في العصر الثاني الذي عشناه في بلاط صاحبة الجلالة ظهر متغير جديد وحاسم بعد أن ساعد انتشار الوعي أجيالا جديدة من الشباب على تصنع صحافتها الخاصة، وقد كان ظهور المدونات الأخبارية مع بداية الحرب الأمريكية الثانية ضد العراق، عاملا إضافيا في العوامل التي ساعدت على سرعة تداعي الوسط الذي تعمل فيه الصحف الورقية، وتاريخيا ظهر مصطلح 'مدونة' كمصطلح تعليمي في السودان لأول مرة في أربعينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1947، في سياق العملية التعليمية. وكانت المدونة حينها عبارة عن دفتر بسيط يوزع على طلاب المرحلة الابتدائية، ليقوموا بتدوين ملاحظاتهم اليومية ورسم رسوماتهم. هدفت هذه الممارسة إلى تنمية مهاراتهم اللغوية وتشجيعهم على التعبير عن أنفسهم بحرية .
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
لكن في عام 2002 عاد مصطلح المدونة ليدل على شكل جديد من أشكال التدوين الاعلامي، ففي هذا العام ظهرت مدونات تدعم الحرب على العراق، حيث استخدمها مؤيدوها كمنصة للتعبير عن أرائهم وتبرير قرار شن الحرب. وفي عام 2003 شهدنا تزايدًا ملحوظًا في عدد المدونات التي تعارض الحرب، حيث استغلها الكثيرون للتعبير عن رفضهم لهذه الحرب، بما في ذلك شخصيات سياسية أمريكية بارزة مثل هوارد دين. كما اهتمت مجلات مرموقة مثل فوربس بتغطية هذه المدونات، مما زاد من وعي الرأي العام بها.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
وتزامن ظهور المدونات ونموها في أواخر التسعينيات مع ظهور أدوات النشر على الويب التي سهلت نشر المحتوى من قبل المستخدمين غير الفنيين الذين لم يكن لديهم الكثير من الخبرة في HTML أو برمجة الكمبيوتر. في السابق، كانت المعرفة بتقنيات مثل HTML وبروتوكول نقل الملفات مطلوبة لنشر المحتوى على الويب .
وفي نفس الوقت ساهم معهد آدم سميث البريطاني في ترسيخ مكانة المدونات كأداة للتعبير عن الآراء السياسية، وذلك من خلال دعمه لهذه الوسيلة وتشجيع الكتاب على استخدامها. وبعد الغزو الأمريكي للعراق، ظهرت مدونات يكتبها عراقيون يعيشون داخل العراق، حيث قدموا روايات حية عن حياتهم اليومية تحت ظل الاحتلال، وعن الأيام الأخيرة لنظام صدام حسين، واكتسبت بعض هذه المدونات شهرة واسعة، وحظيت بملايين القراء، مثل مدونة 'أين رائد' للكاتب العراقي سلام الجنابي، والتي ترجمت إلى عدة لغات.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
وكان من الممكن أن تكون هذه المدونات شكلا جديدا من الإعلام، ولكن ظهرت نقطة التقاء حرجة بين العمل الصحفي والتدوين، وهى أن مئات الجنود الأمريكيين الذين كانوا يخدمون في الجيش الأمريكي بالعراق بدأوا بدورهم في إنشاء مدوناتهم ونشر يوميات الحرب كما يعيشونها، وهنا ظهر مفهوم جديد للمراسل الصحفي، ولأن الجنود المدونون هم أقرب للأحداث بطبيعة الحال، وفي ظل تسامح نظام الجيش الأمريكي مع قيام جنوده بنشر أنباء وصور من مواقعهم، وهنا تفوق المواطن الصحفي، الذي يمثله الجنود، على الصحفيين المهنيين الذين يفترض أنهم يعملون مراسلون حربيون، بل أن المراسلين الحربيين المهتمين بحرب العراق بدأو في نقل أخبار الحرب في العراق عن هؤلاء المدونين، وبعد نجاح تجربة الجنود الأمريكيين في العراق انتشرت المدونات على نطاق واسع، وبدأت مدونات عامة ومتخصصة في الانتشار على نحو مدهش، لدرجة ان بعض الصحفيين المهنيين انضموا لمجتمع المدونات، وظهرت مدونات عامة ومتخصصة بعضها قدم محتوى يتفوق على المحتوى الذي تقدمه الصحف التقليدية والصحفيون المهنيون.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
