج بالأخت عقدا فاسدا لا باطلا(2)، والفاسد عندهم منعقد بالجملة، وينقلب صحيحا إذا زال سبب الفساد بعد العقد.

وذهب الحنبلية إلى أن الأمر الخارجي ينفي المشروعية، مثل فوات صلاحية المحل للحكم تماما، وأن السبب لا ينتج حكمه مطلقا، والتصرف الناتج عن ذلك باطل من كل وجه.

أما المالكية والشافعية فقد ذهبوا مذهبا وسطا، ففرقوا في السبب الخارجي بين أن يكون جوهرها أو غير جوهري، فإن كان جوهريا بطلت المشروعية وألغي السبب، وإن لم يكن جوهريا لم تبطل المشروعية ولم يلغ السبب.

وعلى كل فإن هذا البحث هو بالفقه ألصق منه بالأصول، ولذلك فلا داعي إلى الإطالة فيه هنا(3).

الشــــــرط:

تعريفه:

الشرط في اللغة العلامة اللازمة، ويجمع على أشراط وشروط، والشريطة تجمع على شرائط، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها، وسمي رجال الشرطة بالشرطة لما يتميزون به عن غيرهم من علامات خاصة في اللباس(1).

والشرط في اصطلاح الأصوليين: (ما توقف عليه وجود الشيء)(2)، أو هو (ما كان عدمه مستلزما لعدم الحكم)(3) وإذا أردنا زيادة إيضاح لذلك قلنا: (هو ما توقف عليه وجود الحكم بحيث يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يلزم من وجوده وجوده، وذلك لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو سببه)(4) أو هو (ما ارتبط غيره به انعداما لا وجودا وكان خارجا عن ماهيته).

أنـــواع الشــرط:

ينقسم الشرط إلى أقسام متعددة من حيثيات مختلفة:

أولا: من حيث معناه وما يدل عليه إلى ثلاثة أقسام(5):

أ- الشرط المحض: وهو الشرط الذي لم يلاحظ فيه إضافة الحكم إليه، أو إفضاؤه إلى الحكم، بل مجرد توقف الحكم على وجوده، كما في اشتراط الوضوء لصحة الصلاة، فإن الصلاة غير مضافة إليه، ولا هو مفض إليها، لأنه قد يوجد دونها، وكذلك حولان الحول في حق وجوب الزكاة، وهكذا…

ب- شرط في حكم العلة : وهو الشرط الذي لم تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها، كحفر بئر في شارع عام وقع فيه إنسان فمات، فإن الحفر هنا شرط للموت، ولم يلحق به من العلل ما يصلح لإناطة الحكم بها، فكان للشرط هنا حكم العلة، ولذلك فإن الفقهاء يضمنون الحافر دية القتيل، لعدم وجود من هو أولى منه بالضمان، بخلاف ما لو حفر إنسان حفرة، فألقى فيها رجل رجلا آخر فمات، فإن الدية هنا على الملقي ولا شيء على الحافر، لأن الإلقاء هنا علة القتل، والعلة مقدمة على الشرط في إناطة الحكم بها.

ج- شرط في معنى السبب: وهو الشرط السابق (المتقدم) الذي اعترض بينه وبين الحكم فعل فاعل مختار غير منسوب إليه فعله، كما إذا فك إنسان وثاق عبد فأبق (هرب)، فإن الهرب هنا وقع من العبد، لا من الفاك للعبد، فلا يعتبر له حكم العلة، ولكن العبد غير صالح لإناطة الحكم بعمله لعدم الذمة، فاعتبر الفك في هذه الحال شرطا في حكم السبب للهرب، والسبب لا يجب به الضمان لعدم التأثير، ولذلك فإن الفقهاء لا يحكمون على الفاك هنا بشيء من التعويض.

هذا بخلاف فتح قفص فيه طائر، فإن الفاتح يضمن قيمة الطائر، لعدم وجود الاختيار في الطائر، مما يجعل للفتح حكم العلة.

