اعلان

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن صوت العرب .. إلى ذكرى الراحل الكبير عبد العظيم مناف

عبد العظيم مناف
عبد العظيم مناف

أغلقت صحيفة "مصر الفتاة" بعد صدور عشرات الأعداد منها. وبصرف النظر عن الملابسات التي أحاطت بإغلاقها، فهي تجربة صحفية فتحت لمن تدرب فيها آفاقًا واسعة. فقد خرج من صالة تحرير "مصر الفتاة" نجوم لمعوا في سماء الصحافة، وأصبحوا علامات بارزة في مؤسسات صحفية داخل وخارج مصر. ونفس هؤلاء الذين شكلوا قوة العمل في صحيفة "مصر الفتاة" انتقلوا بعد إغلاقها للعمل في إصدار جديد من صحيفة "صوت العرب".

ولعلي حبي الكبير للاستاذ طلعت اسماعيل يسمح لي بأن انقل عنه الظروف التي انتقل فيها فريق العمل الذي أصدر صحيفة مصر الفتاة لصحيفة صوت العربي، يقول الاستاذ طلعت اسماعيل عن هذا الانتقال الذي لا يمكن وصفه إلا أنه مرحلة من مراحل نضال الصحافة المصرية في وجه الغلق والاستبداد : (وفي ليلة من أغسطس عام 1992 كنت أجلس والزملاء عماد الدين حسين، وأكرم القصاص، وعادل السنهوري، وحمدي عبد الرحيم، وسعيد شعيب، فوق سطح عمارة قرب مبنى محافظة الجيزة، كان يضم شقة من غرفتين وصالة، وأمامهما الفضاء الفسيح، كنا نلوك حظنا العاثر بعد أن أغلق نظام مبارك، صحيفة «مصر الفتاة» عقب تجربة كانت حافلة بالعمل والأمل أيضا بالنسبة لنا كصحفيين في بداية مشوارهم المهني.. كان بعضنا متعطلا يمضي وقته في القراءة واقتسام لفائف التبغ مع رفيقه، فيما كان العدد الأقل قد تسلل إلى بعض مكاتب الصحف العربية في القاهرة لتدبير ما يمكن أن يسد أود الراقدين فوق السطح تظلهم سماء الله العالية.. وفجأة طرق الباب في وقت غير متوقع.. قام أحدنا وأظنه حمدي عبد الرحيم متثاقلا لفتح الباب ليعود وخلفه الصديق العزيز رمضان دياب أحد الأركان الأساسية في «صوت العرب»، وقبل السلام والترحيب قال في نفس واحد: «الأستاذ عبد العظيم يبحث عنكم».. قلنا خيرا، فرد: «صوت العرب» ستعود من جديد ) .

وصحيفة "صوت العرب" أصدرها الصحفي الراحل الأستاذ عبد العظيم مناف، الذي كان، بلا شك، من أخلص الرجال الذين عرفتهم في حياتي. كان يتمتع بإلتزام صارم بمبادئه، حتى لو كلفه ذلك خسارة المال والحرية.

أسس الراحل الكبير الأستاذ عبد العظيم مناف دار "الموقف العربي" في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وكانت الدار بإصداراتها منبراً فكرياً وسياسياً وثقافياً عربياً بامتياز، وحملت لواء المعارضة لارتماء السادات في أحضان أمريكا وإسرائيل.

وقد يكون اسم "صوت العرب" مقرونًا في أذهان الأجيال بالإذاعة، ولكن في الحقيقة، كانت "جريدة صوت العرب" لم تحصل على حقها من الانتشار في مصر بسبب حظر طباعتها داخل البلاد على خلفية العناد المتبادل بين مناف وحسني مبارك. فمناف لم يكن ليبدي مرونة فيما يتعلق بمواقفه الرافضة لسياسات مبارك. وحتى خارج مصر، كانت الصحيفة ممنوعة من التداول في معظم الدول العربية بسبب هجومها الشديد على السعودية، وإصرار مناف على كتابة عنها باسم "نجد والحجاز".

لهذا اضطر مناف لطباعة صحيفته في لندن، ولم يكن مسموحًا بتوزيعها إلا في بعض الدول الغربية. حتى نحن الذين كنا نعمل في الصحيفة، لم يكن يصلنا منها إلا أعداد محدودة عبر البريد الدولي.

عاش عبد العظيم مناف حياة حافلة بالنضال من أجل الحقيقة والحرية. تعرض للاعتقال عدة مرات، كان أبرزها خلال أزمة سبتمبر 1981. وتم إغلاق صحيفته عدة مرات. وفي النهاية، رحل عبد العظيم مناف تاركاً إرثاً كبيراً في عالم الصحافة والإعلام. فكان رمزاً للنضال من أجل الحقيقة والحرية، وكان صوته مسموعاً في الدفاع عن القضايا العربية. لقد أثبت أن الصحافة الحرة قادرة على أن تكون قوة مؤثرة في تغيير المجتمعات.