وموضوعيا لا يمكن وصف هذه الصفحات بأنها صحافة تقليدية أو حتى صحافة مستحدثة، بل أن أقرب وصف لها هى أنها شكل من اشكال خروج جمهور الصحف التقليدية، وحتى الصحف الرقمية، من دائرة التأثير الذي فقدته صاحبة الجلالة، ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت أن مؤسسات صحفية عريقة عاش عليها جيلنا وأجيال سبقتنا، سوف تنتمي قريبا للتاريخ وقد تتحول مبانيها العتيقة في وسط القاهرة لمعالم تاريخية تخبر الأجيال الشابة عن زمن كان فيه الناس ينتظرون بائع الصحف من الليلة السابقة على طلوع النهار ليشتروا صحيفتهم الورقية المفضلة، لأنهم ببساطة كانوا لا يطيقون صبرا لطلوع النهار للحصول على الصحيفة.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
ففي هذا العصر برزت ظاهرة جديدة ألا وهي نشوء مجتمع من المواطنين الصحفيين. فمع تطور التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان أي فرد أن ينتج محتوى صحفيًا وينشره على نطاق واسع، مما أثر بشكل كبير على طبيعة العمل الصحفي ودوره في المجتمع.
وفي الوقت نفسه، عانت الصحف المطبوعة من أزمة حقيقية تتمثل في تراجع حاد في مبيعاتها وإعلاناتها. يعود ذلك بشكل رئيسي إلى ظهور منافسين أقوياء في شكل الإعلانات الرقمية التي تتميز بالسرعة في النشر والمرونة في تغيير الرسائل واستهداف جمهور محدد بدقة. هذه الميزات جعلت الإعلانات الرقمية الخيار المفضل للكثير من المعلنين، مما أدى إلى سحب جزء كبير من الإيرادات التي كانت تعتمد عليها الصحف الورقية.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
وللحقيقة فإن الصحافة في الغرب قد انتبهت مبكرا لما ينتظر الإصدارات الورقية منها، فطورت هذه الصحف وسائطها الرقمية بشكل مذهل، بل وحتى مع الانفجار الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد نجحت الصحف الغربية في أن تستفيد من صفحات الفيس بوك وغيرها من وسائط التواصل الاجتماعي في أن تتحول هذه الوسائط لمصدر للدخل للصحف كما استفادت من قبل ذلك بالربح من إعلانات الانترتت، ولقد جعل هذا الدخل الصحف الغربية قادرة على الاستمرار، وبعضها لم يوقف الإصدارات الورقية الأصلية، بل وظلت ارقام التوزيع للإصدارات الورقية من هذه الصحف والمجلات أرقام ذات شأن، وحتى الصحف التي تخلت عن إصدارتها الورقية فقد نجحت في أن تصنع صحافة رقمية فائقة التطور.
مُذَكَّرَاتُ جورنالجي بَيَّنَ عَصْرَيْنِ: العصر الثاني في بلاط صاحبة الجلالة .. ظهور المدونات وصعود المواطن الصحفي
ولحسن الحظ فقد ظهر في الصحافة العربية أشخاص نابهون نجحوا في صنع صحف رقمية متميزة ، وظهرت تجارب مبدعة في فترة قصيرة، وكان يمكن لهذه التجارب أن تتخذ لنفسها نفس مسار التطور الذي لحق الصحف الغربية التي تحولت للإصدار الرقمي، واستفادت في نفس الوقت من منجزات ثورة الاتصالات وما ظهر من تطور متسارع في وسائل الاتصال الاجتماعي، ولكن يبدو أن هناك ما أعاق استمرار هذه التجارب المبدعة، وهذا حديث آخر ذو شجون .