هذا والشرط المحض ينقسم إلى قسمين هما:

أ- حقيقي (شرعي): وهو ما توقف وجود الحكم على وجوده بحكم الشرع، أي إن إقامته شرطا للحكم إنما كان بفعل الشارع، وسمي بالشرط الحقيقي، لأن الشارع هو المرتب الحقيقي للأحكام، مثل جعل الطهارة شرطا لصحة الصلاة، وكذلك ستر العورة ودخول الوقت شرطا لصحتها، وجعله امتلاك البيع مشروطا بوحدة مجلس الإيجاب والقبول، وبالقدرة على تسليم المبيع، وهكذا…

وهذا النوع من الشروط على قسمين أيضا:

أولا) شرط مطلق: وهو علامة على وجود الحكم في كل أحواله، بحيث إذا انتفى في أي حال من الأحوال انتفى الحكم بانتفائه، مثل الشاهدين على عقد النكاح، فإنهما شرط لصحته، فإذا انتفيا فسد العقد، سواء أكان ذلك لعذر أو لغير عذر على حد سواء، إذ لا يسقط اشتراطها بالاعذار.

ثانيا) شرط مرتبط بعدم العذر، أي إن حكمه يسقط في حالة العذر، كما في الطهارة في الصلاة فإنها تسقط في حق المعذور، وكذلك استقبال القبلة، فإنه يسقط في حق المريض وغيره من أصحاب الأعذار، مثل حالة من به سلس بول مع البول الناقض للطهارة، كذلك صلاة المريض العاجز عن الاتجاه إلى القبلة، فإنها تصح إلى أي جهة توجه.

ب - وجعــلي: وهو ما توقف عليه وجود الحكم وكان مقاما من قبل المكلف نفسه، لا من قبل الشارع، مثل اشتراط حمل المبيع إلى البيت على البائع، وكذلك تسليم الثمن في وقت معين في مكان معين، وغير ذلك من الشروط التي اختلف الفقهاء في صحة اشتراطها، وهذه حكم العقد موقوف على تحققها كما في الشروط الحقيقية، والفارق بينهما هو أن النوع الأول كان مقاما من قبل الشارع، وهذا مقام من قبل المكلف نفسه، بحيث إنه لو لم يشترطه لما تعلق به الحكم.

وهذا النوع من الشروط الجعلية على قسمين:

1- شرط صريح، وهو ما جاء فيه الاشتراط بلفظ الشرط الصريح أو بأداة من أدواته، كإن وإذا، مثل أن يشترط المُطلِّق في طلاقه فيقول لزوجته: (هي طالق إن جاء فلان؟ أو إذا جاء فلان، أو بشرط أن يأتي فلان).

2- شرط بطريق الدلالة، وهو ما جاء فيه الاشتراط ضمنا بدون تلفظ به أو بأدواته، مثل أن يقول الرجل: (المرأة التي أتزوجها طالق، فإنه في معنى قوله: (إن تزوجتها فهي طالق)، ولذلك فإن هذا القسم يأخذ حكم الشرط الصريح تماما من كل وجه، لأن القاعدة الفقهية تقول (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني).

والشروط الجعلية(1) هذه من حيث صحتها وبطلانها في نظر الفقهاء تنقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام:

أولا) شروط مكملة لحكمة المشرع، ولا يكون فيها ما ينافي الحكمة التي شرع الحكم لها، وهي الشروط الموافقة لمقتضى العقد، أو لا تنافي مقتضى العقد، كما يعبر عن ذلك الفقهاء، مثل اشتراط تقديم رهن بالثمن المؤجل، أو حميل أو غير ذلك من الموثقات، فإن ذلك صحيح باتفاق الفقهاء، ويلزم به الطرفان في العقد.