والحق يقال إن الراحل الكبير عبد العظيم مناف كان أشرف وأنبل شخص قابلته خلال فترة تدريبي في الصحافة المصرية. لم يكن مناف من تجار الصحافة، بل كان يؤمن بأن الصحافة رسالة سامية. واستمر في فتح مقر دار النشر التابعة له في حي جاردن سيتي الراقي، ليقدم للقراء من جميع الأعمار فرصة القراءة مجانًا.

كان للراحل موقفًا مثاليًا لا أنساه. عندما كنت طالبًا في كلية الإعلام، قاطعتُ مناف في إحدى المناسبات، فحياني على شجاعتي. رغم ذلك، شعرت بالندم لاحقًا عندما أدركت عظمة هذا الرجل وتضحياته.

وفي كل الأحوال، فبحكم حداثة سني في ذلك الوقت، لم أكن قادراً على أن أحكم بشكل صحيح على الأمور. وعندما عدت لمصر بعد سنوات، وجدت نفسي أشعر بحزن عميق على ما بدر مني تجاه الرجل الذي لم أعرف قدره في حياته.

كان للراحل مواقف مثالية ، ولا أزال أتذكر كيف كان يقف شامخًا في جلبابه الصعيدي بعد انتهاء يوم عمل طويل، عندما يتوجه إلى مسقط رأسه في الصعيد رغم أنه كان يسكن حي جاردن سيتي الراقي.

ووفقًا لكل الروايات الموثقة التي لا أنكر صحتها، فقد مُنعت صحيفته "صوت العرب" من الطباعة والتوزيع في مصر بقرار رئاسي من حسني مبارك. وفي الوقت نفسه، كان وزير الإعلام صفوت الشريف يقدم لعبد العظيم مناف عروضًا مغرية، ليس لإرضاء مبارك فحسب، بل لتخفيف حدة انتقاداته للمملكة العربية السعودية. إلا أن مناف، الذي كان يتمتع بمبادئ راسخة، رفض كل هذه العروض وأصر على مواقفه.

أمام إصراره على مواقفه، اضطر مناف إلى طباعة صحيفته في لندن، ثم إرسالها إلى مصر عبر البريد الدولي، رغم الصعوبات التي واجهها. في ذلك الوقت، كنت طالبًا في كلية الإعلام، ولم أكن أدرك تمامًا عظمة هذا الرجل وتضحياته. في لقاء جمعني بالدكتور محمود بشر، أمين عام نقابة المهندسين آنذاك، فوجئت به وهو يصف الأستاذ مناف بأنه مجاهد. وكان هذا الأمر مثيرًا للدهشة، خاصة وأن الدكتور بشر كان ينتمي لجماعة تناصب التيار القومي العداء.

ويكفي أن نقول إن عبد العظيم مناف كان قد فتح الباب لأسماء تتلمذت على يده من بينهم فتحت الباب على مصراعيه أمام نجوم السبعينيات والثمانينيات في الصحافة المصرية، فضلاً عن الرواد الكبار الذين كتبوا في "الموقف العربي" وارتبطوا بها كفتحي رضوان وكامل زهيري ومحمد عودة ورجاء النقاش ومحمود المراغي ونجاح عمر وعبد الله إمام وعلي الراعي ونعمان عاشور ونجيب سرور وفؤاد حداد والفيتوري والطيب صالح ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد الماغوط ومظفر النواب ويوسف القعيد وجمال الغيطاني وحسنين كروم وضياء الدين داود وعبد الوهاب الزنتاني وفريد عبد الكريم وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود القاضي ومحمد مهران السيد وأمل دنقل ونديم البطار وعصمت سيف الدولة ومحمد الماغوط وغيرهم وغيرهم كثير.

فتحت المجلة أبوابها لجيل السبعينيات الطالع والمصادر في الصحافة الرسمية فاحتضنت كتابات محمد سعيد إدريس ومصطفى بكري وجمال القصاص وحسن طلب وحلمي سالم ورفعت سلام وفاروق بسيوني وأحمد ثابت وضياء رشوان وأحمد عز الدين وعبد الله السناوي ومحمد حماد وعبد الحليم قنديل وحمدين صباحي وأحمد عبد الحفيظ وأحمد الصاوي ومجدي رياض وسيد حسان وسيد زهران وعزازي علي عزازي وغيرهم وغيرهم، وعدد كبير من كوادر مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام، بالإضافة إلى نجوم الثمانينيات مثل عبد الفتاح طلعت وعادل السنهوري، وخالد صلاح وعماد الدين حسين وطلعت إسماعيل وأشرف عبد الشافي وحمدي عبد الرحيم وسعيد شعيب وتهاني تركي وناهد السيد وبهاء حبيب وغيرهم كثيرون.

