عندما تضيق الدنيا بالصحفيين في مصر، لا يكون لديهم من الخيارات إلا خيارات قليلة، من بينها السفر للعمل في صحف خارج البلاد. وفي صالات التحرير خارج مصر، كان لنا صداقات مع زملاء من دول وجنسيات عربية وغير عربية. واتيحت لمعظمنا الفرصة للطواف في دول، هي على اختلافها، ليس لها نصيب في قلوب من يعمل بها إلا الارتباط بالعمل. ولكن، في كل صالات التحرير التي عملت فيها خارج مصر، كانت مصر في القلب. ولعل الفيلم الشهير 'عسل أسود' هو ما يصف علاقة المحبة الخاصة بين المصريين وبين مصر، بالرغم من كل السلبيات والآلام.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
فمصر ليست مجرد وصف في خانة الجنسية، وليست مجرد إقليم نعيش فيه. وأي مصري جرب حياة الغربة يعلم أن المصري يختلف عن اللبناني وعن السوري وعن المغربي أو أي جنسية أخرى تعتاد الغربة وتتعايش معها، وتعتبر أن بطاقة الصراف الآلي هي بطاقة هويتها بصرف النظر عن نوع هذه البطاقة. وليس أدل على ذلك من أن المصري الذي يقضي عمره كله خارج مصر يحرص كل الحرص على أن يشتري لنفسه مدفنًا في مصر، على أمل أنه سوف يعود في نهاية تغريبته لوطنه ليموت ويدفن فيها.
وبين الدمام في أقصى نقطة على الخليج العربي وكازابلانكا في أقصى نقطة على المحيط الأطلنطي، كانت تجربة الغربة ثرية ولكن مؤلمة. ولكن في كل الأحوال، فقد كانت الفرصة سانحة للاستفادة من مدارس صحفية مختلفة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
وبالأساس، ظهر الخلاف بين المؤسسات الصحفية في دول عربية حولنا وبين المؤسسات الصحفية المصرية في أن المؤسسة الصحفية المصرية تنفرد بإعلاء شخصية رئيس التحرير فوق شخصية الإدارة، بينما تعلي المؤسسات الصحفية في دول حولنا من الدور الذي تقوم به الإدارة، بشكل رأيت أنه يخل بسلامة العملية الصحفية. ومع الأسف، فإن دور رئيس التحرير في المؤسسات الصحفية في المشرق العربي يكاد يكون قاصرًا على تسيير الأعمال اليومية في صالات التحرير، وحتى الدور السياسي فهو بالكاد يقتصر على الظهور في المناسبات الرسمية بدون أي تأثير يذكر، بينما يظل دور المدير العام في هذه المؤسسات هو الفاعل الحقيقي في كل ما يتصل بالصحيفة، حتى ما يتعلق بوضع وتوجيه السياسات التحريرية. ويظل دور رئيس مجلس الإدارة شرفيًا كملك يملك ولا يحكم. وأذكر مع الأسف أحد الاجتماعات مع المدير العام لصحيفة يومية سعودية كبرى، أن توجيهه لجهاز التحرير تخلص في جملة قصيرة مزعجة ولكنها كانت القانون الذي لا يمكن أن ينقاشه رئيس التحرير، واختصر هذا الرجل دور الصحفيين في صحيفته بأنهم: 'يقومون بملء الفراغات بين الإعلانات بالمواد التحريرية'!