ثانيا) شروط منافية لحكمة المشرع، أو مخالفة لمقتضى العقد كما يعبر عن ذلك الفقهاء، مثل اشتراط البائع على المشتري عدم الاستفادة من المبيع، أو عدم بيعه، أو عدم الإنفاق على الزوجة، وغير ذلك من الأحكام التي جعلها الشارع آثارا شرعية للعقد الصحيح، وهذا النوع من الشروط باطل باتفاق الفقهاء، ولكن أيبطل العقد به، أو يبطل الشرط فقط ويبقى العقد صحيحا؟

في المذاهب الفقهية اختلاف كبير في هذا الموضوع لا محل للتعرض له الآن، لأنه أدخل في علم الفقه منه في علم الأصول، لكن القاعدة الأساسية التي انتهجها الحنفية في ذلك تتركز في مدى الاستفادة من هذا الشرط وعدمها، وفي قدرة المستفيد على طلب تنفيذ الشرط وعجزه عن ذلك، فإذا كان في الشرط المخالف لمقتضى العقد منفعة لأحد المتعاقدين أو لغيرهما، وكان المنتفع أهلا للمطالبة بها فإن الشرط يكون فاسدا مفسدا للعقد في وقت واحد، وذلك لما يسببه من منازعات، مثاله من باع جارية واشترط على مشتريها أن يطعمها كل يوم لحما، فإن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، لما فيه من تضييق حرية المشتري التي ثبتت له بالعقد، فهو فاسد لذلك، وفيه منفعة للجارية المشتراة وهي أهل للمطالبة بهذا الشرط، فهو مفسد للعقد لذلك أيضا، لما فيه من إثارة الخصام والمنازعات، فإن كان من ثبتت المنفعة له ليس من أهل المطالبة، كمن باع لآخر دابة واشترط على مشتريها أن لا يشغِّلها، فإن الشرط هنا باطل لمخالفته لمقتضى العقد، ولكن لا يؤثر في صحة العقد بل يلغو، لأن المستفيد من هذا الشرط غير أهل للمطالبة، فيعتبر العقد صحيحا والشرط باطلا غير ملزم لعدم المنازعة.

ثالثا) أن لا يظهر في الشرط منافاة لحكمة المشرع ولا موافقة لها، كاشتراط المشتري على البائع نقل المبيع إلى بيته مثلا، فإنه غير موافق لمقتضى العقد ولا مناف له، وهذا النوع من الشروط الجَعلية اختلف الفقهاء في حكمه على مذاهب، تركزت في مذهبين اثنين:

أ‌- عدم تصحيح هذه الشروط واعتبارها شروطا باطلة، اعتمادا على أن المشرع هو المختص الوحيد بإنشاء الشروط، وأن الأصل في الشروط البطلان حتى يقوم الدليل على الصحة، وهذا الاتجاه هو ما ارتكز عليه مذهب أبي حنيفة والشافعية، مع اختلاف بينهما في بعض الفروع والتفصيلات.

ب‌- تصحيح هذه الشروط واعتبارها، اعتمادا على أن الأصل في الشروط الصحة ما لم يقم دليل مخالف، وهذا الاتجاه يمثله مذهب الحنبلية ومذهب المالكية، مع اختلاف بينهما توسعة وتضييقا، فالحنابلة توسعوا أكثر من المالكية في تصحيح الشروط الجعلية، وعلى كل فإن هذا البحث هو ألصق بمباحث الفقه منه بالأصول، ولذلك اقتصرت فيه على الإجمال دون التفصيل.

ثانيا: والشرط ينقسم من حيث متعلقة إلى قسمين اثنين هما:

أ- شرط مكمل للسبب، وهو الشرط الذي يتوقف عليه كمال سبب الماهية، وذلك لأن الأسباب ماهيات وأحكام وضعية يتوقف عليها أحكام تكليفية، ولهذه الماهيات التي هي أسباب شروط معينة لا بد من تحققها لقيام معنى السببية في السبب، مثل حولان الحول، فإنه شرط مكمل لمعنى كمال النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة.

