كانت ملامحه موحية بالشقاء "كعادة أهل حارتنا"، كما يقول الراحل الكبير نجيب محفوظ.. ثياب رثة وعين ذابلة، ملامح مخضبة بالشقاء، وشفاه مرتعشة من فرط الجوع والفقر.. ظننت أن الأمية ضاربة في جذور أجداده، فكما ضربتهم الفاقة لا بد أن التعليم كان بالنسبة لهم كالصعود إلى القمر أو السير على النجوم، ظللت على هواجسي عنه حتى تحدثت، متفذلكا، عن منظومة القيم في مصر بعد أن لمحت تأففه من أغنية الـ"الحباية اللي جابت جوان"، التي يسمعها سائق الميكروباص الذي يقلنا من "الدقي" إلى "فيصل".
أرعبتني ثقافته واستصغرت نفسي، رد وفسر واستفاض في شرح سيرة ثقافة الشعب التي شوهها "لصوص الأحلام" وأكلتها "فوضى الكبار"، وطاف العالم بكل أشياعه، وغاص في حديث استصعبته لقصور ثقافتي عن الشيوعية والرأسمالية، حتى قال: "الحرامي مش بس اللي بيسرق فلوسك دا اللي بيسرق مجهودك أو طموحك.. إنت تنتج وهو ياخد مكافأة الإنتاج، سلم أمورك لله كلها واللي مكتوب هييجي هييجي"، اكتشفت، ذاهلا، أنه رغم جلده المتيبس من الحاجة وملابسه المهترئة من الإهمال، ووجهه الذي شوهته شقوق الزمن والشقا "مهندس تركيبات".
تنهد بكل قوة حارقة، وأنا أحدثه عن تشبيه صديقي لكل "من يحرث في الماء"، بـ"حراجي الأبنودي"، الذي سخّر "حيله" (قوته) وخرج من عباءة أسرته الحانية الدافئة، لبناء السد العالي، تنتظره زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار خالية الوسادة واليد، يائسة من "حفره على الناشف"، الذي يمهد به لفخر "الكبار" بأنهم "هم من بنوا السد"، وعندما تأهب للنزول قال لي: اقرأ قصيدة "احترامي للحرامي" لعبدالرحمن بن مساعد، كانت محاضرته باعثة على الكآبة، استشعرت، ولسبب غامض، الوحدة برحيله، فأمثاله من المدركين للواقع الملتحفين به قليلون، قليلون بدرجة مرعبة.
لكني "بالحق أقول"، أرى أن الواقع ليس قاتما كما وصف، ربما لدينا، أو لدي أنا شخصيا، ما يبعث التفاؤل في النفس، فعند باب شقتي الصغيرة يستقبلني "حمزة" الصغير بضحكة يملؤها حبور وتحيطها لهفة، وبعده بسنتيمترات رفيقة دربي، تربت روحي وفي عينيها محبة وفي قلبها قناعة، تلثم جبهتي بشبع، وتسألني عن أحداث يومي الذي يمثل لبنة في صرح رحلتنا التي بدأناها بوفاق واستكملناها برضا وسننهيها بسلام نفسي.. على مكتبي مجموعتي القصصية التي كتبتها لأقرأها وحدي، وبجانبها مذكراتي الخالية إلا من بضع "شخابيط"، كلها مظاهر باعثة على السرور.
حياتي حقا مليئة بسعادة خاصة، لست ناقما على أحد سواي، لأني لم أكن متلونا بما يكفي، ولم أكن منبطحا أو منافقا بقدر ما تتطلبه المرحلة، وهذا في حد ذاته يبعث على الفخر.. "طوبى للغرباء" القانعين بالحال رغم ضيقه، السائرون في ركاب السعادة حتى لو ضيَق عليها في الطرقات كل متسلق.. لعل الشيء الوحيد الذي ينغص عليّ مشاعر الفرح أن حواسي أصبحت مشبعة باليأس لدرجة جعلتها تُخرج كل فعل مستسهل كما تخرج روح الكافر من جسده، لكني، رغم كل شيء، قانع بذلك منها، مسامحا لها في قصورها، ممهدا لها الآمال بمقولة "ذلك الوقت سيمضي".