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
وهكذا اختصر هذا الشخص السياسة التحريرية في كلمات قصيرة موجزة. ولذلك، لم يكن غريبًا ونحن نرسم الصفحات اليومية في الصحيفة أن نستبعد حوارًا لشخصية مؤثرة في المجتمع لصالح إعلان جاء في الدقيقة الأخيرة قبل خروج الصحيفة من قسم الإخراج للمطبعة. وحتى المواد التي تخص القسم الاقتصادي لم تكن لتنشر بدون أن تكون موادًا مدفوعة بالأساس. وباستثناء الأخبار التي تخص الدولة ونحصل عليها من الوكالة الرسمية، فلم يكن هناك صحافة من أي نوع ولا محتوى يمكن التعويل عليه باعتباره موادًا صحفية حقيقية، بخلاف أنها قد تتخذ شكلًا من الأشكال الصحفية المتعارف عليها بين خبر وتقرير وتحقيق. ولكن، عند التدقيق في المحتوى، فإننا لا نجد فيه محتوى صحفيًا من أي نوع.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
ولكن في كل الأحوال، فإن المؤسسات الصحفية في الخليج هي مؤسسات راسخة من حيث الهيكل المالي والإداري، وقد تكون راسخة أيضًا من حيث التقاليد التي تحكم العلاقات المؤسسية داخلها، ولكن لا أظن أنها تستهوي الصحفي الحقيقي إلا بقدر ما يحصل عليه من راتب وقت عمله في مثل هذه المؤسسات. وفي الوقت نفسه، فإن المؤسسات الصحفية في الخليج استطاعت أن تسبق المؤسسات المصرية في أدوات الإنتاج الحديث، سواء من حيث توظيف الرقمنة في دورة إنتاج المواد الصحفية أو من حيث تطوير الطباعة وتوظيف الطباعة الملونة في كل الصفحات الداخلية من هذه الصحف، على خلاف الصحف المصرية التي لا تستطيع مجاراة ذلك لأسباب مالية. وفي الوقت نفسه، فإن اعتماد الصحف في معظم الدول الخليجية على الاشتراكات المدفوعة مسبقًا، سواء من الجمهور العادي أو من المؤسسات التي تشترك بناءً على اتفاق غير مكتوب من جانب الحكومات في هذه الدول لدعم هذه الصحف، هذا الاعتماد جعل هذه الصحف لا تعاني من أزمة مالية في ذلك الوقت، وهي الأزمة المالية التي عصفت بها بعد ذلك مع نهاية التاريخ للصحف الورقية.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
وبدون شوفينية وأيضًا بدون تواضع، يمكنني أن أقول إن الصحفي المصري هو سيد صالات التحرير في كل الصحف التي عملت بها، على الأخص في الخليج. وقد حاولت هذه المؤسسات الاستعانة بمحررين من السودان ومن الأردن بدون أي فائدة في أن تستغني عن 'محرر الديسك المصري'. ومع الأسف، فإن ما يشاع عن تفوق الصحافة اللبنانية على الصحافة المصرية هو محض افتراء لا أساس له من الواقع. وقد يكون هناك التباس عند البعض بين التفوق الفني والإخراج والطباعة للمجلات اللبنانية الملونة، وهذا هو الالتباس الذي يدفع البعض من غير المتخصصين أو المهنيين للاعتقاد بتفوق بشكل أو بآخر للصحافة اللبنانية. ولكن بمجرد نظرة لمحتوى الصحف اللبنانية، فإن هذا المحتوى يتهافت على الفور، سواء من حيث حرفية وصحة الأشكال الصحفية أو قوة المحتوى، إذا ما قورن مقارنة موضوعية مع محتوى أضعف الصحف المصرية
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ .. من الدمام إلى كازبلانكا .. وبالعكس !
ولعل خلاصة التجربة الصحفية في دول الخليج هي أن الصحافة هي زهرة لا يمكن أن تنمو إلا في مناخ الحرية والتنوع الثقافي، وحتى الصراع. فقد يكون الصراع في بعض الحالات هو القوة الدافعة وراء إنتاج المحتوى الصحفي بشكل متفرد أو متفوق. ولا أظن أن هناك تجربة صحفية خليجية قد نجحت في الاستمرار إذا فكر القائمون عليها في مجرد التغيير. ولعل تجربة صحيفة 'شمس' في السعودية هي دليل عملي لا يقبل الدحض على ذلك. فقد صدرت صحيفة 'شمس' في قطع وإخراج ومحتوى يشبه صحيفة 'صن' البريطانية الشهيرة، وحققت هذه الصحيفة في أعدادها الأولى نجاحًا مشهودًا بطريقة كتاباتها واختياراتها للموضوعات التي تلفت انتباه القارئ. ولكن كان هذا النجاح هو السبب المباشر في أنها تعرضت للإغلاق حتى قبل أن تكمل عددها العاشر. ومن تجربة 'شمس' إلى تجارب أخرى لم يكتب لها الاستمرار بسبب غياب مناخ الحرية، فإن تجربة العمل الصحفي في الخليج هي مجرد تجربة 'مالية' فقط للحصول على بطاقات ائتمان تسمح للصحفي بالحصول على أموال من كل الفئات من كل ماكينات الصراف الآلي بالمطارات والمدن التي يتنقل فيها خلال تغريبته. وكان توالي إغلاق مثل هذه التجارب الجريئة إيذانًا لنا أو رسالة لنا بأن نتحرك للغرب قليلًا، فطارت بنا الطائرة في رحلة طيران طويلة فوق مصر التي نظرنا لها من النافذة وقلوبنا تنفطر أننا لن نهبط في أرضها، ليحط بنا طائرة الغربة في كازابلانكا، ولهذه التغريبة قصة أخرى تطول!