فحكم الشرط هنا هو تكميل السبب، وأما ارتباطه بالمسبب وهو وجوب الزكاة فهو ارتباط غير مباشر، بخلاف النوع الثاني الآتي، فارتباط الشرط فيه بالماهية الأصلية إنما هو ارتباط مباشر.

ب – شرط مكمل للمسبب، وهو الشرط الذي يتعلق به مباشرة وجود الماهية دون أن يرتبط بسبب من أسبابها، فهو مقو لمعنى الماهية نفسها، مثل اشتراط التساوي بين الجاني والمجني عليه في القصاص، من حيث السلامة من نقص الأطراف وغيرها، فإنه شرط مباشر في المساواة الكامنة في القصاص، ولا علاقة له بأحد أسبابه، وكذلك استقبال القبلة، فإنه شرط مباشر لصحة الصلاة، دون أن يرتبط بأسبابها، وكذلك الطهارة وغيرها(1).

حكم ترك الاشتراط(2)

الشروط الجعلية هي شروط متروك أمر اشتراطها إلى المكلف على طريق التخيير، فلا ثواب على فعلها أو تركها، ولا عقاب على ذلك أيضا.

أما الشروط الشرعية التي أناط الشارع بها واجبات محددة، فإن حكم اشتراطها من حيث الجملة كذلك أيضا، لأن الشروط من حيث كونها داخلة تحت خطاب الوضع لم يقصد الشارع اشتراطها أو تركها من حيث هي شروط، ولذلك فإن للمكلف فعلها أو تركها على حد سواء من هذه الحيثية، وأما من حيث تفويتها لمشروطاتها الواجبة، فإن موجبه الإثم، ولكن الإثم هنا لتفويت الواجب لا لترك الشرط، بدليل أن الواجب لو فات لنقص سبب من أسبابه لا لفوات هذا الشرط المتروك فإنه لا إثم ولا عقاب في ذلك.

هذا من حيث العموم، أما من حيث التفصيل، فإننا نقسم الترك إلى قسمين:

1- ترك الشرط مع قصد تفويت مشروطه، وهذا حكمه الكراهة من حيث هو تفويت الشرط، بصرف النظر عن حكم تفويت المشروط الذي ترتب عليه، والأصل فيه عدم الكراهة كما هو الحال في النوع الثاني من الترك كما سيأتي، ولكن الكراهة ثبتت إما في ترك الشرط عمدا من التسبب في ترك الواجب وإبطاله، وأما ما جاء في حديث النبي  أنه قال: (لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي جمع أموال الزكاة المتفرقة بغية تقليل مقدار الواجب، كمن عنده أربعون شاة جمعها إلى شياه جاره البالغة أربعين أيضا ليثبت فيها جميعا شاة واحدة بدل شاتين، وكذلك تفريق الأموال المجتمعة بغية تقليل الزكاة أو التخلص منها، كسبعين شاة بين رجلين يجب فيها شاة واحدة(3) فإذا قسمت بينهما نصفين لم يجب فيها شيء لنقصان حصة كل شريك عن النصاب، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي ورد فيها النهي عن الترك للشرط بغية عدم انعقاد المشروط كثيرة، وأقل درجات النهي الكراهة، فلا بد من إثباتها، وأما الحرمة فلا محل لإثباتها نظرا لما تقرر من أن الشارع لا قصد له في تحقيق الشرط أو منعه.

2- ترك للشرط من غير قصد إلى إبطال المشروط وتفويته، كمن اقتسم مع شريكه الشياه لمشاحنة بينهما، فنتج عن ذلك نزول الزكاة عنهما، فإنه لا كراهة على واحد منهما، لعدم القصد إلى الإبطال.