كان الرجل يبيع أملاكه ليوفر مرتبات هؤلاء الصحفيين، بدون أن نشعر بأن الرجل يعاني مالياً بعد أن أغلق مبارك كل أبواب الإعلانات والتوزيع عليه، ولم نكن ندرك في شبابنا، عن جهل مطبق بالتأكيد، قيمة هذا الرجل العظيم.

كان الرجل كأنما سقط علينا من سماء زمن آخر، يترنم بلهجة فصيحة كأنها أنشودة قديمة، ويختار كلماته بعناية فائقة. لم ينادِ أحدًا بغير لقب "بك"، حتى لو كان صبياً يافعاً، وكأنه يحمل في قلبه ملكًا لا يتنازل عنه. ورغم بساطة أصوله الريفية، إلا أنه كان يبعث في النفس هيبة الأرستقراط القدماء، الذين صنعوا أمجادهم بأنفسهم، ثم ورثوا لأبنائهم سلالة من الأخلاق الفاضلة والكرامة.

فمن رحم دار "الموقف العربي" بكل إصدارتها خرجت أسماء لامعة، كأنها نجوم تلالأت في سماء الأدب والصحافة. لكن الغريب أن كل هؤلاء النجوم، رغم سطوعهم، نسوا النجم الذي أضاء لهم دربهم. ففي زحمة الشهرة والنجاح، نسوا يد العطاء التي مدت إليهم، ونسوا القلم الذي رسم لهم أولى خطواتهم، فلم لم يتذكر بعضهم صاحب البدايات، أو تناساه، فقضى عبد العظيم مناف سنواته الأخيرة بلا منبر يضع فيه قلمه، رغم أن القائمين على بعض هذه المنابر هم من تلاميذه .

ولعلي هنا أجد نفسي استشهد بما كتبه الدكتور عمار علي حسن عن هذا الموقف المؤلم حين قال : (في الصحيفة والمجلة اللتين أتيت على ذكرهما سابقا، وكذلك في مجلة "الموقف العربي"، التي أسسهما مناف أيضا، تخرج كثيرون، وصاروا أعلاما في الصحافة والكتابة. بعضهم نسي قديمه، وبالتالي لم يعد يتذكر صاحب البدايات، أو تناساه، أو لم ينشغل كثيرا بما آل إليه حال الرجل، الذي قضى سنواته الأخيرة بلا منبر يضع فيه قلمه، رغم أن القائمين على بعض هذه المنابر هم من تلاميذه، الذين يدركون جيدا أنه بدون الدفعة التي منحها الرجل إياهم، ما كان بوسعهم أن يقطعوا هذا الشوط البالغ، ويحرقوا مراحل، في طريقهم إلى الإمام.

تحدثت مع أحدهم ذات يوم:

ـ كيف تتركون الأستاذ عبد العظيم مناف بلا مكان يستوعب قلمه؟

ابتسم ورد في هدوء:

ـ عندك ألف حق.

وانتظرت أن أرى صدعه بالحق مترجما إلى فعل، لكن هذا لم يجر، ليظل الرجل حتى آخر يوم في حياته بلا منبر يستوعبه، أو يستكتبه، وهذا أمر يدعو للأسف والخجل في آن.

كنت في طلبي هذا بريئا مخلصا، مجردا من كل ما قيل ويقال، عن رهانات الرجل وارتباطاته، فهو في النهاية كاتب صحفي مصري كبير، وصاحب تجارب في الصحافة، كانت في يوم من الأيام تلمع في عيون الجميع، ويشار إليها بالبنان، وهو، حتى مع تقدم السن به، ظل لديه ما يقوله ويكتبه.

هكذا، كنت أتحدث بدافع إنساني عن أستاذ كبير تركه تلاميذه على قارعة الطريق، ومنعه إبائه من أن يعاتبهم، أو يأتي على ذكرهم بسوء أبدا، وكانوا يعرفون ما ارتكبوه في حقه من ذنب، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراف، أو يقدم على التوبة، ويدرك أن "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

نعم كان ذنباً ألا يجد مناف مكاناً للكتابة، ومن جرب حال الأصابع وهي تعانق القلم في محبة وإخلاص، يدرك مدى المعاناة التي يشعر بها من حرمته الظروف من أن يطل على الناس عبر صفحات جريدة أو مجلة ) .

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً