اعلان

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. محمد مختار يكتب عن نهاية التاريخ للصحافة الورقية

مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ

قد نكون نحن الجيل الأكثر حظًا، فنحن الجيل الذي شهد نهايات كل شيء تقريبًا بعد أن عاش في ذروة كل ما انتهى. عاش جيلنا ذروة أفكار انتهت على أرض الواقع بعد أن فشلت في أن تتحول إلى واقع يعيشه الناس، وشهد جيلنا نهاية دول وتفكك قوى عظمى كان مجرد الحديث عن ضعفها في بدايات جيلنا ضربًا من الخيال. تفككت هذه الدول وانتهت بلا رجعة أفكار وأحزاب وجماعات كانت في بداية جيلنا لها السطوة في صفوف الشباب، وحتى ما تبقى من هذه الأحزاب والجماعات بقى مثل شبح لا يمكن أبدا أن يستعيد مجده الزائل. وليس ببعيد عن كل قارئ استحضار الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية تملك قوة عسكرية كاسحة، ولكن برغم هذه القوة تفكك وتناثرت دوله إلى دول بعضها يحارب بعضه، وتحولت الماركسية من فكر مهاب إلى ذكرى في كتب التاريخ.

وتبع هذا الانهيار تفككت دول وأحلاف كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق، منها في عالمنا العربي اليمن الجنوبي، الدولة الماركسية الوحيدة في العالم العربي، الذي اختفى من الخريطة السياسية واندمج مع اليمن الشمالي. ثم لم يتحول اليمن إلى مناطق لكل منطقة حكومة تدير الأمر فيها، ولا يزال الاقتتال بينهم حتى الآن. وعلى مرمى حجر من القاهرة تفكك السودان الحبيب إلى سودان جنوبي وسودان شمالي، ثم لا يزال السودان الشمالي يتقاتل حتى وقت كتابة هذا الكتاب، وقد ينقسم بدوره إلى دويلات أو يختفي من الخريطة. وفي العراق وسوريا حدث ما نعرفه جميعًا وانتهى حزب البعث بلا رجعة وهو الحزب الذي كان مجرد الحديث عن تخليه عن السلطة في البلدين ضربًا من الخيال.

فنحن الجيل المحظوظ الذي شهد بعينه نهايات كل شيء ووصل ليقين الحقيقة من كنا شبابًا نتطلع إلى الدنيا بقلوب مفتوحة وعقول تتلهف على كل فكر جديد. ولأننا لم نكن نستطيع في معظم الحالات شراء الكتب، فقد كانت الصحف هي نافذتنا لنطل منها على كل فكر جديد، نقتطع من مصروفنا القليل ما نشتري به أكبر عدد من الصحف حتى نتعرف من خلال هذه الأوراق الصفراء المطبوعة بأحبار رديئة على العالم الواسع الفسيح الذي كنا نسمع عنه من خلال الإذاعات قبل أن تظهر الفضائيات وتنتشر. كان من بيننا من يلتهم مقالات الرأي في صحيفته المفضلة، ومن يفتح صحيفته فورا على الصفحة العالمية، ومن يبدأ وينتهي بصفحات الرياضة. كان عدد الصحف يزيد كل يوم وتزيد معه الأفكار والاختيارات. وبعد فترة تمكنا من شراء المجلات مع الصحف، وفي كل مرة تتسع مداركنا تتفتح أعيننا على صحف جديدة نشتريها أو نعمل في تحريرها.

إن هذه المقدمة التي لم أكن أود أبدًا أن أكتبها هي في حقيقة الأمر مرثية لشكل من أشكال الصحافة التي قامت على الورق. ولكن ما حدث هو أنه عندما اختفى الورق كوسيط لإصدار الصحف، فإن البديل، وهي الصحافة الرقمية، وإن كانت حققت نجاحًا في الغرب، لكنها في مصر وكثير من الدول العربية لم تجد جمهورًا يثق في "الجورنالجية" القدامى، الذين حاولوا، يائسين، كسب ثقة جمهور أصبح في مقدوره هو نفسه أن ينتج صحافته الخاصة. وتحول مصطلح المواطن الصحفي من مصطلح نظري نسمعه إلى بشر من لحم ودم، أناس من مختلف الأعمار، شابات وشباب، كل منهم تحول، من دون قصد، إلى بديل للصحافة التقليدية.

لقد مهدت وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، الطريق أمام ظهور ما يسمى بـ"صحافة المواطن". فبفضل قاعدة مستخدمين ضخمة تقارب النصف مليار، أصبح بإمكان أي شخص أن يكون صحفيًا، حيث يمكنه إنتاج الأخبار ونشرها وتبادلها مع الآخرين في الحال، مما أحدث تغييرات جذرية في المشهد الإعلامي التقليدي.

وبدون التطرق لحجج نظرية حول ما حدث، فإن نظرة واحدة لما آل إليه حال باعة الصحف تكشف لنا ما حدث. فبدون أي شك، أصبح باعة الصحف بدون بضاعة يبيعونها، ونقصد بالبضاعة الصحف الورقية. مع تقديرنا لمكانة الصحيفة، سواء جريدة أو مجلة، لقد كان باعة الصحف الأكثر نفوذًا بين باعة الأرصفة والميادين لأنهم كانوا يبيعون سلعة لا يمكن مصادرتها من حملات البلدية. وكان كل بائع صحف يستطيع أن يبيع الصحف في أي مكان يراه مناسبًا بشرط أن يدفع للمؤسسة الصحفية التأمين المالي الذي يمكنه من الحصول على حصته من إصدارات المؤسسة، استنادًا إلى نفوذ المؤسسة التي تمنع مصادر بضاعتها من إصدارات أخرى. ولكن مع التراجع الدرامي في توزيع الصحف، فقد هؤلاء الباعة لبيع السجائر والخردوات، واضطر أصحاب أكشاك الصحف التي كانت تميز القاهرة والمدن الرئيسية في المحافظات إلى تحويل أكشاكهم من أكشاك تبيع الصحف إلى أكشاك للسجائر والحلويات.

وبينما تأقلم باعة الصحف مع المعطيات الجديدة، لم يتمكن الجورناليون، مع الأسف، من التحول كما تحول باعة الصحف. لأن الجورناليين، ببساطة، لم يعد لديهم ما يقدموه للناس الذين انصرفوا عنهم إلى عدد لا نهائي يتوالد كل يوم بل كل ساعة من الصفحات الإخبارية التي لا يمكن وضع ضوابط للتحكم فيها أبدًا. وهي صفحات غير مهنية بالتأكيد وكثير منها غير موثوق، ولكن في نفس الوقت هي صفحات تنبض بالحياة ولا تعرف الضوابط التحريرية التي تقيد كل المؤسسات، وبعض هذه الضوابط تحول إلى رقيب داخل كل صحفي. هي صفحات تنبض بالحياة بحلوها ومرها وبصدقها وكذبها. فنظرة واحدة على ما آل إليه حال باعة الصحف واختفاء الصحف الورقية من على الأرصفة والأكشاك سوف ندرك الحقيقة التي تدفن كل المؤسسات الصحفية رؤوسها في الرمال حتى لا تراها، وهي أن إصداراتها الورقية لم يعد يشتريها أحد، وأن هذا الجيل من الصحفيين شهد نهاية التاريخ للصحافة الورقية.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
دون أي ضغوط.. "التعليم" تكشف تفاصيل تطبيق نظام البكالوريا الجديد