هذا مع الانتباه إلى أن المشروط لا بد باطل في كلتا الحالتين الماضيتين مادام لم يتحقق شرطه، لأن معنى الشرط هو ذلك، هذا بالنسبة للشرط المطلق، وأما الشرط المقيد بعدم العذر، فإن مشروطه يصح مع فواته إذا كان الفوات لعذر مأذون فيه من قبل الشارع.

المانـــــــع:

تعريفـــه:

المنع في اللغة يطلق على معان متعددة،هي: الحرمان، والكف، والمنازعة، والتقصير، يقال مُنع فلانا حصته أي حرمه منها، ومنه قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم) أي حارم منه، كما يقال: امتنع عن الشهادة أي كف عنها، وكذلك: مانع الشيء أهله نازعهم فيه، وهو في مَنَعَةٍ من قومه أي قوة وحماية(1).

والمانع في الاصطلاح الأصولي: (هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يستلزم وجوده حكمة تستلزم عدم الحكم أو عدم سببه)(2)، أو هو: (الأمر الشرعي الذي ينافي وجوده الغرض المقصود من الحكم أو من سببه)(3)، وإذا أردنا توضيح معناه أكثر فإنه هو: (ما توقف وجود غيره على انعدامه وكان خارجا عن ماهيته).

من هذا التعريف للمانع ندرك أن المانع شقيق السبب أو نقيضه، فالسبب هو ما توقف وجود غيره على وجوده، والمانع ما توقف وجود غيره على انعدامه، ولذلك فإن كل الأحكام والملاحظات التي تقدمت معنا في باب السبب يمكن أن نطبقها على المانع تقريبا، بل إن الشاطبي رحمه الله تعالى سماه سببا، وعرفة بأنه: (السبب المقتضي لعلة تنافي حكمة الحكم).

أنواعــــه:

ينقسم المانع من حيث الأمر المتعلق على زواله إلى قسمين:

أ‌- مانع مؤثر في سبب الحكم، أي مؤثر في تعطيل السبب عن إنتاج حكمه، مثل الدَّين فإنه مانع من موانع وجوب الزكاة، وهذا المانع مرتبط ومؤثر في سبب وجوب الزكاة، وهو المتجلي في ملك النصاب، لأن الدين مانع من تحقيق ملك النصاب، فإذا لم يتحقق النصاب سقط وجوب الزكاة لذلك.

ب‌- مانع مؤثر في الحكم نفسه دون أن يكون له أي ارتباط بأسبابه:

مثل الأبوة في حق وجوب القصاص على الأب، فإن الأب إذا قتل ابنه عمدا لم يجب عليه القصاص لمانع الأبوة، إذ اعتبرها الشارع مانعا من موانع القصاص، وأجمع جمهور الفقهاء على ذلك دون النذر اليسير منهم، فإن هذا المانع منصب على أصل الحكم دون أن يكون له أي علاقة بأسبابه، وكذلك الصلاة مع حمل النجاسة، فإن النجاسة مانع من موانع صحة الصلاة دون مساس بأسبابها.

هذا وكل من هذين النوعين للمانع ينقسم إلى أقسام متعددة أهمها:

أ‌- مانع مؤثر في أصل انعقاد سبب الحكم، بمعنى أن السبب ينعدم بوجوده كليا، مثل حرية البيع، فإنها مانع لأصل الرق الذي هو سبب انعقاد البيع على الرقيق، فلو باع إنسان حرا لآخر كان البيع باطلا، لعدم انعقاد سببه وهو الرق.

ب‌- مانع مؤثر في تمام السبب والسبب منعقد مع وجوده، ولكنه ناقص، مثل بيع الإنسان ما يملكه غيره، فإن سبب الحكم هو سلطة التصرف، وهي موجودة بالجملة في حق الفضولي، إذ إنه ليس له إبطال العقد بعد عقده وقبل الإجازة من المالك الأصلي له، ولكن هذه السلطة ناقصة، ولذلك يبقى العقد معها صحيحا موقوفا على إجازة صاحب الحق.

2- وينقسم المانع المؤثر في الحكم إلى ثلاثة أقسام أيضا، هي:

أ‌- مانع يمنع ابتداء الحكم، فلا يقوم الحكم معه أصلا، مثل خيار الشرط، فإنه مانع لثبوت أصل الملك، فلا البائع مالك للثمن، ولا المشتري مالك للبيع، قبل انتهاء مدة الخيار، وذلك رغم قيام سبب الملك وهو العقد.

ب‌- مانع يمنع تمام الحكم، فأصل الحكم ثابت معه، ولكنه حكم ناقص، مثل خيار الرؤية في البيع، فإن ملك البيع ثابت للمشتري فيه، وكذلك ملك البائع للثمن، فإنهما ثابتان معه، ولكنهما ملكين ناقصين، بمعنى أنه يجوز للمشتري فسخ البيع بعد رؤية المبيع بدون رضا أو قضاء.

ج- مانع يمنع لزوم الحكم، فالحكم معه موجود وتام، ولكنه قابل للنقض بشرط الرضا أو القضاء، خلافا للنوع الثاني الذي يجوز فيه الفسخ بدون رضا أو قضاء. وذلك مثل خيار العيب، فإنه لا يؤثر على وجود الملك أو تمامه أصلا، ولكن يمنع اللزوم فقط(1).

وقد قسم الشاطبي رحمه الله تعالى المانع المؤثر في الحكم من حيث منافاته للطلب إلى أقسام أخرى قريبة من هذه الأقسام، وهي:

1- ينقسم المانع إلى قسمين:

أ‌- مالا يجتمع مع الطلب (التكليف) عقلا: كزوال العقل بالنوم أو الجنون أو غيرهما، فإنه مانع من أصل التكليف، ولا يجيز العقل أن يجتمع واحد منها معه أبدا.

ب‌- ما يجتمع مع الطلب عقلا: كالحيض، والرق، والسفر، فإنها موانع من كثير من الواجبات، ولكنها موانع شرعية بحيث لا يحيل العقل جواز اجتماعها مع أصل التكليف.

2- وينقسم هذا النوع الثاني من الموانع الشرعية إلى قسمين اثنين، هما:

أ‌- موانع ترفع أصل الطلب، وتلقي الخطاب من أصله في حق المخاطبين وكأنه لم يكن، كالحيض والنفاس في حق وجوب الصلاة، فإن التكليف بالصلاة على من قام بهن هذا المانع ساقط، فلا يجب عليهن شيء من الصلاة، ولو أدينه كان باطلا، ودلك دليل ارتفاع التكليف أصلا، وإلا أدى الأمر إلى اجتماع النقيضين في الواحد بالشخص المتحد الجهة، وهو باطل لما مر.

ب‌- موانع لا ترفع أصل الطلب، ولكنها ترفع إتمامه فقط، وهي على قسمين:

أولا: موانع يصير معها المكلف مخيرا بين فعل الشيء وتركه على حد سواء، مثل الرق والأنوثة في حق صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والجهاد وغيرها، فإن حكمها في حقهم التخيير بين الفعل والترك مع بقاء أصل الخطاب في حقهم رغم المانع، بدليل صحتها منهم والإثابة عليها إذا فعلوها.

ثانيا: موانع لا يصير المكلف معها مخيرا بين الفعل والترك، ولكن يسقط الإثم عنه بسببها عند الترك، من ذلك الرخص بأنواعها، فإنها مانعة من ترتيب الحرج والإثم على تارك العزيمة. مع بقاء أصل التكليف بالعزيمة أيضا، بدليل صحتها من المكلف لو فعلها مع الإثابة عليها(1).

انتهى والحمد لله رب العالمين.

***************

********

***

*

الفهــــــــرس

المقدمـــــة

تمهيـــــد

تعريف علم أصول الفقه

شرح التعريف الإضافي لعلم أصول الفقه ومعنى العلم

تعريف العلم في الاصطلاح

معنى الأصول لغــة

معنى الأصول في الاصطلاح الشرعي

معنى الفقه لغــة

معنى الفقه في الاصطلاح الشرعي

تحليل تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي

شرح التعريف اللقبي لعلم أصول الفقــه

تحليل تعريف الجمهــور

موضوع علم أصول الفقــــــــه

الفائدة من دراسة علم أصول الفقه

استمدادات علم أصول الفقه ومصادره

واضع علم أصول الفقه

أهم الكتب والمؤلفات الأصولية

أسباب اختلاف الفقهــــاء

تمهيـــــد

أسباب الاختلاف بين الفقهــــاء

رد شبهات

خاتمـــة

مصادر التشريع الإسلامـي

تمهيــــد

القسم الأول المصادر المتفق عليها

القرآن الكريـــم

تعريفـــه

تحليل التعريــف

شروط القرآنيــة

حجيتــه

طريقة نزولـــه

أحكام القرآن الكريم وطريقته في معالجتها

السنة المطهـــــرة

تعريفها

أنواع السنة الشريفة

مراتب السنة الشريفة من حيث ثبوتها

السنة المتواترة

السنة الآحــادية

مراتب العلم المستفاد من السنة الشريفة

حجية السنة الشريفة

مرتبة السنة الشريفة من الكتاب الكريم في الحجيَّة

شروط حجيِّة السنة الشريفة

مكانة السنة الشريفة من القرآن الكريم من حيث طريقتها في التشريع

الإجمـــــاع

تعريفــــه

تحليل التعريــف

ركن الإجماع

أنواع الإجمــاع

أدلة حجية الإجمــاع الصريح

أدلة نفاة الاحتجاج بالإجماع السكوتي

أدلة المحتجين بالإجماع السكوتي ومناقشتهم لأدلة النافين له

شــــروط صحة الإجماع

حكم الإجمــاع

درجــات الإجمــاع

مرتبة الإجماع من القرآن الكريم والســنة

أهلية الإجمــاع

القيـــاس

تعريفــه

الأدلـــة

أدلة الظاهرية ومن والاهم ممن رد الاحتجاج بالقياس

أركان القياس وشروطها

شروط الفرع

شروط العلــة

مراحل طرق إثبات العلة

حكم القياس ومرتبته من الكتاب والسنة والإجماع

المصادر المختلف فيها

الاستحسان

تعريفه

أنواع الاستحسان

استحسان النص

استحسان الإجماع

استحسان الضرورة

حجية الاستحسان ومذاهب الفقهاء فيها

حكم الاستحسان ومرتبته بين مصادر التشريع

الاستصحاب، أو استصحاب الحال

تعريفــه

حجيته ومذاهب الفقهاء فيه

أدلة كل من المثبتين والنافين للاحتجاج باستصحاب الحال

أدلة النافيــن

مثال يوضح الخلاف وحدوده

طبيعة الاستصحاب

حكمه ومرتبته بين الأدلة الأخرى

الاستصلاح أو المصالح المرسلة

التعريف

تحليل التعريف

حجية المصالح المرسلة واختلاف الفقهاء فيها

مراتب المصلحة وأنواعها

شروط العمل بالمصلحة المرسلة

حكم المصالح المرسلة ودرجتها بين مصادر التشريع الأخرى

العــرف

تعريفــه

أنواعــه

حجِّيَّتــه

شروط العمل بالعرف

العرف الصحيح ومرتبته بين مصادر التشريع الأخرى

مذهب الصحابــي

أنواع مذاهب الصحابة

أدلة الجمهور في الاحتجاج بمذهب الصحابي

أدلة النافين للاحتجاج بمذهب الصحابي

الترجيــح

شرع من قبلنا

الأدلـــة

مباحث الحكـــم

تمهيــــد

تعريف الحكم

تحليل التعريف ومحترزاته

أقسام الحكم

أقسام الحكم التكليفي

الواجب

تعريفه وأقسامه

تعريف الواجب

أقسام الواجب

من حيث ارتباطه بوقت أو عدم ارتباطه به: فإنه ينقسم إلى قسمين

الفائدة من هذا التقسيم

أنواع الواجب المؤقت

الواجب الموسع

الواجب المضيـق

الواجب ذو الشبهين

الفائدة المرتبة على تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق وذي شبهين

حكم الوقت بالنسبة للواجب المؤقت

تحديد جزء الوقت الذي يعتبر سببا للوجوب المؤقت

انتقال الواجب الموسع إلى مضيق

أنواع الواجب المؤقت من حيث وقت فعله والإتيان به

الأداء

الإعـــادة

القضـــاء

دليل قضاء الواجب وحكمه

أنواع الأداء والقضاء

أنواع الأداء

أنواع القضــاء

قضاء بمثل معقول

قضاء بمثل غير معقول

قضاء يشبه الأداء

التقسيم الثاني للواجب

الواجب المحدد

الواجب غير المحدد

الحكمة في التحديد وعدمه

حكم الواجب المحدد وغير المحدد

الأدلــــة

التقسيم الثالث للواجب

الواجب على العين

الواجب الكفائي

حكم الواجبين العيني والكفائي

محل تعلق الواجب الكفائي

الأدلــــــة

انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني

التقسيم الرابع للواجب

الواجب المعين

الواجب المخير

الحكمة في هذا التقسيم

محل تعلق الخطاب في الواجب المخير

الأدلــة

مقدمة الواجــب

أقسام مقدمة الواجب

من حيث نوع الأمر المرتبط بها

من حيث نوع تعلق الواجب بها

من حيث كون الواجب المتعلق بها مطلقا أو مقيدا

حكم مقدمة الواجب ودليله

المنــدوب

تعريفـــه

أنواعــه

1ـ المندوب المؤكد أو السنة المؤكدة

2ـ المندوب غير المؤكد

3ـ المندوب الزائد

طرق ثبوت المندوب

هل المندوب مأمور به

الأدلــــــة

مناقشة دليل الحنفية

مناقشة دليل الشافعية

الترجيــح

هل الندب تكليف

خاتمـــــة

حكم ترك النفل بعد الشروع به

الأدلــــة

استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة منها

الحــــــرام

تعريفــــه

أنواعـــه

حكم الحــرام

مسألة إمكان تعلق الوجوب والحرمة بالشيء الواحد

الأدلـــة

الترجيــح

مسألة حكم الأمر والنهي في ضدهما

محل النزاع في المسألة ومعنى الضدين

الأدلة ومناقشتهـــا

الترجيح والاختيــار

المكـــــروه

تعريفه وأقسامــه

حكمــــه

هل المكروه منهـي عنـه

أدلة ثبوت الكراهــة

المبــــاح

تعريفـــه

طرق ثبوت الإباحــة

هل الإباحة من المأمور به

الأدلــــة

المناقشــة

الترجيـــح

هل المباح حكم شرعــي

حكم الإباحـــة

مرتبة العفـــو

الترجيـــح

الحكم الوضعـــي

تعريف الحكم الوضعي

أنواع الحكم الوضعي

السبـــب

تعريفــه

أنواع السـبب

ملحوظات حول معنى السبب وحكمه

الشــــــرط

تعريفه

أنـــواع الشــرط

الشرط المحض

شرط في حكم العلة

شرط في معنى السبب

شرط مكمل للسبب

شرط مكمل للمسبب

حكم ترك الاشتراط

المانـــــــع

تعريفـــه

أنواعــــه

*******

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
"أكسيوس": انتقال السلطة لإدارة ترامب سيعرقل مفاوضات غزة لشهور